الخميس، 28 يوليو 2016

السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي 4

السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي 4



ترجمة

الدكتور أنيس القيسي

رابعا: السلطان وأبو الهدى والطرق الصوفية


يبدو إن السلطان عبد الحميد كان على اعتقاد بأن سلفية، أباه وعمه، سلطاني عصر التنظيمات، قد أهملا إقامة الروابط مع عامة الشعب، ولاسيما في ولاياته العربية. وكانت النتيجة، باعتقاده، مصدرا لضعفهما، وربما سببا لنفور رعايا كثيرين. وبالطبع، فإنه أراد تجنّب مثل هذا الخطأ. ويمكن أن يفسّر لنا هذا إلى حدٍ لماذا استبقى السلطان أبا الهدى وبعض مشايخ الطرق الصوفية في إسطنبول خلال مّدة حكمه. إن حقيقة إنتساب الشيخ إلى الطريقة الرفاعية ربما كانت تحتل مرتبةً ثانوية بالنسبة لاهتمام السلطان. فلم يكن أبو الهدى ليتواجد هناك إلا لأنه كان، قبل كل شيء، شيخا صوفيا جاء من سورية وأدى أعمالا إنسجمت مع خطط صاحب الجلالة.

وكان نشر الطريقة الرفاعية من ضمن تلك الأعمال. ومع ذلك، كان أبو الهدى يدّعي بأنه نال ثقة احد أساتذته في الطريقة بإشراكه في بعثة لنشرها. إذ كان يدعّي في سنواته المبكرة إنه مرّ على احد مشايخ الطريقة الرفاعية في بغداد محمد مهدي الروّاس إثناء مروره بقريته في زيارته لسورية، الذي أكد له إنه كان مقدّرا له إحياء الطريقة وإقامتها. وقد كتب ذلك عندما التقاه أول مرة، إذ قال الروّاس: ”لقد آن الأوان لنشر الراية وإيقاظ الأمة“.

وعلى الرغم من صعوبة تصديق هذه القصة، فقد كرّس أبو الهدى جهدا عظيما في محاولته لنشر الطريقة ولقي مساعدة كبيرة من الأوساط الحكومية. فأسس زوايا رفاعية في مدن متعددة، ولاسيما في سورية، والى حد ما في العراق. والحقيقة إن ثلثي الزوايا التي أسسها بنفسه كانت في سورية. وعيّن في كل منها مندوبا ( خليفة ) كان يمنح مكافأة شهرية له ومصاريفا للزاوية. وكانت هذه المكافآت تدفع من الدولة أو من خزينة الولاية أو من مبالغ الأوقاف. فضلا عن ذلك، فقد قام الصيّادي بالعمل على ترميم عّدة أضرحة للأولياء، لاسيما ضريح الشيخ احمد الرفاعي في ”أم عبيدة“ في اهوار جنوبي العراق، كما عمل على تشييد مزار للضريح على نفقة السلطان، وبذلك تحّول إلى مزار. ومن المفترض إن تلك الزوايا أصبحت مراكز لنشر أفكار أبي الهدى ولتعبئة الرأي العام لدعم السلطان.

وعلى الرغم من ذلك، لم يكن أبو الهدى قانعا بنشر الطريقة فحسب، بل عمل على تجميل موقعه في إسطنبول بوسائل أخرى كذلك. وقد رأينا في بداية سيرته إنه وضع نصب عينيه الادّعاء بأنه متحدر من احمد الصياد، وإن الصياد هو حفيد احمد الرفاعي، الذي أخذت الطريقة تسميتها تيمنا به. لكنه عندما بدا يكتسب شهرة، اخذ يدّعي إن أساتذته في الطريقة متحدّرين من الرفاعي أيضا. والأكثر من ذلك، إنه عدّ كثيرا من مشايخ الطريقة الرفاعية متحدّرين من احمد الرفاعي، كما كان يدّعي ذلك لنفسه. وكان يهتم اهتماما خاصا بالفرق الصغيرة المسماة بأسماء عائلاتها الرئيسة وهي الخياليّة، والجندلية والحريرية، التي كانت منتشرة ضمن الفئات الدنيا في المدن وبين القرويين في وسط سورية وشمالها، وهي فروع من الرفاعية، وإنه ربط إنساب مشايخها إلى احمد الرفاعي.

وبما إنه كان يدّعي إن الأخير متحدر من النبي (e)، فقد نسب، بالنتيجة، إلى أشخاص من تلك العائلات القروية البارزة – من التحدّر نفسه – أشرافا وسادة، ألقابا لاقت احتراما كبيرا في تلك الأيام. وقد قبلت تلك العائلات هذه العلاقة ( مع أبي الهدى ) التي وصلت إلى المحسوبية، لأنها منحتها درجة من التسلط والنفوذ المحلي.

وربما لم يكن غرض أبي الهدى من اتخاذه ”الرفاعية“ ابتداع طريقة صوفية، بل تكوين جماعة كبيرة مشابهة لعائلة الكيلاني المتواجدة في كل من العراق وسورية، التي كانت تدّعي إنها متحدّرة من عبد القادر الكيلاني (المتوفى سنة 1161 م)، والذي سميت الطريقة القادرية تيمنا به، ليكون مسنودا بهذه الجماعة، التي أضيفت، بالتأكيد، إلى نفوذه مابين الأوساط الحاكمة في العاصمة وأرضت غروره، هذا من جانب. ومن جانب آخر كان السلطان يعترف بوجود هذه الجماعة وأعفاها وكل فروعها من الخدمة العسكرية في سنة 1886 م، وهو الامتياز الذي كان قد منحه للكيلانيين في سنة 1880.

إلا إن الشيخ أبو الهدى لم يكن هو الشيخ الصوفي الوحيد الذي أقام في إسطنبول خلال العصر ألحميدي. فثمة شخص مهم آخر، ألا وهو محمد ظافر، رئيس أحدى الطرق الثانوية المعروفة باسم ”الشاذلي مدني“، التي كانت منتشرة في أقاليم شمالي أفريقيا وطرابلس. وكان الشيخ ظافر على علاقات وديّة واضحة مع محمود نديم باشا الذي كان واليا على طرابلس لسبع سنوات متعاقبة (1860 – 1867 م). وقيل إنه عندما تسنم نديم باشا منصب الصدارة العظمى في سنة 1871، فإنه دعا الشيخ ظافر إلى إسطنبول. وقد جاء الشيخ مرة أخرى إلى إسطنبول خلال الوزارة الثانية لنديم (من كانون الأول 1875م حتى مايس 1876م) ومكث بعد ذلك فيها حتى وفاته سنة1906. وبما إنه كان معروفا لدى السلطان عبد الحميد قبل اعتلائه السلطنة، فقد استمر بالبقاء قريبا منه. وقد شاد السلطان له زاوية ً شبيهة تماما بقصر أبي الهدى( الصغير) بالقرب من قصر يلدز، صارت مقصدا لكثير من زوار شمالي أفريقيا إلى إسطنبول، فضلا عن العديد من الزوار من الأقاليم العربية الآسيوية.

وكما في حالة أبي الهدى، الذي شجّع وجوده في إسطنبول نمو الطريقة الرفاعية، فإن إقامة الشيخ ظافر في تلكم المدينة ساعدت في تعزيز طريقة ”الشاذلي مدني“ الثانوية، على الرغم إن مداها، إذا ما قارناه بالرفاعية، كان متواضعا. والحقيقة إن أبا الهدى كان اكثر تصميما على نشر طريقته. على أية حال، فإن وجود شيخين في العاصمة، تحت رعاية السلطان، والنشاط الصوفي الذي خلفاه، حرّك طرقا أخرى في مدن عربية إقليمية أخرى لأن تكون اكثر فاعلية. إذ كان السلطان يمنح كثيرا من مشايخ الولايات مكافآت شهرية، وكانت زواياهم تتمتع باعفاءٍ رسمي من الضرائب، فضلا عن المنح التي كانت تخصص لترميمها عند الحاجة. وكان عدد هذه الزوايا كبيرا جدا لدرجة إن السلطان بدا كما لو إنه بات مستعداً لدعم أية زاويةٍ بغض النظر عن الطريقة التي تنتسب إليها.

وكان الاعتقاد السائد بأن السلطان إنما كان يمنح هذا التأييد الكبير جدا لمشايخ الطرق الصوفية من اجل إظهار الحماسة الدينية والتقوى وليفوز بتأييد رعاياه المسلمين كذلك. ولكن بصرف النظر عمّا إذا كان متدينا أم لا، إذ إن أهمية ذلك ثانوية، فإن هدفه ـ كما يبدو ـ كان سياسيا بالدرجة الاولى من دون شك.

في هذا الوقت كان النشاط الصوفي يتزايد، فطلب من أبي الهدى أن يكتب وينشر أعمالا دينية وصوفية، وطلب من الشيخ ظافر الشيء نفسه. ولكن من بين بضعة كتب ظهرت تحمل اسم الأخير، كان هناك ما يقرب من (212) عنوانا من الكتب والكتيبات منسوبة إلى أبي الهدى (موجهة إلى الجماهير العربية المسلمة في الإمبراطورية) ظهرت في كل من إسطنبول، وبيروت والقاهرة مابين سنتي 1880 و 1908 م. فضلا عن ذلك، كانت هناك كتابات أخرى كثيرة نسبت إلى أصدقائه وإتباعه وكذلك إلى ألرواس واحمد الرفاعي وغيرهم. وفيما إذا كان أبو الهدى قد كتب هذا العدد الهائل من الكتب بنفسه أو ساعده آخرون، إذ إن أهمية ذلك هامشية، تبقى الحقيقة هي إن نحو عشرة كتب كمعدل كانت تصدر منه ومن حلقته سنويا.



على أية حال، فإن كثيرا من كتابات أبي الهدى كانت حافلة بالتكرار إلى حد الملل، وهي تدور حول ثلاثة مواضيع رئيسة: (1) الدفاع عن شرعيّة ادّعاء عبد الحميد بالخلافة، ودعوة المسلمين للالتفات حوله والخضوع له؛ (2) نشر الطريقة الرفاعية ونصرة احمد الرفاعي الذي سميت الطريقة على اسمه؛ و(3) الدفاع عن نفسه ضد هجمات أعدائه وتأكيد نسبه ألشريفي. إن ما كانت تؤكد عليه هذه المنشورات: قبول الإسلام العصري بمضمونه الصوفي الصارم والموقف الجبري للحياة وإرضاء الحكم المطلق. وقد إنسجمت مثل هذه المضامين مع خطط السلطان وسياساته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق