الخميس، 28 يوليو 2016

السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي 5

السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي 5



خامسا: الخليفة ورعاياه المسلمون

كما رأينا في أعلاه، فقد كان لأبي الهدى مصلحة شخصية في إبقاء الحكم ألحميدي وتعزيزه. وبالنتيجة، وبما إن أسس الحكم كانت ادعاء السلطان بالخلافة المعظمّة، فإن واحدا من أوائل اهتمامات أبي الهدى الدفاع عن هذا الادعاء، ودعوة المسلمين العرب إلى تأييده.

وكان أصدقاء أبي الهدى يؤكدون إنه ”بحكمته... قاد قلوب العرب... لمشايعة الخلافة وليربطهم بالولاء لقائد المؤمنين“ (102)، وربما هناك شيء من المبالغة في هذا الادعاء، فليس أبو الهدى وحده، بل إن أجهزة الدولة كلها كانت مجندة لذلك الغرض. على أية حال، فقد كرّس أبو الهدى، طوال إقامته في إسطنبول، جهدا كبيرا في الكتابة والوعظ دعما لخلافة السلطان عبد الحميد.

ومن أوائل منشورات أبي الهدى وربما أكثرها أهمية بهذا الخصوص كراسه الموسوم ”داعي الرشاد في سبيل الاتحاد والإنقياد“، المطبوع في مطبعة الحكومة في إسطنبول. وهو لا يحمل تاريخا للطبع، ولكن من المحتويات يمكننا الاستدلال إنه كتب في سنة 1880م. في هذا الكراس كان أبو الهدى لا يزال يوقع اسمه بتواضع ”نقيب حلب“ (خلافا لمطبوعاته المتأخرة التي كان يوقعها بغرور). وكما ذكرنا سابقا، فلربما كان قد أمر بكتابته. ومن المحتمل أيضا إنه كان قد تلقى توجيهات معينة أو حتى مساعدة في صياغة حججه، لاسيما إن المحتويات تصبّ في مجرى السياسة الحميدية. على هذا الأساس، وعلى الرغم من إن الكراس كان موقعا من أبي الهدى، فإنه كان يمثل، على الأرجح، وجهة النظر الرسمية.

إن الفكرة التي كان أبو الهدى يسعى إلى إيصالها عبر كراسه هذا هي إن الحكم المطلق إنما هو نظام أساسي للحكم في التاريخ الإسلامي، خلافا لوجهة النظر التي تطوّرت خلال التاريخ الإسلامي اوخلال العصور الإسلامية الوسطى تحت تأثير الممارسات الإيرانية – المغولية. فقد كتب يقول: ”وبإرادته، خلق الله هذا العالم ونظمه. ثم أرسل الأنبياء لهداية الإنسان إليه، مثل الرعاة لرعيتهم، فالآخرون ملزمون بقبول أعمالهم وأوامرهم بطاعة وخضوع، من دون أسئلة، وكان أعظم أولئك الأنبياء محمد (e)، الذي إنتزع إعجاب المؤمنين بالله ووضع أسس الوحدة على قواعد راسخة. فقد كان يدعو إلى التعاون مابين المؤمنين لعمل مآثر طيبة وكان يحذر من التعاون في الشر والعدوان. واتبع صحابته تعليماته، وكوفئوا بأن ذكروا في القرآن. وتابعوا بعده خلافته وكانوا مطيعينله منذ ذلك الحين كانت طاعة الإمام جزءا من الخضوع والإنقياد لله.

واستطرد أبو الهدى: وفي الوقت المناسب إنتقلت الخلافة إلى العثمانيين ووصلت السلطان عبد الحميد الثاني، المعروف بتقواه وتدينه. فقد اظهر السلطان، بعد اعتلائه العرش، حماسة دينية وعزز الشريعة الإسلامية وعمل على حماية الأمة. وكما هو مطلوب في دينهم، فعلى المسلمين أن يكونوا طائعين له " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم "، هكذا أمر الله في القرآن. ونسب إلى النبي (r) إنه قال في أحاديثه: ”من أطاعني فقد أطاع الله... ومن أطاع أوامري فقد أطاعني“

وكان مشايخ الطرق الصوفية يلزمون أتباعهم بربط مشاعر ولائهم لقائد المؤمنين وكانوا يحثونهم على مساندته قولا وعملا لأنه هو المنفذ لأحكام الله، وهو المدافع عن الدين وحامي حمى المسلمين.

وبعرضه تلك الوصايا، ووصايا أخرى كثيرة، أراد أبو الهدى إقناع قارئيه بأن الطاعة التامة للخليفة واجب رئيس في الدين الإسلامي. ومع ذلك، فإن وجوبها في مثل هذه الظروف التي تمر بها الدولة أكثر من وجوبها جدا عند كتابتها. وقد كتب: ”من الواجب الخضوع لأمير المؤمنين، لاسيما في أيام الحرب، ضد الأعداء الظالمين، والكفاح ضد المنشقين [ الداخليين ] في عصرنا“.

والحقيقة، فمن اجل الدفاع عن الأمة وديار الإسلام، لا يجب على المسلمين أن يكونوا طائعين للخليفة فحسب، بل عليهم أن يوحدوا مشاعرهم ويربطوها به أيضا. وقد أمرهم الله في القرآن بفعل ذلك، وكذا الأنبياء. واستشهد أبو الهد ى أيضا بأقوال كثيرة لعلماء مشهورين ومشايخ صوفيين كانوا ينصحون بتوحيد مشاعر المسلمين جميعا وكانوا يعدون مثل هذه الوحدة عملا إيمانيا. على هذا الأساس، وطبقا لوجهة نظر أبي الهدى، كان التوحد خلف السلطة وطاعتها واجبا مزدوجا من اجل المسلمين. إلا إنه، مرة أخرى، كان ينظر إلى الظروف بوصفها دافعا لإتباع هذا المسلك. كتب يقول: ”لقد كان المسلمون في محنة، ولم يبق لهم سوى التوحد تحت كلمة الله، والخضوع لأمير المؤمنين، المدافع عن الدين، قولا وعملا“.

ولمّا كان الخطر الخارجي هو الذي كان يحرك دعوة أبي الهدى، فلابد أن يكون التشديد في المقام الأول على ”الجهاد“ وليس على الخضوع للسلطان – الخليفة والتوحد خلفه. لذا، لابد أن تكون هناك دوافع أخرى لهذه الدعوة؛ وربما كان هذا الدافع صريحا مباشرا وقد يكون خفيا وراسخا. وفيما يخص الدافع الثاني فإنه سيعالج في سياق هذا البحث. أما بالنسبة للأول، فربما كان موجها، على ما يبدو، ضد حركة التمرد في الولايات العربية؛ فقد كتب أبو الهدى محذرا: ”إن الخسيس هو من يتسبب في الشقاق والخلاف“، واستطرد قائلا:

”في أيام العدوان وسوء الحظ هذه، فإن من ينحرف عن وحـدة المسلمين إنما يقصد التسّبب بالشر... ويسعى لغـرضٍ خفـي عميق يغطيه باعتراضاته ضد الحكام والمسئولين وغيرهم مدّعيـا إنه إنما كان يسعى إلى مصلحة المسلمين ونصرة الدين. وهـذا الادِّعاء باطل لأنه، إن كان صحيحا، سوف يستبدل الاعتراضات بالخضوع والتعظيم...“.

وفي نهاية هذه الرسالة اتهم أبو الهدى أولئك الذين ينتقدون السلطان ورجاله، وكتب إنهم بهذه التصرفات إنما يصّدعون صفوف المسلمين، وبالتالي فهُم يساعدون أعداءهم ضدهم.

من جانب آخر، فإن للسلطان عبد الحميد كل الاحقيات والميّزات في أن يكون الخضوع له والتوحد خلفه واجبا. وأكد أبو الهدى إن هذه الحقيقة جاءت بمحافظته على ألاماكن المقدسة وحمايتها، ومن ضمنها جامع القدس، واهتمامه بأضرحة الأولياء؛ فضمن ولاياته تقع عواصم دول إسلامية سابقة. لقد كان عبد الحميد متمما لواجب الفاتحين (الغزاة) والمحاربين في سبيل الدفاع عن الدين والدولة، فضلا عن إنه كان متدينا، عادلا ومهتما برفاهية رعاياه.

وأضاف أبو الهدى قائلا: وأخيرا، فإن السلطان قد تنازل عن كثير من امتيازاته السلطانية القديمة، ومنح الدستور وتخلى عن الحكم المطلق وأقام حكمه على مبدأ الشورى.

لقد كانت دعوة أبي الهدى موجهة اساساً إلى المسلمين العرب في الإمبراطورية، لكنه وجد ضرورة توسيعها لتشمل المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي كافة، مما أدى ً إلى ظهور حركة الجامعة الإسلامية مباشرة:
فالحماسة الدينية والفضيلة الإسلامية تـقتضي نشر راية الوحدة في البلدان كلها... والاتفاق على إرضاء الخليفة المعظّم... تلك هي الواجبات العظمى الملقاة على عاتق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، [إنها تتطلب] النهوض لنصرة المسلمين تحت لواء قائـد المؤمنين في الجهاد.

وقد تابع أبو الهدى التحذير بأن العدو يسعى إلى تحطيم أعمدة الإسلام وفرض على المسلمين جميعا أن ينهضوا للجهاد من اجل الحفاظ على شرف الخليفة المعظّم المتمثل بشخص السلطان لأنه كان، كما أكد الصيّادي، سببا رئيسا في إحياء الدين الإسلامي وكرامة المسلمين. واختتم حديثه بالقول: إن جوهر الأمة في عصرنا لا يمكن الحفاظ عليه إلا بحماية سلطة الخليفة المُعظّم. وإن حياة الأمة لا تكون إلا بالتوحّد خلفهُ والخضوع له.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق