الجمعة، 29 يوليو 2016

البصرة قبل تسع مئة سنة ..كما شاهدها الرحالة ناصر خسرو

البصرة قبل تسع مئة سنة ..كما شاهدها الرحالة ناصر خسرو


ميخائيل عواد
حفلت حقبة من الزمن بدايتها القرن الثالث للهجرة وامتدت حتى القرن الخامس ومطلع السادس بطائفة كبيرة من اعلام الجغرافيين ومشاهير الرحالين فكان بينهم التاجر والجغرافي والرائد وكلهم يستكشف المسالك والأمكنة والبقاع ويبحث في أحوال الأمم التي يتردد الى مواطنها،


وللتجارة الصادرة في ميدان السفر والاغتراب، فقد انتشرت قوافل التجار المسلمين شرقاً وغرباً وجابت أكثر بقاع العالم المعروفة يوم ذاك كما كان طلب العالم باعثاً على الرحلات والأسفار وركوب الأهوال فكان رجال العلم ينتقلون في طلبه من بلد الى آخر يأخذون العلم عن مشاهير أساتذته وشيوخه، ولا ننس فضل الحج في أثر الرحلات فأن الحجاج كانوا عند عودتهم الى بلادهم يخبرون عن الطرق التي سلكوها والأحداث التي صادفوها فكان الناس يصغون متشوقين لما يقصه عليهم الحجاج من عجائب البر وغرائب البحر.
ففي النصف الأول من القرن الخامس للهجرة لمع نجم رحالة فارسي هو الشاعر الفيلسوف ناصر خسرو، فقد جال هذا الرحالة بلاد إيران مبتدئاً من مدينة مرو في إقليم خراسان ماراً بأذربيجان وأرمينية والشام وفلسطين ومصر والحجاز ونجد وجنوبي العراق، وعاد الى إيران حيث انتهى الى مدينة بلخ في خراسان.
بدأ رحلته في شهر ربيع الآخر من سنة 437هـ وانتهى منها في يوم السبت السادس والعشرين من جمادي الآخر سنة 444هـ فاستغرقت سبع سنوات، حرر ما شاهده بعينه وما سمعته من أناس يثق بروايتهم في كتابه الموسوم بـ"سفرنامه" باللغة الفارسية، ورحلته هذه يعنينا منها في هذا المقال زيارته للعراق الجنوبي أي البصرة وما حولها من مواضع وانهار فقد دون بشأنها كل طريف مفيد، قال يصف البصرة: حينما غادرنا الحسا الى البصرة كنا نجد الماء في بعض الجهات ولا نجده في أخرى حتى بلغنا البصرة سنة 443، وللبصرة سور عظيم يحيط بها ما عدا الجزء المطل على النهر، وهذا النهر هو شط العرب ويلتقي دجلة والفرات عند حدود مدينة البصرة ويلتقي بهما أيضاً قناة الحويزة فيسمى النهر حينئذ شط العرب، ويتفرع من شط العرب هذا قناتان كبيرتان ومن هاتين القناتين شقت ترع كثيرة مدت في كل الأطراف وغرست أشجار النخيل والحدائق على شواطئها والقناة العليا تسمى نهر معقل والثانية تسمى نهر الأبلة، ومنهما تتكون جزيرة كبيرة مستطيلة، والبصرة على أقصر ضلع من هذا المستطيل والجنوب الغربي للبصرة صحراء ليس بها عمران ولا ماء ولا شجر مطلقاً.
ومن طريف ما ذكره ناصر خسرو حين وصوله البصرة قوله: حين بلغنا البصرة كنا من الحاجة والفاقة كأنا مجانين، وكنا قد لبثنا ثلاثة أشهر لم نحلق شعر رأسنا فأردت ان أذهب الى الحمام ألتمس الدفء فقد كان الجو بادراً، ولم يكن علينا ملابس، كنت أنا وأخي كلانا نلبس فوطة بالية وعلى ظهرينا خرقة من الصوف متدلية من الرأس حتى قلت لنفسي: من الذي يسمح لنا الآن بدخول الحمام؟ فبعت السلتين اللتين كانت بهما كتبي ووضعت بعض الدراهم من ثمنها في ورقة لأعطيها للحمامي عسى أن يسمح لنا بوقت أطول في الحمام لنزيل ما علينا من كدر فلما قدمت إليه هذه الدراهم نظر الينا شزراً وظن أننا مجانين وانتهرنا قائلاً: اذهبوا فالأن يخرج الناس من الحمام ولم يأذن لنا بالدخول، فخرجنا في خجل ومشينا مسرعين وكان بباب الحمام أطفال يلعبون فحسبونا مجانين فجروا في أثرنا ورشقونا بالحجارة وصاحوا بنا فلجانا الى زاوية وقد تملكنا العجب من أمر الدنيا.
وكان الأعرابي الذي استأجرنا جمله من مدينة فلج في البادية يطلب منا الثلاثين ديناراً مغربياً ولم نكن نعرف وسيلة للسداد، وكان بالبصرة وزير ملك الأهواز واسمه أبو الفتح علي بن أحمد وهو رجل أخلاق وفضل يجيد معروفة الشعر والأدب وكان كريماً، وقد جاء البصرة مع أبناءه وحاشيته وأقام بها ولم يكن لديه ما يشغله وكنت عرفت رجلاً فارسياً فاضلاً من أصدقاء الوزير المترددين عليه كل وقت وكان هذا الفارسي فقيراً ولا سعة عنده لأعانتنا فقص على الوزير قصتنا، فلما سمعها أرسل الي رجلاً ومعه حصان، أن أركب وأحضر عندي كما انت فخجلت من سوء حالي وعري ولم أر الذهاب مناسباً فكتبت رقعة معتذراً وقلت فيها: أني سأكون في خدمته من بعد وصول ورقتي إليه، وكان قصدي من الكتابة شيئين: أن يعرف فقري وعلمي حين يطلع على كتابتي وقد أرسل الي في الحال ثلاثين ديناراً لشراء كسوة فشتريت حلتين جميلتين، وفي اليوم الثالث ذهبت لمجلس الوزير فرأيته رجلاً كاملاً أديباً فاضلاً جميل الحلة متواضعاً ديناً حلو الحديث وله أربعة أبناء أكبرهم شاب فصيح أديب عاقل وقد أضافنا الوزير عنده من أول شعبان الى نصف رمضان، ثم أمر بإعطاء الأعرابي الذي استأجرنا جمله الثلاثين ديناراً التي له عليه فكفاني مؤونة هذا الدين، وما نوه به هذا الرحالة مشاهد البصرة وهي ثلاثة عشر مشهداً كما عني بوصف المد والجز في البصرة، وأشار الى أنه يعرف بلوغ ارتفاع الماء مقدار الأذرع العشر بظهوره على عمود أقيم هناك أو على حائط.
وقد زار مدينة الأبلة فأعجب بها كثيراً، والأبلة أقدم من البصرة كانت إحدى جنان الدنيا وصفها بقوله: مدينة عامرة، وقد رأيت قصورها وأسواقها ومساجدها وأربطتها وهي من الجمال بحيث لا يمكن حدها او وصفها.
ثم يعود ناصر خسرو الى وصف أحياء البصرة، فقال: أن لها عشرين ناحية في كل منها كثير من القرى والمزارع.
ومن طريف ما ذكره من البيع والشراء في أسواق البصرة، قال: ان السوق ينصب في ثلاث جهات كل يوم، ففي الصباح يجري التبادل في سوق خزاعة وفي الظهر في سوق عثمان وفي المغرب في سوق القداحين، والعمل في السوق هكذا، كل من معه مال يعطيه للصراف ويأخذ منه صكاً ثم يشتري كل ما يلزمه ويحول الثمن على الصراف فلا يستخدم المشتري شيئاً غير صك الصراف طالما يقيم في المدينة.وبعد ان مكث ناصر خسرو في البصرة خمسة وخمسين يوماً غادرها، قال: فركبنا الزورق وسرنا في نهر الأبلة ورأينا طوال أربعة فراسخ في اجتيازه حدائق ومناظر لا تنقطع على شاطئيه، ويتفرع من هذا النهر ترع كثيرة، وبعد أيام ركبنا سفينة كبيرة تسمى "بوصي"، وكان الناس الكثيرون على الجانبين يصيحون قائلين: سلمك الله تعالى يا بوصي، وقد بلغنا عبادان فنزل الركاب من السفينة.
هذه شذرات مما وصف به هذا العالم الرحالة البصرة قبل تسعمائة سنة ويا ليته زار بغداد وغيرها من مدن العراق المشتهرة يوم ذاك، لكنا ظفرنا بفوائد جليلة وأخبار طريفة ممتعة.
مجلة اهل النفط 1957

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق