الأحد، 31 يوليو 2016

الصراعات السياسية في القرن العشرين روسيا نموذجاً..3

الصراعات السياسية في القرن العشرين روسيا نموذجاً..3




بسم الله الرحمن الرحيم


بسم الله و الحمد لله
و الصلاة و السلام على رسول الله خاتم الأنبياء و المرسلين .

إن التطابق بين المصالح الجذرية لمختلف الشرائح والمجموعات الاجتماعية وبين نشاط المؤسسات السياسية، بين الأفراد وبين المجتمع ككل يجعل من الوعي السياسي عاملاً مهماً وقوياً في الوحدة السياسية، في التكاتف والتضامن وفي فاعلية الإصلاحات الاجتماعية.‏
إن الخصائص النوعية للنظم السياسية تدرس بصورة تقليدية من خلال المقارنة بين التوتاليتارية وبين الديموقراطية، أما مصطلح التوتاليتارية فقد ظهر في الأدبيات العلمية منذ ثلاثينيات القرن العشرين باعتباره انعكاساً للتوجه المتشكل في العلاقات السياسية في بعض بلدان أوروبا الغربية، وقد اكتسب في الكثير من النقاشات العلمية شكل الظاهرة السياسية والاجتماعية المعقدة، التي تمتلك جذورها التاريخية وملامحها المعاصرة الخاصة، بل إن بعض العلماء يعود بالتوتاليتارية إلى الطبيعة الأبدية للإنسان وللمجتمع البشري، إلى الجوهر التراتبي (Hierarchism) للعلاقات الإنسانية، بينما يفترض آخرون أن التوتاليتارية ظاهرة غير عادية وغير مألوفة في تاريخ المجتمع، وهي واسمة للحضارة الصناعية وقد تركت أثراً عميقاً في المظهر السياسي للقرن العشرين.‏
وفي هذا النمط من المجتمعات تصبح الصراعات الاجتماعية ظاهرة نادرة، والقضية هنا لا تكمن فقط في أن العنف و الإكراه تجاه المعارضة يعتبران الضمان بالنسبة للمجتمع "الآمن، الهادئ" فالوسط الاجتماعي بحد ذاته في مثل هذه المجتمعات لا يتمتع بالشروط الضرورية لقيام علاقات اجتماعية طبيعية، فالمصلحة الاجتماعية العامة، التي تتميز بها هذه المجموعة أو تلك، لا يتم إدراكها كما من قبل الأفراد المنتمين لهذه المجموعة، وذلك بسبب غياب الأشكال المنظمة القادرة على جعل تلك المصلحة في متناول الوعي الفردي، وفي تلك المجتمعات تكون النمطية Stereotype الراسخة لعلم النفس الاجتماعي أقرب إلى المحاكمة المعروفة: "لننتظر مجيء السيد، وعندئذ فإن السيد سيفتي فيما بيننا" أي إن السلطة التي تقرر كل شيء وباسم الجميع، هي التي تلعب دور السيد كحكم ثالث، وبالتالي فإن حق السلطة بلا منازع في أن تعود الكلمة الأخيرة لها وفقط لها في أي جدل اجتماعي، يخلق في وعي العناصر المحتملة للصراع نوعاً من عدم الثقة في مقدرتهم على الدفاع عن مصالحهم المشتركة بقواهم الذاتية، ولذلك هم يميلون باستمرار، نحو تأجيل الدخول في صراع مكشوف وعلني من ناحية ومن ناحية ثانية، هم مستعدون لوقف التصرفات الخلافية، حتى قبل أن يحققوا أهدافهم المنشودة ، ودون أن يجربوا في سبيل ذلك كل الفرص الممكنة، وذلك بمجرد أن يصلهم "من فوق" الأمر "كفوا عن ذلك".
لقد لاحظ أ.توكفيل A.---*---*qfil بصورة عادلة أن الصراعات الاجتماعية "تنتفي" إذا ما صارت سلطة الدولة المركزية قاهرة، بحيث تعجز أية مجموعة عن الوقوف بوجهها، كما يزيد من صعوبة نشوء الصراعات في النظم التوتاليتارية غياب الآليات المسئولة عن الأنشطة الذاتية المجتمعية والتنظيم الذاتي المجتمعي، إذ إن مثل هذه المجتمعات لا تحتمل أية مبادرات غير مرخص بها من فوق، لا لأية أنشطة ذاتية مستقلة، خصوصاً في قضايا السياسة أو الأيديولوجيا ـ هذا هو القانون السائد بلا منازع لعلم النظام التوتاليتاري، القانون الذي يعتني به ويحافظ عليه بواسطة جهاز بيروقراطي يتم تأسيسه خصيصاً لهذا الهدف، في مثل هذه الظروف تصبح الصراعات الحقيقية ممكنة بين عناصر ذلك الجهاز البيروقراطي وبين مكوناته الداخلية فقط.‏
الوزارات والإدارات، الأقسام السياسية وأجهزة المخابرات، مختلف الاستطالات غير الشكلية في الجهاز بدءاً بالفخذ أو العشيرة على أساس عائلي وصولاً إلى البنى الفاسدة ـ كلها تتحول إلى عناصر محتملة حصراً للصراعات الاجتماعية، والتي تتفاعل في مختلف طبقات البناء الإداري وفي الأروقة المختلفة للسلطة، أي إنّه في المجتمع المغلق حتى نزعة الصراع تكتسب طابعاً مغلقاً ، وأما المواطنون فهم يعرفون الحقيقة بشأن الصراعات الدائرة في مكونات السلطة وبناها فقط بعد انتهائها، من خلال نتائجها المعلن عنها وعن طريق عواقبها الاجتماعية.‏
إن المواصفات الرئيسية للتوتاليتارية المعاصرة، لم تكن تنطبق على الأنظمة الفاشية فقط، بل وتشكلت تدريجياً، وإن بدرجات مختلفة، في جميع البلدان الاشتراكية، وهذا بدوره انعكس على الحالة العامة للنزوع نحو الصراع، للوهلة الأولى يبدو الأمر مدهشاً، إنه خلال مدة طويلة جداً من تاريخ الاشتراكية الواقعية، لم يتعرض المجتمع الاشتراكي لأي هزات وصراعات اجتماعية عميقة.‏
وهي لم تكن كثيرة بالفعل، بل إلى الآن بعد أن افتضح أمر الكثير مما كان سراً في السابق يمكن أن نعد على أصابع اليدين فقط الصراعات الاجتماعية الكبيرة، التي كانت قد حدثت في بلدان الاشتراكية الواقعية، ولكن سبب مثل هذه الظاهرة لا يكمن في الخصوصيات للنظام الاشتراكي فحسب، بل وفي الملامح المميزة للنظام التوتاليتاري، الذي يعيق بشكل مصطنع التعبير الحر عن التململ وعدم الرضا، الذي يمكنه أن يتطور إلى صراع اجتماعي، ويمكن أن نرى بأية طرق وبأية أساليب كانت تتحقق "الهارمونيا الاجتماعية" بشكل جيد في الاتحاد السوفييتي السابق.‏
قبل كل شيء، عن طريق التأثير في وعي الناس من قبل جهاز دعائي فائق الضخامة، لقد أدى الضغط الإيديولوجي الشمولي إلى تشكل وعي اجتماعي يخدم بصورة حصرية المصالح السياسية للنظام السلطوي المسيطر، مما أعطى الانطباع عن أحادية المدلول لما يجري من أحداث في المجتمع، لذلك فإن أية محاولة للاختلاف في الرأي، حتى لو صارت معروفة إلى هذه الحد أو ذاك لشرائح واسعة من المواطنين كانت تبدو عاجزة أمام جبروت وإمكانيات التأثير التي كانت تتمتع بها المؤسسات الرسمية، الصحافة والمذياع والتلفاز ـ كانت تجيش جميع الوسائل الممكنة للتأثير في وعي المواطن العادي وكانت تتلاعب بشكل محترف بالرأي العام، وتجهز على الخطر المتمثل بإمكانية اتحاد المواطنين على أساس الأفكار المناهضة للنهج الرسمي.‏
بالإضافة لذلك، كان التوصل إلى غياب الصراع ظاهرياً يتم عن طريق تسييس أي اصطدام اجتماعي، يمكنه أن يخرج عن سيطرة المؤسسات الرسمية وخارج إطار القواعد المعترف بها في السلوك المجتمعي، حتى وإن لم يبادر المشاركون فيه إلى طرح أية مطالب ذات طابع سياسي، وأوضح مثال على هذا الأسلوب في معالجة ومنع نشوء الصراعات يمكننا تتبعه من خلال الأحداث في مدينة نوفوتشيركاسك صيف 1962. إن مجرد الإطلاع السطحي على تلك الأحداث يظهر كم كانت مختلفة التصرفات الحقيقية للمشاركين عن الاتهامات بارتكاب جرائم سياسية ومعادية للدولة، التي ساقتها ضدهم السلطة الرسمية ونالوا بسببها أعلى درجات العقوبة.‏
إن أحداث مدينة (نوفوتشير كاسك) توضح مرة أخرى خصوصية الموقف، الذي يتخذه النظام التوتاليتاري تجاه الصراعات غير المرخص بها، والمطلوب عادة أن لا يعرف المواطنون عن مثل هذه الصراعات سوى النزر اليسير، لقد بقي التحريم على الخوض في أحداث نوفوتشيركاسك سارياً على مدى أكثر من عقدين من الزمن، من الطبيعي أنه لم يرد أي ذكر لها في صحف تلك الأيام، فقط في السادس من حزيران من ذلك العام ورد اسم تلك المدينة في صحيفة "البرافدا" ـ تمت الإشارة إلى أن "العمال هناك يقوّمون بشكل صحيح ارتفاع أسعار المفرق والجملة على اللحوم والزيوت ومشتقاتها".‏
كما يمكن أن نشير إلى مزية أخرى لموقف النظام التوتاليتاري من الصراع الاجتماعي، أي سعي السلطة لإزالة النزعة الصراعية الكامنة في المجتمع عن طريق الجهود السياسية ذات الطابع الوقائي، انطلاقاً من منع ظهور تململ أو نقمة اجتماعية وبالتالي إمكانية ظهور حركة رفض شعبية، هذه الخدمة يقدمها الصراع المفتعل من قبل الجهات الرسمية . معروفةٌ "الأعمال" و"الارتكابات" في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين التي كانت تُغذّى من قبل أجهزة الأمن والمخابرات، والتي كانت لها عدة أهداف سياسية هامة، ومن بينها الرغبة بالتخلص من المعارضة المحتملة، والسعي نحو استعراض المستوى العالي من اليقظة السياسية للرأي العام، وتسهيل إجراء وتنفيذ النهج الاقتصادي والسياسي المسيطر، ولكن المهمة الرئيسية، على الأرجح، كانت تكمن في منع حدوث حركات اجتماعية غير ممسوك بها، والسعي بأي ثمن للتعبير عن الوحدة المتماسكة في المجتمع ، وهذا بدوره يزيد من تعاضد ووحدة المجتمع الفعلية، وهذا يعني القضاء على أية ظروف ملائمة لنشوب الصراعات الاجتماعية.‏
وكدليل قاطع على خصوصيات ظهور النزعة للصراع في النظم السياسية ذات المركزية الصارمة نذكر نزاعات محددة في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في عقد التسعينيات من القرن العشرين، فقد كانت تجري جميعها تحت تأثير واضح وصريح من قبل النخب الحاكمة، والكثير منها كان يتم افتعاله مباشرة من منطلق سياسي، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على أول صراع كبير وعنيف ومع مسحة قومية في كازاخستان، مباشرة بعد إعفاء كوناييف من مهام السكرتير الأول للحزب الشيوعي في الجمهورية وتعيين الروسي كولبين في هذا المنصب، وهذا ينطبق إلى حد معين على الصراعات ذات الصبغة القومية في كل من أذربيجان، جمهوريات البلطيق وفي جمهورية مولدافيا.
جميع هذه الصراعات لم تكن عند انطلاقها تحمل مسوغاً قومياً بوجه خاص، وكانت مجرد أداة في أيدي القوى السياسية، التي تركض وراء مصالحها الخاصة، ليس صدفة، أنه في السنوات الأولى من الصراعات القومية كان يعتري المواطنين العاديين الذهول والحيرة من جراء الصدامات الدموية بين مواطنين من قوميات مختلفة، لم يكن يخطر ببال أحد، أن مجرد الانتماء إلى قومية أخرى كان سبباً للكراهية العميقة ومسوغاً للحقد الشديد، إن مثل هذا المزاج النفسي كان متوافقاً تماماً مع منطق التواصل بين القوميات، الذي كانت لـه في البلاد تقاليد تمتد عشرات السنين من علاقات الصداقة والمودة.‏
لقد كان محقاً بدرجة تامة رمضان عبد اللطيف (عضو مجلس الاتحاد في روسيا) عندما أكد أن " الأساس في جميع هذه الصراعات لا يعود إلى التناقضات القومية نهائياً، وإنما إلى الصراع بين مختلف البنى الإجرامية ـ المافيوزية بقصد إعادة توزيع السلطة والملكية، المشكلة هنا لا علاقة لها بالقوميات إطلاقاً".‏
أما في المجتمع الديموقراطي فتنشأ حالة مغايرة بشكل كامل، ففي مناخ الحريات الديمقراطية يكتسب المجتمع الأهلي بالتدريج قواعد وضوابط محددة لنشاطه، وبوجود مجتمع أهلي قوي باستقلاليته فإن سلطة الدولة تتخلى بالتدريج عن طموحها وادعائها ضبط جميع ومختلف مظاهر الحياة الأهلية، إن الحرية في تشكيل التنظيمات السياسية والهيئات المجتمعية، التي تحصر نشاطها ضمن إطار القانون الأساسي فقط، فضلاً عن نضج وتطور الآلية الاجتماعية في الكشف عن المصلحة الخاصة والفردية، تخلق نوعية جديدة تماماً من الحياة الاجتماعية.
وفي هذه الظروف يصبح بالإمكان تصور الحياة المجتمعية كلوحة باهتة مرقشة لكثير من مراكز العمليات السياسية، التي تتحدد وتتشكل، أي المراكز، بطريقة حرة، أو كحالة عشوائية نوعاً ما، حيث القاعدة الاجتماعية مجرد محصلة غير مستقرة لتأثير متعدد لمختلف اتجاهات التطور، وبحيث تنشأ هذه المحصلة بصورة موضوعية ضمن ظرف محدد، ولكن نادراً ما يكون لأمد طويل.‏
إن المجتمع الديموقراطي يميل نحو الاستقرار بفضل مرونته، وليس بفضل "وحدته المتراصة والراسخة" أو بسب غياب الصراعات، وهو لا يلجأ قط إلى قمع الصراعات أو كبتها، بل يخلق الظروف المؤاتية لكي تتظاهر وتعبر عن نفسها بشكل حر. حتى إنه يمكن القول إنّ الديموقراطية الحقيقية هي حالة صراعية، إلا أنها، بخلاف الصراعات في النظام الشمولي، صراع معلن وصريح، وكقاعدة، صراع سلمي، ومما يساعد في المجتمعات الديمقراطية على انتفاء الأشكال المتطرفة من حدة التصادمات الاجتماعية تلك الآليات المتطورة من التنظيم الذاتي الاجتماعي، فمع توفر التكنولوجيا الاجتماعية الملائمة، التي تفترض خطوات محددة لإجراء الحوار وبقصد الرقابة والتنسيق والمداولات وفق أسلوب مدروس ومجرب علمياً، فإن الصراع الاجتماعي يتخذ مساراً ديموقراطياً دون عواقب اجتماعية سلبية.‏
وبالعودة إلى التجربة السياسية في روسيا، نجد أنه من المفيد تركيز الانتباه بشكل رجعي Retrospectively على الطريقة التي كانت فيها الأحداث السياسية الجارية تؤثر في نزعة العلاقات الاجتماعية نحو الصراع ، ويجب أن نعترف بأن الصراعات الاجتماعية كانت، قبل كل شيء، ترافق أكثر تحولات الحياة الاجتماعية اختلافاً من حيث طبيعتها، مضمونها واتجاهاتها السياسية، فقد ترافق بصراعات عاصفة انتقال البلاد إلى القواعد الاشتراكية في التعامل والعيش، ولم تكن أقل عنفاً الصراعات العاصفة التي رافقت العملية المعاكسة تماماً لذلك.
ويمكننا أن نستنتج من ذلك، أن ظهور النزعة للصراعات، على العموم، لا يرتبط بالخصائص الجوهرية للتحولات الجارية في المجتمع، فبالنسبة لاحتمالية نشوب الصراع يكفي تماماً مجرد وجود التغيرات الحاصلة، وبالإضافة لذلك، إذا حدثت صراعات اجتماعية أثناء أية تحولات مجتمعية بصرف النظر عن نوعيتها، فهذا يعني أنه لا يوجد في التاريخ ولن يوجد نظام اجتماعي قد لا يرضي أحداً أو يرضي الجميع بلا استثناء، إن البشر مع الصراعات يصلون إلى الاستبداد ، ويخرجون منه مع صراعات تهلل الحشود المزهوة للمستبدين، والجماهير المنتفضة المحتدة تمارس الاضطهاد عليهم.
يستنتج أن كل نمط معروف تاريخياً في تنظيم السلطة لديه مسوغاته المشروطة تاريخياً، فالدكتاتورية تأتي لا لأن الديمقراطيين هفواً عن مجيئها، بل لأن قيامها في ظروف معينة أمر مرغوب به من قبل الكثيرين، وربما هو ضروري بشكل موضوعي، وذلك من أجل إنقاذ ما هو أكثر أهمية بكثير من البناء الديموقراطي، وبالتحديد، العيش المشترك بحد ذاته، الأمة، البلاد، الدولة والمجتمع الأهلي.
كما إن الإنسان الذي يفقد رأسه لا يمكنه أن يتأسف على شعره، كذلك هو المجتمع، الذي يصطدم بانهيار الدولة، سوف يستقبل الدكتاتورية مع الشكر والامتنان، إذا كانت الوسيلة الوحيدة للحفاظ على أسس الكيان القومي.‏
بالرغم من المجون الخارجي للفرضيات المعلنة، فإنها تعمل لأجل الديموقراطية أكثر بكثير مما تعمل لأجل الدكتاتورية، فالديمقراطية يجب أن تأخذ بنظر الاعتبار أنها ليست "السيدة الجميلة لكل الأزمان وفي جميع الحالات".
ويجب على المدافعين عنها أن يفهموا أن الديمقراطية مجبرة لأن تعمل وتحل إشكاليات التقدم الاجتماعي بالطريقة الأمثل ، فإذا لم يحدث ذلك ، وإذا ما اقتصرت محاسن الديموقراطية على مجموعة من المقولات الجميلة ، ولكن الفارغة من مخزون القيم الإنسانية العامة، فإن الكارثة حاصلة بلا ريب بالنسبة للديموقراطية وللديموقراطيين.‏
إن القرن الفائت يعد الأكثر عمقاً بلا جدال، من حيث خطط التأثير الصراعي في وعي الأمة، خلال كل تاريخها، ولكننا الآن أيضاً مازلنا، بالمقارنة مع الشعوب الأوروبية الأخرى، من حيث تقبلنا للصراع شعباً فوضوياً نوعاً ما، مع سخافات معششة بهذا الشأن، وأحياناً غبية وساذجة إلى حد كبير. "إن المستقبل مخفي عن النظرة البشرية ـ كتب ي .. أيليين ـ ونحن لا نعرف كيف ستؤول سلطة الدولة في روسيا بعد عصر البلاشفة، ولكننا نعرف أنه إذا صارت معادية للمصالح القومية وللدولتية، وصارت تجاري مصالح الأجانب، وتلعب دوراً تقسيمياً في البلاد وأصبحت خالية من أية فكرة وطنية، فإن الثورة لن تتوقف، بل سوف تنتقل إلى مرحلة الموت الجديد...".‏
إن جميع الظروف "في روسيا بعد البلاشفة"، والتي كان حذر منها ي.أ.إيليين، كانت قد تكرست في ممارسة القيادة السياسية على مدى العشر سنوات الأخيرة بصورة مطابقة إلى حدود مدهشة، فهل ستتحول كلماته عن الثورة المنتظرة وعن مرحلة الموت الجديد إلى نبوءة؟ في سياق المرحلة الزمنية تلك لم يعد الأمر قائماً، أما في الأفق التاريخي الجديد فالأمر وارد تماماً.‏
روسيا بلد شاسع، وبالتالي فإن الترابطات السببية ـ الاستنتاجية للعمليات، المتشكلة عبر فضائها في وعي الملايين الكثيرة من سكانها، لا تنضج بصورة مفاجئة، على الفور. إن " خلد التاريخ" هنا يحفر ببطء شديد. إذ أن عدم التمكن من التقاط الفرصة في اللحظة المناسبة لتحاشي المسار غير المرغوب في التطور قد يتحول إلى سبب قاتل لأحداث كارثية، عندما لا يعود ممكناً توقف الفوضى أمام السعي المتأخر والمستدرك نحو تغيير ما يمكن تغييره في المجتمع في اتجاه الأفضل، وهذا كثيراً ما يحدث في تاريخنا، وليس صدفة، أن مواطننا بالضبط هو من أدرك القاعدة المتكررة.‏
فهذا هو الشاعر الروسي المعروف ف.ي. توتشيف يكتب في رسالته إلى أ.د. بلودوفا بتاريخ 28 أيلول 1857 ما يلي:‏
" يوجد في تاريخ المجتمعات البشرية قانون حتمي لم يسبق أن خان ذاته مطلقاً، فالأزمات العظيمة، والانتقامات أو القصاصات العظيمة عادة لا تحدث، عندما يبلغ خرق القانون حداً معيناً، عندما يسود الظلم وغياب القانون ويتحكم بكل قوته وبكل عهره، يتم تفريغ الانفجار عند أول محاولة خجولة للعودة إلى الخير، عند أول زحف صادق، ربما، ولكنه غير واثق وغير جريء نحو الإصلاح الضروري. عندئذ فقط تتم معاقبة أمثال لودوفيغ السادس عشر على أخطاء لودوفيغ الخامس عشر والرابع عشر".‏
أحياناً يبدو لنا، أن كل شيء في التاريخ يتوقف على الإرادة وعلى الدافع لدى القابضين على زمام السلطة، وهذا بالفعل صحيح إلى حد ما (لا يمكن من دونهم) والسياسة تقدم في هذا المجال مجموعة من الحقائق والأدلة الثابتة. إلا أنه لا يقل صوابية الرأي المعاكس تماماً: "مادة التاريخ هي حياة الشعوب" (ليف تولستوي).‏
فالتأثير الحاسم في نوعية الحياة المجتمعية واتجاه التطور التاريخي أثناء الممارسة السياسية اليومية إنما يعود إلى العلاقة المحددة، التي تتشكل بين السلطة الحاكمة في شخص القادة، الزعماء، النخب والجهاز الحكومي وبين الجماهير ( السكان، الشعب، العمال الخ). كلما كانت المسافة بين المشاركين في العملية السياسية أكبر، وبالتالي تأثير أحد الأطراف، كلما كان غير قابل للتنبؤ في مسار التاريخ، وكلما كان أكثر احتمالاً استغلال السلطة، كانت أكثر احتمالاً الانحرافات في الأولويات السياسية، والانسدادات في التطور المجتمعي، والأزمات السياسية، الصراعات و الهزات الاجتماعية.‏
تقريباً إن جميع الصعوبات المتعلقة بحل المشاكل الهامة اجتماعياً في روسيا المعاصرة إنما تنبع من العجز السياسي للسكان المدنيين، ذلك أن المواطنين في بلادنا قد اعتادوا خلال مرحلة السلطة أن يشكلوا عالة سياسية ومدنية، ألفوا أن الموقف الأهلي الواعي وأن المشاركة والنشاط السياسي المستقل ينظر إليه على أنه نادر وخاص نوعاً ما وأنه غير ضروري بالنسبة للمواطن العادي، بل أحياناً يكون ضاراً ومداناً، خصوصاً من قبل السلطة.
إن السلبية السياسية والعجز في الدفاع عن المصالح الخاصة إنما يؤدي إلى عواقب سلبية عامة بالنسبة للبلاد ككل، إن قصور النزعات الأهلية ينتقم مباشرة على شكل اضطهاد بيروقراطي، عبر غياب القانون، وهبوط مستوى الدخل بالنسبة لغالبية السكان، وبعدم ثقتهم في يوم غد.‏
إن العجز السياسي التراتبي لمواطنينا ينعكس على المنظومة المعاصرة للتلاعب بالرأي العام الاجتماعي؛ هذه المنظومة التي تشكلت في شروط مغايرة وبرهنت عن ذاتها بنجاح حتى عندما تكون تقاليد الدفاع الذاتي المدني قوية، لقد توصل الباحث السياسي الفرنسي ب. شامبان P.Shampan إلى واحدة من أهم النتائج التي تقول: ما هو موجود في الواقع ـ هذا ليس رأياً مجتمعياً، بل ليس حتى "رأياً مقاساً في استطلاعات الرأي". ما هو موجود بالفعل في الواقع ـ عبارة عن فضاء اجتماعي جديد فعلياً، حيث تسود مجموعة من الشخصيات الفاعلة ـ تجار الاستطلاعات، الباحثين السياسيين، المستشارين بقضايا الاتصال السياسي والتسويق السياسي، الصحفيين .....
إن الخبراء، وعن طريق استخدام التقنيات الحديثة كالسبر والاستفتاء عبر الهاتف، الكمبيوترات والمذياع والتلفزيون، إنما يصبغون على "الرأي العام" الوجود السياسي المستقل، الذي قاموا هم أنفسهم بصياغته وطبخه، جاعلين من تحليله والتلاعب به مهنة لهم وبذلك يتسببون بتغيير عميق في الواقع السياسي ـ ذلك الواقع، الذي يسمح أن يُرى على شاشات التلفاز وذلك الواقع، الذي يعيش فيه الزعماء السياسيون أنفسهم.‏
كما إنه يتم تدنيس مثل هكذا تعبير كلاسيكي عن رأي "التحت" كالمظاهرات، إذ يجري طبخها بشكل مكشوف من قبل وسائل الإعلام الجماهيري (كالمشهد أو الفرجة)، ومن خلالها يتم التأثير على الرأي العام. ودون تغطيتها في وسائل الإعلام الجماهيري لا وجود للمظاهرات كحدث سياسي.‏
إن المجال السياسي ينغلق على نفسه أكثر فأكثر بمساعدة جيش من الخبراء، ففي الوقت الذي يعتبر فيه التلاعب بالرأي العام في الغرب اليوم عامل اضطراب وإقلاق بالنسبة للتطور الاجتماعي، بالنسبة لظروفنا ما زالت ملحة المشاكل التي تم حلها منذ أمد بعيد في أغلب البلدان الديموقراطية. إن الحملات الانتخابية في الآونة الأخيرة وعلى مختلف المستويات تشير بثبات إلى ميزة عامة واحدة الدور المركزي في الانتخابات وتأثير ما يسمى بالعامل الإداري. من المثير أن المحللين الغربيين حتى إنهم لا يستوعبون على الفور فحوى الحديث، إذ لا يمكن أن يخطر ببالهم أن التدخل السافر في العملية الانتخابية من قبل "القيادة" قد تكون لـه عواقب تتفق مع مصالحها ونتائج تتوخاها هذه القيادة. وبالنسبة للديمقراطيات الغربية هذا أمر مستحيل، لأن التأثير المباشر المفضوح على سير العملية الانتخابية لصالح السلطة القائمة يمكن أن تكون لـه نتائج عكسية تماماً فقط.‏
ولكن توجد حدود لمصدر التأثير الإداري في نتائج الانتخابات، كل نجاح جديد للسلطة القائمة في استخدام ذلك المصدر إنما فقط يبعد السلطة في المنظور الاستراتيجي عن الشعب، يزيد من الهوة القائمة بينهما. إذ تنضج وسط الكتلة الجماهيرية، بعد أن تولد، أنماط مختلفة عن تلك المعلنة، من سلم القيم السياسية والسلوك، ينمو باطراد عدم الثقة تجاه السلطة بشكل عام وعدم الثقة في القدرة على الحفاظ والدفاع عن المصالح الذاتية بطرق ديموقراطية، تتأجج مشاعر السخط والغليان في العقول والأفكار، ما يؤدي بمجمله ومن جديد إلى أحداث معروفة في تاريخنا: إما نحو التمرد، إما نحو دعم نظام دكتاتوري آخر . هذا وذاك يعادل الثورة من حيث النتائج، وهذا وذاك حابل بهزات وبأزمات اجتماعية جديدة، وربما بكوارث عنيفة، كما حذر من ذلك ي.أ.إيلين.
إن المسؤولية في الوضع السياسي القائم في بلادنا عن احتمال حدوث تطور غير مرغوب نهائياً إنما تقع كاملة على عاتق السلطة الحالية، لأن الشعب كشف عن عجزه في مساعدتها على العمل لما فيه مصلحة للبلاد عامة، إنه لجهل عظيم أن تختصر تلك المساعدة في أمر واحد، الثقة المطلقة بالسلطة، وفي الدعم الكامل والأعمى لكل مبادراتها وأفعالها، ففي الظروف الحالية، في هذه المرحلة من تطور النظم السياسية والاقتصادية لم يعد هذا كافياً البتة، إن التجربة السياسية للقرن العشرين تبين أن الموقف النقدي فقط تجاه السلطة والرقابة الدائمة على نشاطها من قبل المجتمع المدني وهيئاته المستقلة هما كفيلان بمنع استبدال المصلحة العامة بالمصلحة الشخصية، وضمان تطور أكثر استقراراً، وتحاشي الصراعات المدمرة والتجارب الخطيرة اجتماعياً.‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق