السبت، 30 أبريل 2016

الاستشراق والتاريخ الإسلامي

الاستشراق والتاريخ الإسلامي 
  
 الكاتب :علي محمد الصلابي 

إن من أعظم الفرق أثرًا في تحريف التاريخ الإسلامي الشيعة الرافضة بمختلف طوائفها وفرقها، فهم من أقدم الفرق ظهورًا، ولهم تنظيم سياسي وتصور عقائدي، ومنهج فكري منحرف- وهم أكثر الطوائف كذبًا على خصومهم، كما أنهم من أشد الناس خصومة للصحابة كما سيأتي معنا- فسب الصحابة وتكفيرهم من أساسيات معتقدهم وأركانه، خاصة الشيخين أبا بكر وعمر ويسمونهما الجبت والطاغوت(1)، وقد كان للشيعة أكبر عدد من الرواة والإخباريين الذين تولوا نشر أكاذيبهم ومفترياتهم وتدوينها في كتب ورسائل عن أحداث التاريخ الإسلامي، خاصة الأحداث الداخلية، كما كان للشعوبية والعصبية أثر في وضع الأخبار التاريخية والحكايات والقصص الرامية إلى تشويه التاريخ الإسلامي، وإلى إعلاء طائفة على طائفة، أو أهل بلد على آخر، أو جنس على جنس، وإبعاد الميزان الشرعي في التفاضل وهو ميزان التقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
كما أن الفرق المنحرفة قد استغلت وضع القصاص وانتشارهم وجهل معظمهم وقلة علمهم بالسنة، وانحراف طائفة منهم تبتغي العيش والكسب، فنشروا بينهم أكاذيبهم وحكاياتهم وقصصهم الموضوعة، فتلقفها هؤلاء القصاص دن وعي وإدراك ونشروها بين العامة، لقد انتشر عن طريقهم مئات الأحاديث المكذوبة على الصحابة والتابعين وعلماء الإسلام، مما يسئ لهم ويشوه تاريخهم وسيرتهم، وقد كان من فضل الله وتوفيقه أن قيض مجموعة من العلماء النقاد الذين قاموا بجهد في نقد الرواة والمرويات فبينوا الزائف من الصحيح، ودافعوا عن عقيدة الأمة وتاريخها، وجهد علماء السنة في بيان الأحاديث المكذوبة بالنص عليها وبيان الرواة الضعاف والمتهمين وأصحاب الأهواء، وفي رسم المنهج في نقد الروايات وقبولها، جهد كبير وموفق، من أبرز من تصدى لإيضاح المغالط التاريخية ورد زيف الروايات المكذوبة القاضي ابن العربي في كتاب «العواصم من القواصم»، والإمام ابن تيمية في كثير من كتبه ورسائله، خاصة كتابه القيم «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية»، وكذا الحافظ الناقد الذهبي في كثير من مؤلفاته التاريخية مثل كتاب «سير أعلام النبلاء، وتاريخ الإسلام، وميزان الاعتدال في نقد الرجال»، وكذلك الحافظ ابن كثير المفسر المؤرخ في كتابه «البداية والنهاية»، وأيضًا الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه، «فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ولسان الميزان، وتهذيب التهذيب والإصابة في معرفة الصحابة».
أما الوسائل التي استخدمت لغرض تحريف الوقائع التاريخية وتشويه سير رجال الصدر الأول من الصحابة والتابعين فهي كثيرة ونذكر منها:
• الاختلاق والكذب.
• الإتيان بخبر أو حادثة صحيحة فيزيدون فيها وينقصون منها حتى تتشوه وتخرج عن أصلها.
• وضع الخبر في غير سياقه حتى ينحرف عن معناه ومقصده، والتأويل والتفسير الباطل للأحداث.
• إبراز المثالب والأخطاء وإخفاء الحقائق المستقيمة.
• صناعة الأشعار وانتحالها لتأييد حوادث تاريخية مدعاة لأن الشعر العربي ينظر له كوثيقة تاريخية ومستند يساعد في توثيق الخبر وتأييده.
وضع الكتب والرسائل المكذوبة ونحلها لعلماء وشخصيات مشهورة، كما وضعت الرافضة كتاب «الإمامة والسياسة» الذي نسبته إلى أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري لشهرته عند أهل السنة وثقتهم به كما مر معنا.
وقد تلقف هذه الأكاذيب والتحريفات في القرن الماضي علماء الغرب وكتابه من المستشرقين والمنصرين -إبان غزوهم واستعمارهم للبلدان الإسلامية- فوجدوا فيها ضالتهم، وأخذوا يعملون على إبرازها والتركيز عليها مع ما زادوه من عندهم بدافع من عصبيتهم وكرههم للمسلمين- من الكذب مثل اختراع حوادث لا أصل لها، أو التفسير المغرض للحوادث التاريخية بقصد التشوية، أو التفسير الخاطئ تبعًا للتصور والاعتقاد الذي يدينون به، ثم شايع هؤلاء طائفة غير قليلة العدد من تلاميذ المستشرقين في البلاد العربية والإسلامية، وأخذوا طرائقهم ومناهجهم في البحث، وأفكارهم وتصوراتهم في الفهم والتحليل وتفسير التاريخ، وحملوا الراية بعد رحيلهم عن بلاد المسلمين، فكان ضررهم أشد وأنكى من ضرر أساتذتهم المستشرقين، ومن ضرر أسلافهم السابقين من فرق البدع والضلال، وذلك أنهم ادعوا كأساتذتهم- أتباع الروح العلمية المتجردة والمنهج العلمي في البحث، والحقيقة أن غالبهم لم يتجرد إلا من عقيدته، أما التجرد بمعنى الإخلاص للحق وسلوك المنهج العلمي السليم في إثبات الوقائع التاريخية، كالمقارنة بين الروايات، ومعرفة قيمة المصادر التي يرجعون إليها، ومدى أمانة الناقلين، وضبطهم لما نقلوا، وقياس الأخبار واعتبارهم بأحوال العمران البشري وطبائعه(2)، فلا أثر له عند القوم، فلم يتقنوا من المنهج العلمي إلا الأمور الشكلية مثل الحواشي وترتيب المراجع وما شابهها، وربما كان هذا هو مفهوم المنهج العلمي عندهم(3)، يقول محب الدين الخطيب: إن الذين تثقفوا بثقافة أجنبية عنا قد غلب عليهم الوهم بأنهم غرباء عن هذا الماضي، وأن موقفهم من رجاله كموقف وكلاء نيابة من المتهمين، بل لقد أوغل بعضهم في الحرص على الظهور أمام الأغيار بمظهر المتجرد عن كل آصرة بماضي العروبة والإسلام جريًا وراء المستشرقين في ارتيابهم حيث تحس الطمأنينة وميلهم مع الهوى عندما يدعوهم الحق إلى التثبت وفي إنشائهم الحكم وارتياحهم إليه قبل أن تكون في أيديهم الدلائل عليه(4).
ومن أهم الوسائل التي اتبعها المستشرقون وتلاميذهم في تشويه وتحريف حقائق التاريخ الإسلامي:
أ- التدخل بالتفسير الخاطئ للأحداث التاريخية على وفق مقتضيات أحوال عصرهم الذي يعيشون هم فيه وحسبما يجول بخواطرهم، دون أن يحققوا أولاً الواقعة التاريخية حتى تثبت ودون أن يراعوا ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة وأحوال الناس وتوجهاتهم في ذلك الوقت، والعقيدة التي تحكمهم ويدينون بها، فإنه قبل تفسير الحادثة لابد من ثبوت وقوعها وليس وجودها في كتاب من الكتب كافيًا لثبوتها(5)، لأن مرحلة الثبوت مرحلة سابقة على البحث في تفسير الواقعة التاريخية، كما ينبغي أن يكون التفسير متمشيًا مع منطوق الخبر التاريخي، وموضوع البحث، ومع الطابع العام للمجتمع، أو العصر والبيئة التي حدثت فيها الواقعة، كما يشترط ألا يكون هذا التفسير متعارضًا مع واقعة أو جملة وقائع أخرى ثابتة، كما أنه لا ينبغي أن ينظر في التفسير إلى عامل واحد كما هو ديدن كثير من المدارس التاريخية المعاصرة- وإنما ينظر فيه إلى جملة العوامل المؤثرة في الحديث وخاصة العوامل العقيدية والفكرية..ثم إن التفسير التاريخي للحوادث بعد هذا كله لا يعدو كونه اجتهادًا بشريًا يحتمل الصواب والخطأ، ولقد أبرز البعض تاريخ الفرق الضالة وعمد إلى تضخيم أدوارها وتصويرها بصورة المصلح المظلوم، وبأن المؤرخين المسلمين قد تحاملوا عليها، فالقرامطة والإسماعيلية، والرافضة الإمامية والفاطمية والزنج وإخوان الصفا والخوارج كلهم في نظرهم واعتبارهم دعاة إصلاح وعدالة وحرية ومساواة، وثورتهم كانت ثورات لإصلاح الظلم والجور، فهذا الشغب والإرجاف على التاريخ الإسلامي ومزاحمة سير رجاله ودعاته بسير قادة الفرق الضالة أمر لا يستغرب من قوم لا يدينون بالإسلام، فهم من واقع عقيدتهم يكيدون له بكل جهد مستطاع، ليلاً ونهارًا، وسرًا وجهارًا ولا يتوقع من مطموسي الإيمان وملل الكفر إلا مناصرة إخوانهم في الضلال، ولكن الأمر الذي قد يحدث استغرابًا عند البعض أن يحمل راية التشويه والتحريف بعد سقوط دولة الاستشراق كتاب يحملون أسماء إسلامية ومن أبناء المسلمين، ويقومون بنشر مثل هذه السموم على بني جلدتهم ليصرفوا بها الأغرار عن الصراط المستقيم، ولقد عمد هؤلاء إلى التشبث بالروايات المشبوهة والضعيفة، والساقطة يلتقطونها من كتب الأدب وقصص السمر والحكايات الشعبية والكتب المنحولة والضعيفة، فهذه الكتب هي مستنداتهم في الغالب مع ما يجدونه من الروايات المكذوبة في الطبري والمسعودي، مع أنهم يعلمون أنها لا تعتبر مراجع علمية يعتمد عليها، لقد وقع الاعتداء على التاريخ الإسلامي خاصة تاريخ الصدر الأول- بالتشويه عن طريق اختيار مواقف مختارة والتركيز عليها، كالمعارك والحروب مع تصويرها على غير حقيقتها حتى تزول عنها صفة الجهاد في سبيل الله، أو التركيز على الأحداث والفتن الداخلية بقصد إظهار خلافات الصحابة، - رضي الله عنهم -، وعرضها وكأنها نموذج للصراعات والمكائد السياسية في وقتنا الحاضر، وبالتجهيل وهو إهمال كل ما هو مدعاة للاقتداء والأسوة الحسنة، وبالتشكيك، وهو توجيه السهام إلى التاريخ ورجاله وإلى المؤرخين المسلمين أنفسهم والتشكيك في معلوماتهم وصدقهم، وبالتجزئة وهي محاولة تجزئة التاريخ الإسلامي إلى أوصال وأشتات وكأنها لا رابط بينها كالتوزيع الإقليمي والعرقي ونحوه، فكل هذه الوسائل والحملات تسعى إلى تدمير تاريخنا الإسلامي ومحو معالمه النيرة وإبعاده عن مجال القدوة الحسنة والتربية الصحيحة.
لذا ينبغي على المؤرخ المسلم معرفة هذه الوسائل والتنبه لها، ومعرفة الذين تابعوا المستشرقين في آرائهم ومناهجهم وعدم التلقي منهم إلا بحذر شديد، فإذا كان علماؤنا - رحمهم الله - قد نقدوا كثيرًا من الرواة وضعفوا روايتهم بسبب أخذهم عن أهل الكتاب وروايتهم الإسرائيليات، فإنه ينبغي لنا التوقف في قبول أقوال وتفسيرات من يتلقى من المستشرقين بل إسقاطها وعدم اعتبارها إلا بدليل وبرهان واضح(6).
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ عمرو بن العاص، حسن إبراهيم، ص (207، 206).
(2) الشيعة والسنة، ص (32) إحسان إلهي ظهير.
(3)، (4) منهج كتابة التاريخ الإسلامي، محمد صامل، ص (502).
(5) المصادر الأولى لتاريخنا، مجلة الأزهر سنة 1374هـ.
(6) منهج كتابة التاريخ الإسلامي، ص (504).

فلسطين وتاريخ الأديان

فلسطين وتاريخ الأديان

تُعدّ الأطروحات الحديثة الرّائجة، بشأن منشأ اليهودية والمسيحية وتطوّراتهما، صناعة للعقل الغربي بمدارسه الأساسيّة: التاريخيّة والأثريّة واللاّهوتيّة. وقد أملى امتلاك زمام المعرفة في هذه الحقول إلى إشاعة مقولات شتّى، شرقا وغربا، صارت بمثابة اليقينيات. فقد ساهم عدم الاهتمام بتواريخ المذاهب والنّحل الأديان بين العرب، بعدم مواكبة الأبحاث والتطوّرات في هذا العلم، إلى رواج عديد الأطروحات الوافدة، وتقبّل مقولاتها دون تروّ وتثبّت، أو إدراك لأبعادها ومقاصدها.
صيغ التأريخ الحديث لأديان منطقة فلسطين وما جاورها في حضن لاهوتِيي الكنيسة الغربية أساسا، بنحلهم المختلفة، ويمكن الإشارة في هذا المجال إلى عمق تأثير "المدرسة التّطبيقة للدّراسات الكتابية" - l'école pratique d'études bibliques-، المعروفة بشكل أوسع تحت تسمية:- école biblique-، في الأوساط الفرنكفونية، التي أسّسها الدّومينيكاني م.ج لاغرانج (1855-1938م)، وهو من أبرز الدّارسين الكاثوليك للكتاب المقدّس.
ترافقت عملية التأريخ الحديثة للأديان في المنطقة الشّرقية مع فترة الخروج الأوروبي من عهود الظّلمات وانبلاج عصر الأنوار، الفترة التي احتدّ فيها الصّراع بين النّموذج المسيحيّ الغربي والنّموذج الإسلامي، الذي عرضه الأتراك، وهي فترة مثّل فيها الأواخر عنوان التحدّي للكنيسة الغربية، باعتبار تركيا حينئذ ثالثة الأثافي في مصادر الخوف الرّئيسة لأوروبا القروسطية، جنب الطّاعون والشّيطان. سعى العقل الغربي، النّاهض من غفوته على إثر قرون من الغياب، بكلّ ما أتيح له، لسحب المشروعيّة الدّينية من مزاحمه الحضاري. ولذلك مثّلت تلك الفترة أعلى مراحل نَحْلنَة الإسلام، باعتباره هرطقة وبدعة منشقّة عن الأصل المسيحي. فبعد أن تعذّر النّيل من الإسلام –الحاضر في صورة العثمانيين- عسكريا، تركّز البحث للنّيل منه عقديا ورؤيويا. وتكثّفت عملية القضْم-الهدم في منطقة فلسطين وما جاورها، مستودع الميراث الرّمزي الإبراهيمي الحنيفي، من خلال مساع لتفريغها من حضاراتها السّابقة واللاّحقة، عبر إعادة صناعة مفبركة ومحوّرَة لمخزون المنطقة، غابت على إثره تشكيلات حضارية، أو هُمِّشت وبخست قيمتها.
وقد شكّل موضوع عرْقَنَة اليهودية، من خلال ربطها بجماعة بشرية محدّدة، مُيِّزت عمّا سواها، عرقًا ولسانًا ودينًا، المحور الذي بُنيت حوله النّظريات وصيغت له الدّعامات. لذلك يلاحظ المتابع للرّؤية الغربية بشأن اليهودية عرقنة لهذه الدّيانة وحصرا لها، يتناقضان مع مقرّرات البحث الموضوعي للتاريخ الدّيني في المنطقة. تَشَارَك في تلك العرقنة كتّاب متهوِّدون وآخرون كنسيِّون، شرعوا في لملمة "الهوية العبرية" انطلاقا من إبراهيم الخليل (ع) الأوري الكلداني، الوافد على فلسطين من العراق، لتُعاد الصّياغة الثانية للـ"الهوية اليهودية"، مع فترة الفوران النّبوي الذي امتدّ من موسى(ق. 12-13ق.م) إلى عزرا (ق. 5-6 ق.م)، ولتنتهي إلى إرساء "الهوية الإسرائيلية" الحالية.
كان سكّان فلسطين الأصليين ومن جاورهم، والمتقاطرين حتى تاريخنا المعاصر، أكثر الأهالي تغييبا، في تلك الخلاصة التاريخية. لذلك تجد الفلسطيني الحالي، المار عبر تحوّلاتِه التاريخية من أديان ما قبل التوراة، إلى اليهودية، إلى المسيحية، إلى الإسلام، غائبا أو ظلاًّ باهتا في أدبيات تاريخ الأديان الغربية التي أرّخت للمنطقة، وإن سَمّتهم فبنعت البدو تحقيرا وتهميشا.
لقد استشرى تلاعب علمي خسيس في أدبيات تاريخ الأديان المتعلّقة باليهود، في الأبحاث الغربية والصّهيونية الرّائجة، فنادرا ما طرحت مسألة جذور اليهودية داخل الكلّ الحضاري للمنطقة، بل جنح أغلب المؤرّخين لبناء الفرادة والعبقريّة اليهودية، بين مختلف حضارات المنطقة، كما حضر تهوين، خصوصا على المستوى الفلسفي والرّوحي، للدّيانات الأخرى، ولإبداعات الحضارات المجاورة، في العراق وسوريا ومصر وقرطاج، وإعلاء لفلسفة الوجود الدّينية والرّوحية والاجتماعية، المستوحاة من التوراة العزراوية، نسبة إلى كاتب التوراة عزرا، المسمّاة الآن بالعبرية. والتي ليست في الحقيقة سوى رواية من جملة الرّوايات التي لخّصت التجربة الدّينية في المنطقة، على مثال غيرها من الرّوايات التي يحقّ تسميتها بـ"التوراة البابلية" و"التوراة الهيروغليفية" و"التوراة السّورية".
فبرغم ادّعاءات الكتابة العلمية والنّقدية لتاريخ الأديان في المنطقة الشّرقية، لاتزال مجموعة من الأساطير تتحكّم بالمقولات الرّئيسية في المبحث، لعلّ أوغلها عمقا ما يتّصل بالتطوّر الدّيني في المشرق العربي في جانبه المتّصل بالدّيانة اليهودية. فالبحث البنيوي لظهور اليهودية وما يسمّون بالعبريين تارة وباليهود والإسرائيليين أخرى، لايزال يفتقد السّند من خارج النصّ المقدّس التوراتي، ولولا الرّواية التوراتية العزْراويّة لغابت عديد المشاهد الشّائعة اليوم من المخيال البشري. فالمنطقة عرفت اليهودية كدين، ولكن لم تعرف شعبا يهوديا بمعنى التشكّل التاريخي العرقي، ولم تزد المسألة عن تهوّد قبائل وبطون، في مراحل تاريخية عدّة.
فقد كانت اليهودية تمتدّ وتتقلّص عبر تاريخها كغيرها من النّحل التي عرفتها المنطقة، كانت مملكة ذي النّواس-ق. 6م- في اليمن يهودية ثم انقرضت وتلاشت، وفي الشّمال الإفريقي مع حلول الصّيدونيين والصّوريين- منذ ما يقارب 2300 سنة- وفدت الدّيانة اليهودية، والتي تلتها حركة تهويد موحِّدة، شاعت في المنطقة، بلغت ذروتها مع داميا المسمّاة بالكاهنة، والتي مثّلت تحدّيا للفتح الإسلامي حتى دخول حسّان بن النعمان المظفّر قرطاج (القرية الحديثة)، سنة 698م.
كلّ ذلك ضمن تطوّرات التاريخ الدّيني في المنطقة، ولكن أزلية الشّعب والدّين، أو لحمة اليهودي بتوراته، فهي من الأساطير لا الحقائق التاريخية، التي لا تصمد أمام النّقد التاريخي. لذلك لم تخرج المدرسة التاريخية اليهودية إلى اليوم من تحليلها الميتافيزيقي للأحداث، المتلخّصة في "فجئية ظهور الشّعب اليهودي"، إلى عرض قراءة موضوعية لصيرورة التشكّل تلك، إذ الأمور تبدو أعقد مما يُروَّج مع قراءات النصّ التّوراتي الحالي وأوغل.
كان المؤرّخ اللّبناني كمال سليمان الصّليبي، في كتابيه: "التوراة جاءت من جزيرة العرب"، 1986 و"خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل"، 1988 مدركا هشاشة تلك المقولات، وكان محقّا عندما قلَبَ السّائد التوراتي رأسا على عقب، من خلال قراءة تتجاوز الضّبط المصوريتي، الذي قاد إلى تحديد المعنى، حتى يصوغ بناء مستجدّا للتاريخ والجغرافيا والنصّ.
لقد صنع مؤرّخو الأديان الغربيين هويّات في المشرق وألغوا أخرى، ضمن مسالك أبحاث صبّت في معادلات هيمنة سياسية مع تطوّرات التّاريخ الحديث، انطلقت مع مشروع- Studium arabicum- ما بين 1230 و 1250 الذي هدف رأسا إلى تحويل المسلمين نحو المسيحية. ثم في فترة لاحقة نشط فيها المتهوِّدون، من بقايا الخزر والأشكيناز، ممن عملوا جاهدين لتأبيد اليهودية في جماعة إثنية محدودة تضمن لهم انتسابا وقومية، كما حاول المشاركون الكنسيون نزع اليهودية عن جذورها العامة في المنطقة وإلحاقها بالوهم السّامي، النّعت الهلامي الذي استصنعه شلوزر الألماني. فالتقى الثنائي، صنّاع الهوية المتهوّدون والمؤرّخون الكنسيون، على أن العرب غرباء عن دين أبيهم إبراهيم، ولا شأن لهم بعبقرية الدّين التوحيدي، المتلخّص عندهم أساسا في اليهودية وربيبتها المسيحية، ذات الجذور اليهودية. وتعمّق ذلك التمشّي حتى عُزِل الإسلام خارجا لاحقا، وحُشِر ضمن تفسير النِّحلة الخارجة من عباءة المسيحية، كما رُوّج طيلة القرون الوسطى وحتى مطلع التاريخ الحديث في الأدبيات الكنسية والاستشراقية. وكأنّ المسيحية الغربية، ضمن تطوّراتها في الأطراف، تسعى بكلّ جهدها لإغلاق تطوّر التاريخ الدّيني المشرقي لتحصر منتهاه في المسيحيّة المكثْلَكة، وتأبى أن يستمرّ الشّرق حفيظا على التوحيد الإبراهيمي، ومن ثمة كان عزل الإسلام، الذي نشهد تبعاته الخطيرة اليوم.
وربما المتمعّن في النّصوص الكانونية الفاتيكانية المعاصرة، لا في ظاهرية الخطاب الحواري الدّعائي، الموجّه للاستهلاك الشّعبي، يلحظ عمق ذلك التأكيد على عزل الإسلام، ضمن ادّعاءات مقولة "التّراث المشترك" التي تربط المسيحية الغربية باليهودية لا غير، والتي تلخّصت في النصّ الكنسي القانوني "نحن نتذكّر: تأمّلات في المحرقة"، الذي أصّل لاهوتيا لتلك العلاقة، والذي أشرف عليه الكردينال إدوارد إدريس كاسيدي في 12 مارس 1998.
لقد غاب الرّبط الواقعي بين الحلقات الثّلاث، لتفصل الحلقة الثالثة، التي يمثّلها الإسلام. كما تدعّم التركيز على تغييب الخلاصة التي يمثّلها هذا الأخير، خصوصا خلال القرن التّاسع عشر والعشرين بفعل نشأة التفكير فيما يسمّى بالدّولة العبريّة. والمتابع لمواقف الكنيسة الغربية من اليهودية واليهود عبر تحوّلات الدّهور، يصاب بالدّهشة من مواقفها الرّجراجة، التي تبدّلت من القول بـ"قتلة المسيح" إلى "الإخوة الكبار".
كان مطمح العقل التاريخي الغربي تفريغ العرب من تراثهم، مدفوعا في ذلك بصراع قديم جديد معهم، يقلقه فيه استحواذهم على أهمّ مخزون تراثي وتاريخي وأسطوري للأديان الإبراهيمية. والمعركة على رمزيتها، ذات أثر في الواقع، فقد كان هدف الكنيسة فيها زعزعة الأسس الثّابتة التي تربط الإسلام باليهودية والمسيحية الأصليتين، لا اليهودية والمسيحية المصطَنَعتين، الأولى في شكلها المصهْيَن والثانية في شكلها المكثْلَك.
جانب آخر من ذلك الدّور خاضه المتهوِّدون الأوروبيون، فبفعل اندماجهم في المجتمعات الغربية، جَعَلَهم ذلك على حساسية مرهفة لإدراك توجّهات الغرب، الأمر الذي يسّر لهم البحث عن هوية دينية منعزلة، جرى فيها تشويه ونهب تراث المنطقة، واغتنموا ما يروّج عمّا يربطهم بالغرب من تراث ديني مشترك، فعملوا جاهدين على إقناعه أن الرّسالة المسيحية وليدة العبقرية اليهودية، وأن قوّة المسيحيّة الغربية فيما يدعمها من سند يهودي، وإلاّ كانت بدون جذور. داخل تلك العملية ما كان الغرب يخشى المتهوِّدين الخارجين من تحت بطانته، بل القراءةَ العربية لليهودية ضمن الشّمول الحضاري للمنطقة.
ولكن تلك القراءة لا تزال غائبة، فالعرب في التاريخ الحديث يستهلكون تعريفين بشأن اليهود: الأوّل مستمدّ من المفاهيم المتناثرة بشأنهم في الكتب المقدّسة الشّرقية، وفي كتب التاريخ الإسلامي والإسرائيليات والأسطوريات وليدة المنطقة، وهي تفتقر للصّياغة العلمية بحسب مقتضيات التطوّرات المستجدّة؛ والثّاني من مفاهيم صنعتها الآلة الاستشراقية الغربية في الزّمن الحديث، ينساق خطابها ضمن التّوظيف العلمي، ويصعب على غير المختصّ إدراك تناقضاتها. لذلك تجد العرب يردّدون مقولات "الشّعوب السّامية" و"اللّغة السّامية" و"اللّغة العبرية" و"إبراهيم العبري" وما شابهها، وهي مقولات غربية المنشأ جاءت ضمن صياغات مدرسة تاريخ الأديان الغربية حول المنطقة. والصّواب كما اقترح د. فاضل عبد الواحد علي في كتابه: " من سومر إلى التوراة"، 1996، إقرار "الجزريون" مقابل "السّاميون"، بناء على أن شعوب المنطقة ولغاتها كان موطنها الأصلي جزيرة العرب. وبالمثل لو أخذنا مقولة "اللّغة العبرية"، فهي لم تعرف بهذا النّعت إلاّ بعد السبي البابلي، فقد كانت تسمّى بلغة كنعان كما يظهر في سفر إشعياء 18:19. وما إبراهيم إلاّ اسما مشتقّا من الرّهام ومعناها الكثرة، وبنو رهم بطن من العرب، وأنّ أبا رهم من الأسماء الدّارجة عند العرب كأبي رهم بن مطعم الأرجي الشّاعر، وأبي رهم كلثوم الغفاري الصّحابي، وأبي رهم السّبعي التّابعي، ورهيمة أيضا هي عين بين الشّام والكوفة، وهو ما أفاض في شرحه ثروت أنيس الأسيوطي.
لايزال التّذبذب والتّداخل يحكم الأدبيات العربية بشأن اليهوديّة، والذي يبلغ حدّ التّناقض التأسيسي. فهل اليهود أمّة من العرب، هادت واحتكرت الدّيانة حتى صار الدّين نعتا اِلتحم بالنّاس، فتشكّلت القومية المزعومة اليوم، التي نحت نحو الانفصال عن الكلّ الجمعي، أم هم أمّة من دون العرب؟ تبدو تلك الأسئلة الحضارية بشأن التّراث المشرقي والبحث عن إجابات علمية لها يتيمة التّناول والمعالجة، جرّاء الاستهلاك المباشر للمقول السّياسي، والذي تبدو الحاجة ماسة للتخلّص من حصاره.
فلئن يشهد العرب اليوم عنتًا في تسوية عادلة لمسألة فلسطين سياسيا ضمن تجاذبات الغرب مع العالم الإسلامي، فإن ذلك العنت عائد في جزء منه للنّظرة السّياسويّة المفرطة لفلسطين وعدم توظيف المخزون الحضاري للمنطقة لتصحيح مقولات السّياسة، جرّاء ما شاع في قراءاته من أخطاء. فتصحيح مقولات السّياسة يجد جانبا من تصويبه في تاريخ الأديان

كيف نكتب التاريخ الإسلامي ؟

كيف نكتب التاريخ الإسلامي ؟ 
 
{ للأمانة...الكاتب ::محمد قطب - عرض: عثمان ضميرية}
الواقعة التاريخية حادثة مفردة تقع مرة واحدة ثم تنقضي ولا تتكرر.
وإذا كان الباحثون والمؤرخون يتفقون على وقوع الحادثة فإن تفسيرهم لها وتعليلهم لأسبابها ودوافعها يختلف باختلاف المنهج الذي ينتهجه كل منهم، متأثراً في ذلك بعقيدته وتكوينه الفكري والثقافي، وتصوراته التي ينطلق منها في النظر للحياة البشرية، ودور الإنسان في هذه الأحداث.
ولذلك كانت الدعوة إلى كتابة التاريخ البشري كله " من زاوية الرصد الإسلامية التي تقيس الإنجاز البشري بالمعيار الرباني، أي بمدى تحقيق الإنسان لغاية وجوده التي خلقه الله من أجلها.. ؛ لأن هذا التاريخ يقدَّم لنا من زوايا تختلف اختلافاً جذرياً عن زاوية الرصد الإسلامية، فلزم أن نعيد كتابته ليتناسق مع الرؤية الإسلامية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فتكون لنا وحدة في التصور تتناسب مع كوننا مسلمين".
ولئن كان ذلك ضرورياً بالنسبة للتاريخ البشري عامة - خارج نطاق الأمة الإسلامية - فإن الضرورة أشد والحاجة أكثر دينياً ومنهجياً لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي خاصة.
-2-
والكتاب الذي نعرضه قديم جديد، وهو للمفكر الإسلامي الأستاذ الداعية محمد قطب - حفظه الله - وبارك في عمره وجهده وجهاده - والكتاب ضميمة جديدة مكملة لما سبقه من أبحاث وكتب، وقدمها الأستاذ محمد قطب - ذات صلة بالموضوع - مثل " واقعنا المعاصر" و " حول التفسير الإسلامي للتاريخ"..
أما إنه كتاب قديم، فلأنه " كان مكتوباً منذ خمسة عشر عاماً على الأقل، إن لم يكن أكثر، ولم يُقدَّر له أن يُنشر خلال المدى الطويل، لأنه كان في حاجة إلى مراجعة أخيرة".
وأما إنه كتاب جديد، فلأنه يُنشر لأول مرة في طبعته الأولى منذ العام 1412هـ نشرتين متزامنتين، صدرت إحداهما عن (دار الأفق) بالرياض، والأخرى عن (دار الشروق) بالقاهرة [1].
-3-
وكتابنا هذا (كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟ ) يتضمن الصورة الأخيرة لتفكير الأستاذ محمد قطب في موضوع كتابة التاريخ الإسلامي، ويقدم منهجاً إسلامياً وإطاراً للفكرة ذاتها.
وهو يشعر جيداً - منذ البداية - بضخامة هذه المهمة وخطرها، ومدى الجهد اللازم لإنجازها.
فهي أضخم من أن تكون جهد أفراد متفرقين في جيل من أجيال المسلمين، إنما تحتاج إلى جهد جماعي منظم تقوم به مؤسسات متخصصة على مدى قد يمتد بضعة أجيال..
ومع ذلك فلابد من القيام بهذا العمل، رغم المشقة البالغة فيه، لأنه ما من أمة تستطيع أن تعيش بلا تاريخ ممحص محقق ميسر التناول على جميع المستويات..
ولذلك يدلي الأستاذ محمد قطب بدلوه المتواضع (كما يصفه فضيلته) في أمر المنهج الذي ينبغي أن تعاد على أساسه كتابة التاريخ الإسلامي، ومما نقتطف منه مقتطفات سريعة، لعلها تلقي ضوءاً في مراجعة عامة للكتاب، والله الموفق.
-4-
هناك عدة ملاحظات في أكثر من اتجاه، تجعلنا نلح على ضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي: * فإذا نظرنا إلى المصادر الإسلامية القديمة، نجد فيها ذخيرة ضخمة من الأخبار والوقائع والروايات، تصلح زاداً للمتعمق، ولكنها - بصورتها الراهنة - لا تصلح للقارئ المتعجل الذي يريد خلاصة جاهزة ممحصة، سهلة الاستيعاب والهضم..
* وإذا نظرنا، من ناحية أخرى، إلى معظم المراجع الحديثة المتأثرة بالمنهج الاستشراقي، نجدها مكتوبة بصورة جذابة مغرية بالقراءة من ناحية الشكل، ولكن عيبها من الناحية المنهجية أن أغلبها بعيد عن الأمانة العلمية الواجبة، ملون تلويناً لتحقيق هدف معين، تكنّه صدور لا تحب الخير لهذا الدين.
* وسواء أكانت هذه المراجع من تأليف المستشرقين مباشرة، أو من تأليف تلاميذهم، فإن هذا العيب المنهجي الخطير يجعل مراجعهم غير صالحة للاستمداد منها، ويجعل إعادة النظر فيما تناولته من وقائع وتفسيرات - أمراً بالغ الأهمية..
* وهناك عيب رئيسي آخر في تلك الكتابات والمناهج بصفة عامة هو التركيز على التاريخ السياسي للمسلمين على حسساب نجقية مجالات الحياة الإسلامية: العقَدية والفكرية، والحضارية، والعلمية والاجتماعية..
إلخ، وذلك يعطي صورة مشوهة ممسوخة! وذلك أن تقسيم التاريخ إلى مراحل سياسية، والحديث عن كل مرحلة، كأن هناك حدوداً فاصلة في مجرى التاريخ كله تفصل بين عهد وعهد، وتجعل كل عهد قائماً بذاته - هذا المنهج يقطع التواصل التاريخي بين أجيال هذه الأمة، كأنما لم تكن أمة واحدة متصلة، وكأنما لم تكن بالذات هي (الأمة الإسلامية).
* وأمر آخر من أمور الدلالات التاريخية نفتقده حين يغيب عنا المنهج الصحيح لدراسة تاريخ الأمة الإسلامية هو: علاقة أوضاع هذه الأمة - في خصوصيتها التي أخرجها الله من أجلها - بأوضاع البشر على اتساعها..
-5-
ولذلك فحين نعيد كتابة التاريخ الإسلامي ينبغي أن نوجه انتباهنا إلى أن التاريخ ليس مجرد أقاصيص تُحكى، ولا هو مجرد تسجيل للوقائع والأحداث..
إنما يدرس التاريخ للعبرة، ويدرس للتربية.
وكل أمة تصوغ تاريخها بحيث يؤدي مهمة تربوية في حياتها.
وهذا ما نفتقده في الكتابات المعاصرة لتاريخنا!، التي تشتت ولاء المسلم وتجعله متذبذباً بين الإسلام وتلك الجاهليات التي يبعثها المستشرقون..
فينبغي - إذن - كتابة التاريخ الإسلامي بحيث تؤدي مهمة تربوية في تخريج أجيال مسلمة تعرف حقيقة دينها وتتمسك به، وتعمل على إحيائه في نفوسها وفي واقعها..
-6-
* وفي سبيل تحقيق هذا الهدف التربوي علينا أن نبرز جملة من المعاني في تاريخ الأمة الإسلامية، لا نجدها بارزة المعالم في كثير من الدراسات المستحدثة على وجه الخصوص: 1 - أن التوحيد هو النعمة الكبرى التي أضفاها الله على هذه الأمة، وهو الهدف الأكبر الذي أُخرجت هذه الأمة من أجله، وكُلفت بنشره في الأرض، التوحيد بمعناه الكامل الشامل الذي يعمل في مساحة واسعة تشمل الحياة كلها.
2- يجب أن نتبين من دراسة التاريخ أن التوحيد حركة تحريرية شاملة للإنسان كله، وللحياة من كل جوانبها..
وأنه الذي أنشأ أمة فريدة في التاريخ تجتمع على أساس العقيدة، التي تليق أن يجتمع الناس حولها وعليها.
3- وأن نتبين كذلك أن حركة الفتح الإسلامي كانت حركة فريدة تختلف عن كل الحركات التوسعية في تاريخ الأمم كلها، من حيث الهدف والآثار.
4- ثم تولدت عن حركة التوحيد الكبرى حركة علمية وحركة حضارية متميزة.
* هذا كله بعض ما ينبغي إبرازه في إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية في عصر صدر الإسلام.
ومرحلة المد الإسلامي، فإذا درسنا فترة الانحسار فيجب أن ننظر فيها إلى جملة من العوامل الداخلية النفسية، وهي تعطينا الأسباب الحقيقية للانحسار الذي نشأ عن بُعد هذه الأمة عن مصدر قوتها وعزتها، وعندئذ زال التمكين لها، وكانت سنة الله في تمكين غيرها لأمد.
* وفي الجولة الأخيرة من حياة هذه الأمة (واقعنا المعاصر) ينبغي التنبه إلى أمور كثيرة في كتابة تاريخها لكثرة ما دُسَّ فيها من عوامل التشويه والتوجهات السامة التي يقصد بها التدمير، كالإيحاء بأن الإسلام قد استنفد أغراضه، وأن اتخاذ الحضارة العلمانية منهجاً للحياة هو طريق الإنقاذ وسبيل التقدم! وكذلك إبراز التيارات الهدامة الوافدة مع الغزو الفكري، من وطنية وقومية واشتراكية، وتمجيد أصحابها وتصويرهم بصورة الأبطال مع إهمال البطولة الحقة في تاريخنا الإسلامي، وأخيراً: تصوير الصحوة الإسلامية على أنها الخطر الداهم الذي سيؤدي بالعالم إلى الدمار..
-7-
تلك أمور تدعو لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي من جديد، وفي فصول الكتاب تفصيل وتطبيق للمنهج الذي أقام معالمه الأستاذ محمد قطب، ولذلك جاء الحديث عن (الجاهلية) و (الإسلام) و (البعثة وصدر الإسلام) ثم (المد الإسلامي) ودراسة (بدء الانحسار) لأخذ العبرة لتكون زاداً على طريق (الصحوة الإسلامية) التي تبشر بتحقيق وعد الله - سبحانه - لهذه الأمة بالتمكين والنصر عندما تفي بشرط ذلك كله، ثم يغلق الكتاب بهذه العبارة المتفائلة التي تصدر عن إيمان عميق بوعد الله - سبحانه - وبشارة نبيه - صلى الله عليه وسلم -: وهو يستشرف المستقبل الزاهر: (وذات يوم - مقدَّر في علم الله - ستأتي الجولة الممكّنة للإسلام، التي بشر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم: 4-6]).
-8-
وبعد..
فإنه كتاب جدير بالقراءة، بل جدير بالدراسة المتأنية العميقة، ولعل أصحاب الاختصاص من كُتاب التاريخ الإسلامي يبدون رأيهم في هذا المنهج ككتابة التاريخ الإسلامي، فقد يضيفون جديداً أو يستدركون فكرة، أو يؤيدون صواباً.
ونسأل الله - تعالى - أن يبارك في جهد المؤلف، وأن ينفع به وبعلمه، وأن يهيئ له من الأسباب لإنجاز ما وعد به من كتب تالية، وأن يتقبلها عنده.
(1) وأجد هذا مناسباً للإشارة إلى ملاحظة غاية في الأهمية، في طريقه الأستاذ ومنهجه في الكتاب والتأليف؛ فهو يتأنى ويتأنق في كتبه، فيكتبها بعد أن تنضج الفكرة ثم يراجعها ويعيد مراجعتها وقد يتوقف الكتاب عن النشر سنوات تبلغ عِقدين أو ثلاثة - يُصدر أثناءها عدداً من الكتب والدراسات - لأنه يحتاج إلى مراجعة أو إضافة وهذا يعني أنه يخرج للقراء كتاباً ناضجاً، وبحثاً نافعاً، يمكث في عقول الناس وقلوبهم، كما يحتل مكانه اللائق في مكتباتهم ولعل في ذلك درساً لأصحاب الزبد من الكتب، الذين يتطلعون لإصدار كتاب جديد كل شهر، ليضربوا بذلك رقماً قياسياً في عدد المؤلَّفات والمنشورات!، يسودون أوراقاً يزعمونها تأليفاً، ثم يقذفون بها لتخرج كتاباً (خديجاً)، لا غَناء فيه ولا خير، وإن كان فهو غناء قليل! والكتب كالإبل، مائة لا تجد فيها راحلة، وهذه الكتب مائة لا تجد فيها كتاباً!.

الدولة المدنية بين الإسلام ومكتسبات الحضارة المعاصرة.. نظرة تاريخية

الدولة المدنية بين الإسلام ومكتسبات الحضارة المعاصرة.. نظرة تاريخية 
 
{ للأمانة...الكاتب ::خالد صقر}
"الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع‏".
هذا هو النص الرسمي للمادة الثانية من الدستور المصري، والتي خضعت مؤخراً ومع قيام ثورة 25 يناير لجدل غير مسبوق ومطالب لحذف هذه المادة، أو على أقل تقدير لتعديلها، وقد سبب هذا الجدل حتى الآن قدراً لا بأس به من المواجهات الفكرية بين المجموعات السياسية التي شاركت في الثورة، وهي تنقسم إلي ثلاث مجموعات يمثل أولها الشباب الثائر، أو من يطلقون على أنفسهم "شباب ثورة 25 يناير" وثانيها يضم تجمعاًً للأحزاب السياسية الرسمية، وثالث هذه المجموعات هي حركة الإخوان المسلمين وبعض الأطياف الإسلامية الأخرى، وقد دارت هذه المواجهات الفكرية بشكل غير مباشر في صورة تصريحات متبادلة بين المنتمين إلي المجموعتين الثانية والثالثة، ووقف شباب الثورة في موقف محايد أو قل إن شئت حائر بين تأييد مطالب الأحزاب بحذف المادة الثانية وبين الوقوف في صف الإخوان المطالبين ببقاء هذه المادة.
ويرجع المطالبون بإلغاء المادة الثانية مطلبهم هذا إلي التعارض المقترح بين المقتضيات التشريعية لهذه المادة وبين نموذج "الدولة المدنية" الذي تطالب به الثورة المصرية من خلال أطيافها السياسية المختلفة، ولكن حتى الآن لم يطرح على هامش هذا المطلب أي مناقشة تاريخية أو موضوعية لماهية "الدولة المدنية" ومنظوماتها السياسية والفكرية والثقافية حتى يتمكن الجمهور من تكوين رأي عام مناسب للتعاطي مع هذه الأطروحات بموضوعية، فكان هذا هو الدافع الرئيسي لكتابة هذا المقال.
1- نشأة مصطلح الدولة المدنية:
إن كلمة "المدنية" ليس لها أصل لغوي في اللغة العربية، ولكن أقرب كلمة لها - كما جاء في القاموس المحيط هي "تمدين" و تعني التنعم، فكلمة "مدنية" تشير لغوياً فقط إلي نسبة الأنثى إلي المدينة المنورة، ولا تشير إلي المعني المتداول الآن والذي يكتنفه الكثير من الغموض الذي ستوضحه السطور التالية إن شاء الله.
كلمة "مدنية" هي بلا شك كلمة معربة من الكلمة الإنجليزية Civil، والتي بدورها كلمة مستحدثة في اللغة الإنجليزية وتعني في أصلها "الحضارة" وعندما نقول مستحدثة نقصد أنها ترجع لبضعة مئات من السنين فقط، فأقدم كتابة معروفة لكلمة “الحضارة” Civilization باللغة الإنجليزية ترجع إلى عام 1767 ميلادية في مقال لآدم فيرجسون [1] بعنوان “تاريخ المجتمع المتحضر” ومن الملاحظات المثيرة للجدل، بل والتعجب، في هذا المقال التاريخي أن الكاتب كان يستخدم مصطلح “الحضارة” كمقابل لغوى لمصطلح “التوحش” أو “البربرية” وليس للدلالة على المعنى المتداول الآن تحت هذا المصطلح، ولا يزال هذا هو المعني المسيطر على كلمة Civil في أهم القواميس الإنجليزية كقاموسي أكسفورد وكامبريدج.
إذاً كلمة "مدنية" ليس لها أصل لغوي في العربية، ومعناها الاصطلاحي مشتق من أصلها الإنجليزي والذي يعني "التحضر" الذي يقابل الهمجية أو الوحشية، وهذا المعني تمت صياغته في عصر الاستعمار الأوروبي حيث كان يستخدم كمبرر لاحتلال البلاد الأفريقية والعربية من أجل نشر هذه "المدنية" فيها، ويقصد بالمدنية منظومة قيم المجتمع الغربي في ذلك الوقت بشكل عام، وهذه المنظومة القيمية Value System بدورها نتجت عن ما يسمي "بعصر التنوير" الذي رفض فيه الأوربيون سلطة الكنيسة على الحياة العامة والخاصة ورفضوا فكرة "قدسية" العهدين القديم والجديد وانعكاس هذه القدسية على مظاهر الحياة، وحدث هذا الرفض نتيجة التعارض المفرط بين مكتشفات العلوم الطبيعية كالفيزياء والفلك في ذلك الوقت وبين نصوص العهدين القديم والجديد، كما سيتضح بشكل أكثر تفصيلاً في السطور التالية.
2- عصر التنوير الأوروبي وأسباب الثورة ضد سلطة الكنيسة:
من الضروري أن نعرض بعض المعلومات التاريخية الأساسية عن دوافع ما يسمي ‏‏"بحركة التنوير" التي أشعلت وقود الثورة بين الشعوب الأوروبية وبين الكنيسة ‏الكاثوليكية في القرون الميلادية الوسطي، مما أفرز لنا المنظومة الخلقية التي أطلق ‏الأوربيون عليها "المدنية" وسعوا لنشرها في البلاد التي استعمروها في تلك ‏الحقبة وما تلاها من خلال تحويلها إلي نظام سياسي في بلادهم وفي البلاد التي قاموا ‏باحتلالها. ‏
‏- “وكل دبيب الطير الماشي على أربع فهو مكروه لكم” سفر اللاويين 11 20 ‏
‏- “وبعد هذا رأيت أربعة ملائكة واقفين على أربع أركان الأرض، ممسكين أربع ‏رياح الأرض لكي لا تهب ريح على الأرض، ولا على البحر، ولا على شجرة ما” ‏سفر الرؤيا 7 1‏ ‏ ‏
‏- “الذي أمسكته من أطراف الأرض، ومن أقطارها دعوته، وقلت لك: أنت عبدي. ‏اخترتك ولم أرفضك” سفر أشعياء 41 9‏ ‏ ‏
‏- “ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض: جوج وماجوج، ليجمعهم ‏للحرب، الذين عددهم مثل رمل البحر” سفر الرؤيا 20 8‏ ‏ ‏
‏- ” فيرسل حينئذ ملائكته ويجمع مختاريه من الأربع الرياح، من نهايات الأرض إلى ‏نهايات السماء” إنجيل مرقس 13 27‏ ‏ ‏
كانت مثل هذه النصوص التي يمتلئ بها العهدين القديم والجديد بمثابة الوقود الذي ‏أشعل نار الحرب بين العلماء الأوربيين في القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين ‏وبين الكنيسة الكاثوليكية، حيث وجد هؤلاء العلماء استنادا على مشاهداتهم ‏وتجاربهم أن مثل هذه النصوص تتعارض مع اكتشافاتهم العلمية، ‏وبالتالي فيستحيل أن يعتقدوا أنها “إلهية” ‏Devine‏ أو “مقدسة” ‏Holy‏ بينما اتهمتهم الكنيسة ‏في المقابل بالهرطقة والإلحاد والخروج على تعاليمها وإنكار عصمة الكرسي البابوي، ‏وبالطبع فإن مناقشة تلك الحرب بالتفصيل ليس من أهداف هذا المقال، ‏وللقارئ أن يستعين بالكثير من الكتب التي فصلت هذا الصراع وبينت مواقف الكنيسة ‏من العلماء مثل جاليليو وكوبيرنيكوس مثل كتب جيري بروتون[2]‏ وجاك ريبشيك‏‎ ‎[3] والتي تعرض بالتفصيل كيف كان رد فعل الكنيسة، وهى في ذلك الوقت الذراع اليمنى ‏للملكية الأوروبية، تجاه هؤلاء العلماء.
أما بعد أن بعد أن بدأ صوت هؤلاء العلماء ‏يعلو فوق صوت الكنيسة فقد بدأ رجال الدين الكاثوليكيين ينقسمون بين محافظين ‏يرون أن حرق هؤلاء العلماء أحياءاً فى محاكم التفتيش هو الحل الناجع للإبقاء على ‏سلطة الكنيسة، كما حدث لكوبيرنيكوس، وبين متحررين يرون أن الحل هو إعادة ‏صياغة أو تأويل هذه النصوص الإنجيلية والتوراتية لتتوافق مع مستجدات العلم ‏التجريبي الناشئ، ولكن سرعان ما انهزمت الطائفة الثانية وبقى الكاثوليك متقوقعين ‏ذاتيا على نصوص تناقض الواقع والحس والمشاهدة، مما دفع بالجماهير الأوروبية ‏المنبهرة بالاكتشافات العلمية والاختراعات الجديدة إلى الانبهار بمارتن لوثر ودعوته ‏الاعتراضية ‏Protestantism‏ على سلطة الكنيسة، ورغبته في فصل الحياة عن ‏الدين وعزل الكنيسة عن العلم المادي. ‏
يقول القس جيمس ماكفرى في كتابه “تاريخ الكنيسة الكاثوليكية من عصر النهضة إلى ‏الثورة الفرنسية‎”‎‏ [4] ‎ ‎حاصراً الأسباب التي أدت إلى (الإنكار العالمي) للعقيدة المسيحية ‏في تلك الحقبة، وهى في اعتقاده نفس الأسباب التي أدت إلى ظهور البروتستانتية ‏كعقيدة موازية في ذلك الوقت: ‏
‏” لقد كانت الأسباب الرئيسية التي مهدت الطريق أمام هذا الإنكار العالمي للعقيدة ‏المسيحية هي: ‏
‏1. ‏ الانتشار الواسع للجاليكانية ‏Gallicanism‏ والجانسينية ‏Jansenism‏ وما ‏استتبعه من إهدار للطاقة في الصراع الذي دار حول هذين المنهجين.
‏2. ‏ حالة السبات الفكري التي سببها الاستعباد الكنسي والبابوي للشعوب الأوروبية.
‏3. ‏ انسحاب أعداد هائلة من الطلبة الدارسين للعلوم الإكليركية.
‏4. ‏ القمع التي تعرضت له “جماعة اليسوعيين” ‏Society of Jesus‏ وهم من أشد ‏المؤيدين والمؤمنين بالعقيدة الكاثوليكية”‏.
ويستطرد ماكفرى واصفا الحالة الفكرية والعقائدية في تلك الحقبة قائلا: “لقد كان ‏انتشار النظريات المنطقية ‏rationalist theories‏ أكبر النجاح في إسقاط الهيبة التي ‏كانت قد عقدت في قلوب المسيحين في ذلك الوقت تجاه العهد الجديد الذي كانوا ‏يعتبرونه الوحي الإلهي للبشر والمصدر الأوثق للعلوم، وقد استمرت هذه النظريات ‏في الانتشار، تبعاً لتعاليم مارتن لوثر، بغض النظر عن مدى تأثر كل منها أصوليا ‏بتلك التعاليم، داعية لإخضاع نصوص العهدين القديم والجديد لسلطة العقل والإدراك ‏البشريين بدلا من سلطة الكرسي البابوي" أ. هــ.
يتضح لنا من النقاش السابق، بما لا يدع مجالاً للشك، أن ثمة صراع حضاري ‏وثقافي دار في أوروبا بين نخبة من العلماء الطبيعيين والفلاسفة من جهة وبين ‏الكنيسة والسلطة الملكية التي تستمد شرعيتها من الكنيسة من جهة أخري، استمر هذا ‏الصراع مدة تقارب المائتي عام، سميت هذه الفترة وما تلاها بعصر "التنوير" ‏Enlightment‏ أو عصر "النهضة" ‏Renascence‏ وذلك لأن رؤية تلك النخبة من ‏العلماء والفلاسفة لسلطان الكنيسة ممثلة في عصمة البابا وقدسية العهدين القديم والجديد كانت ‏تتمحور حول كون تلك هذه السلطة وتلك القدسية "ظلاميتين"، تدعوان إلي الجهل ‏والتخلف ونبذ العلم وهجر المعرفة، وكان هذا نابعاً من الصدام القاتل الذي حدث بين ‏الاكتشافات العلمية في ذلك الوقت وبين نصوص كثيرة من العهدين. هذا الصراع ‏الحضاري والثقافي استمر حتى ثقلت كفة العلماء والفلاسفة في نهاية الأمر، وبدأت ‏الجماهير في أوروبا في الالتفاف حولهم وحول مارتن لوثر أيضاً؛ لأن دعوته كانت ‏تتواءم إلي حد ما مع مقتضيات العصر في ذلك الوقت، حيث دعا إلي فصل الدين ‏عن الحياة العامة وعن العلم بشكل خاص، ودعا إلي صياغة تفسيرات "متغيرة" ‏لنصوص العهدين بحيث لا تصطدم مع مكتشفات العلوم، فبدأت المجتمعات ‏الأوروبية في التخلي تدريجيا عن "المنظومة القيمية" و"الإطار الأخلاقي" الذي كان ‏مستمداً من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية‏‎، وبدأ في استحداث منظومة قيمية جديدة، ‏وصياغة تعريفات جديدة لبناء "إطار أخلاقي" يتماشي مع رغبة الإنسان الأوروبي في "الاستغناء ‏عن الدين" متمثلاً في النصرانية، وتبعت هذه الثورة الخلقية مباشرة الثورة الصناعية ‏في إنكلترا التي واكبت عصر الاستعمار في أوجه. ‏
وعلي هذا، وفي خلال ما يقارب المائة عام، تم صياغة المفاهيم الأساسية التي تشكل "الدولة المدنية" التي أراداها الأوربيون، وهذه المفاهيم هي:
1. الاستغناء بشكل كامل عن أي قوانين أو منظومات اجتماعية أو سياسية مستمدة من العهدين القديم والجديد.
2. تحكيم الأغلبية العددية الديمقراطية كمنظومة لصناعة القرارات السياسية المؤثرة على الحياة العامة في المجتمعات الأوروبية لتجنب الصدام بين الجماهير وبين الحكام.
3. وضع مكتشفات العلوم الطبيعية كبديل للدين من حيث الإجابة عن الأسئلة الأساسية في الفلسفة، كماهية الكون وبدايته وهدف الحياة وطبيعة الجنس البشري...إلخ، ومحاربة أي محاولة للعودة لتعاليم العهدين القديم والجديد كمرجع للإجابة على هذه الأسئلة، وكان هذا الربط بين العلوم الطبيعية التجريبية وبين الفلسفة ضرورياً لضمان استمرار حرية البحث العلمي وتأمين مكتشفاته.
3- مشكلة الطرح المعاصر لفكرة الدولة المدنية:
بدأت المؤلفات الفلسفية والاجتماعية الأوربية في هذا الوقت بالإشارة إلي المنظومة الأخلاقية والقيمية التي تكونت بعد الإطاحة بالكنيسة والعهدين باسم "الحقوق المدنية" وبدأت الإشارة إلى هذه الحضارة الناشئة باصطلاح Civilization، وبدأ تصدير هذا المصطلح إلي العالم الإسلامي مع جحافل المستغربين الذين زج بهم محمد علي وأبناؤه إلي أوروبا، وظهر لأول مرة في الأدب العربي في كتابات رفاعة الطهطاوي الذي ربما يكون أول من أدخل هذا المصطلح إلى العربية في عام 1870 في كتابه "مناهج الألباب"، وبينما بذل الطهطاوي جهداً جهيداً في ترجمة ونقل المصطلح والعديد من المصطلحات الأخرى المتعلقة به، فإنه لم يتطرق على الإطلاق في مغزاه من ترجمة ونقل هذه النظريات والأفكار إلي العربية، ولم يتطرق إلي وجه التشابه بين الصراع الدامي الذي خاضه الأوربيون ضد سلطة الكنيسة الفاسدة والقدسية الزائفة للعهدين القديم والجديد وبين المجتمعات الإسلامية التي لم ولن تخوض صراعاً مماثلاً مع الإسلام! وسكوت الطهطاوي عن مثل هذه المقارنات القاتلة يوضح بما لا يدع مجالاً للشك حالة الانبهار والانسلاخ من الهوية التي كان يعاني منها الطهطاوي، ومعه الكثير من أقرانه أيضاً، بعد عودتهم من فرنسا.
ومنذ ذلك الحين، فالكتاب المعنيون بالشأن السياسي العربي مع اختلاف توجهاتهم الأيديولوجية يقومون بطرح فكرة "الدولة المدنية" بمفهومها الأوروبي - المستمد من الصراع بين مكتسبات الحضارة الإنسانية وسلطة الكنيسة الكاثوليكية في الأدبيات السياسية العربية، بدون التعرض بالشرح والمقارنة لأوجه التشابه بين النصرانية وكتابها المقدس والإسلام بمصادره التشريعية، بما يمكن أن يسوغ مثل هذا الطرح. فنري العديد من المقالات الآن للكثير من الناشطين السياسيين المصريين يطالبون بإلغاء المادة الثانية من الدستور لأنها تعارض قيام "دولة مدنية" في مصر بدون أن يكلفوا أنفسهم أدني جهد لبيان التعارض بين الشريعة الإسلامية وبين مكتسبات الحضارة البشرية بما يوجب اللجوء لمثل هذه المنظومة السياسية! وبذلك يحدث نوع من "التجهيل" المنظم للرأي العام الذي ليس له دراية كافية بالمغزى الثقافي والعمق التاريخي لفكرة الدولة المدنية، بل ويعمد بعض الكتاب إلي الخلط بين مفهوم "الدولة المدنية" السياسي ونظامها التشريعي وبين مبدأ اختيار رئيس ووزراء من "المدنيين" أي من خارج المؤسسة العسكرية!.
المفاهيم الأساسية للدولة المدنية، كما صاغها الأوربيون لهجر الدين النصراني والبعد عن مقتضيات تعاليم كتابهم المقدس، لها في الشريعة الإسلامية بدائل لم ولن تتعارض مع مكتسبات الحضارة، فمنظومة القوانين الاجتماعية والسياسية في الإسلام تبلغ حد الكمال من حيث تأمين العلاقة بين الأفراد والمجتمعات في كل الظروف، ونظام اقتصادي متكامل يتناول كل المعاملات الاقتصادية بالتفصيل، و"الشورى المقيدة" التي تساهم في الرقابة على الحاكم تقوم مقام الديمقراطية، بينما لم ولن يوجد أي تعارض بين نصوص الوحي وبين مكتشفات العلوم الحديثة.
4- الخلاصة:
من الواضح تماماً أن الإسلام لا يتعارض مع مكتسبات الحضارة البشرية المعاصرة، سواء في ذلك المكتسبات العلمية أو الاقتصادية أو الثقافية، بل على العكس، فالشريعة الإسلامية ازدهر في ظلها أرقي حضارات على مر التاريخ كان المسلمون فيها والعرب بشكل خاص يقودون قافلة التقدم الحضاري البشري، كما كان الحال في دمشق وبغداد والأندلس وتركيا، بينما كانت النصرانية منذ معرفة الأوربيون بالحضارة الحديثة من خلال اختلاطهم بالمسلمين في الأندلس وإيطاليا وغيرها [5] [6] في عداء دائم مع مكتسبات الحضارة البشرية، وظهر ذلك جلياً واضحاً من خلال محاكم التفتيش وصكوك الحرمان التي كان العلماء الأوربيون يعاقبون بها على اجتهادهم العلمي.
وبهذا فلا يفترض أن يكون هناك ثمة تعارض بين بقاء المادة الثانية من الدستور المصريّ للتأكيد على الهوية الإسلامية للمجتمع المصري وبين تطوير الدولة والرقي بالمجتمع على كل الأصعدة السياسية والاجتماعية والتنموية.
* هذا المقال نشر في مجلة "المنار الجديد" المتخصصة في فلسفة الدين وشئون الاجتماع والعمران في عدد أبريل 2011 الصادر بالقاهرة..
المراجع
[1] Adam Ferguson (1768) An essay on the history of civil society، Printed for A.Millar & T.Caddel.Available from New York Public Library
[2] Brotton، Jerry The Renaissance:A Very Short Introduction ISBN 0-19-‎‎280163-5‎
[3] Repcheck، Jack (2007) Copernicus’ secret:how the scientific revolution ‎began، Simon & Schuster Press
[4] McCaffrey، James (1914) History of the Catholic Church:From ‎Renaissance to the French Revolution، Republished:Forgotten Books ‎‎1970‎
[5] Ahmed Essa and Othman Ali (2010) Studies in Islamic Civilization:The Muslim Contribution to the Renaissance، Int.Institute of Islamic Thought، Cromwell Press Group، UK
[6] George Saliba (2007) Islamic science and the making of the European Renaissance، MIT Press، USA

كسوة الكعبة..تاريخ مفعم بالذكريات

كسوة الكعبة..تاريخ مفعم بالذكريات 
 
{ للأمانة...الكاتب ::مصطفى عاشور}

الكعبة المشرفة:
شغلت الكعبة مكانة بارزة في الوعي العربي قبل الإسلام وبعده، فالكل اتفق على أن الكعبة بيت الله - تعالى -، وأن تعظيمها واجب وفرض، ومن مظاهر التعظيم كسوة الكعبة التي احتفوا بها كثيراً.
ويرجع تاريخ الكسوة إلى مئات السنين قبل الإسلام وحتى الآن، ولذا تنوعت مواصفاتها تبعاً للعصور والإمكانات المادية والتطور.
والكسوة الحالية تُنسج من الحرير الطبيعي الخالص المصبوغ باللون الأسود، المنقوش عليه عبارات التوحيد، ويبلغ ارتفاع الثوب 14 متراً، ويوجد في الثلث الأعلى من هذا الارتفاع حزام الكسوة بعرض 95سم، ويحيط الحزام بالكسوة كلها، ويبلغ طوله 47 متراً.
أما ستارة باب الكعبة ويطلق عليها البرقع؛ فمصنوعة من نفس قماش الحرير الأسود، وارتفاعها (6. 5) متراً، وعرضها (3. 5) متراً، وتبطن الكسوة كلها بقماش خام قوي، وتتكون من خمس قطع تغطي كل واحدة منها وجهاً من أوجه الكعبة، والخامسة هي الستارة التي توضع على الباب.
تاريخ الكسوة:
ويرجع بعض المؤرخين تاريخ الكسوة إلى نبي الله إسماعيل - عليه السلام -، والمتفق عليه تاريخياً أن ملك حمير "تبع أبي كرب أسعد" أول من كساها قبل أكثر من مائتي عام من الهجرة، وكساها أكثر من مرة، وصنع للكعبة باباً ومفتاحاً، وتبعه خلفاؤه في ذلك.
وعندما استوطنت قريش مكة كانت القبائل تتعاون في الكسوة حتى جاء "أبو ربيعة بن المغيرة المخزومي" فكان يكسوها سنة وقريش سنة فسمي بـ"العدل".
كانت الكعبة قبل الإسلام تُكسى في يوم عاشوراء، ثم صارت تُكسى في يوم النحر، وكانوا يأتون في ذي القعدة فيعلقون كسوتها إلى نحو نصفها، فتصير الكعبة كهيئة المحرم، فإذا حل الناس يوم النحر كسوها الكسوة الجديدة، وتعد "نبيلة بنت حباب" أم العباس بن عبد المطلب أول امرأة تكسو الكعبة في الجاهلية.
كسوة النبي:
وكانت أول كسوة للكعبة في الإسلام في عام (9هـ)، وكساها النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة في حجة الوداع بالثياب اليمانية، وأقر أن يتحمل بيت مال المسلمين نفقتها، واقتدى الخلفاء الراشدون بهذه السنة فكانوا يكسونها بالثياب القباطية، وهي ثياب بيضاء تصنع في مصر، وكان عمر بن الخطاب ينزع ثياب الكعبة في كل سنة فيقسمها على الحجيج، ونالت مصر شرف صناعة الكسوة فكانت تحاك في مدينة الفيوم.
اهتم الأمويون بالكسوة فكساها "معاوية" كسوتين في العام، كسوة الديباج تعلق يوم عاشوراء، وكسوة القباطي في آخر شهر رمضان، وكان أول من طيب الكعبة وأجرى لها الطيب لكل صلاة، وخصص لها عمالاً ليخدموها، وسار على سنته الأمويون.
واهتم العباسيون أيضاً بالكسوة فكانت تصنع من أجود أنواع الحرير، وتكسى في بعض السنوات ثلاث مرات في السنة، وعندما ضعفوا كانت الكسوة ترسل من بعض ملوك الهند، أو فارس، أو اليمن؛ لكن ظلت مصر تختص بها.
وتنافست الأقطار الإسلامية بعد سقوط بغداد (656هـ) على كسوة الكعبة، وبرز دور مصر خاصة في عهد الفاطميين، واستمر حتى القرن (14هـ) حيث كانت الكسوة ترسل من مصر كل عام، وأوقف السلاطين المماليك أملاكاً كثيرة للكسوة، وهو ما أعطاها الاستمرار.
وعندما جاء العثمانيون إلى مصر ورثوا عن المماليك إعداد الكسوة، وكانوا يبالغون في زركشتها والاحتفاء بخروجها من مصر، وزادوا في حجم الأوقاف التي تخصص للكسوة، وظلت الأوقاف المخصصة للكسوة في تزايد مستمر لمواجهة تكاليف ارتفاع الأسعار.
واختصت مصر بالكسوة الخارجية في حين انفردت الدولة العثمانية بكسوة الكعبة الداخلية، وبقيت مصر تصنع أقمشة الكسوتين الداخلية والخارجية كلها إلى عام (1118هـ)، حيث حيكت كسوة الكعبة الداخلية في إستانبول، واستمر العثمانيون في إرسالها إلى عهد السلطان "عبد العزيز بن محمود الثاني".
وفي أثناء حكم محمد على باشا لمصر توقفت مصر عن إرسال كسوة الكعبة ست سنوات، ولم ترسل إلا في (شوال 1228هـ)، وانتهى أمر صناعة الكسوة في حي الخرنفش بالقاهرة.
في السعودية تم إنشاء مصنع "أجياد" لصناعة الكسوة بعد عام (1927م)، وكان أغلب العاملين به من الفنيين الهنود مع بعض السعوديين، وفي عام (1934م) غادر الفنيون الهنود المصنع، وكسيت الكعبة بأول كسوة سعودية، وكان عام (1962م) هو آخر عام لإرسال الكسوة المصرية للكعبة، حيث أنشأت المملكة العربية السعودية في عام (1977م) مصنعاً جديداً لكسوة الكعبة بمنطقة "أم الجود" بمكة المكرمة.
المحمل:
كلمة "المحمل" غريبة على أذهان الكثير من المسلمين في الوقت الراهن رغم شهرتها الواسعة في السابق، حيث كان المسلمون ينتظرون خروج المحمل الذي يحمل كسوة الكعبة بكثير من الشغف، ويتحينون الخروج، ويحتفلون به، ويودعون المحمل بالأشواق والدموع، والتمنيات أن يكونوا ضمن الذاهبين إلى الحج، وزيارة المشاعر المقدسة، ثم ينتظرون الشهور لعودة المحمل بالكسوة القديمة التي يوزعون قطعاً منها على المساجد العتيقة، وبعض الوجهاء.
والمحمل إطار خشبي كان ُيحمل في داخله ستارة الكعبة المشرفة وكسوتها، وكان يغطى بالحرير المزركش، ويأخذ شكل الكعبة في تكعيبها في نصفه السفلي، أما النصف العلوي فكان يأخذ شكل الهرم أو الخيمة حسب الفترة التاريخية التي كان يصنع فيها أو البلد القادم منها.
وكانت الجمال هي التي تسير في قافلة المحمل، إلا أن جملاً واحد كان يخصص لحمل كسوة الكعبة، وكان يصاحب المحمل في خروجه إلى الأراضي المقدسة وعودته منها احتفالات يشارك فيها الأمراء والأعيان، والعلماء والشعب.
تقاليد:
ومن التقاليد المتبعة أن جمل المحمل الذي يحمل هودج كسوة الكعبة المشرفة لا يركب فيه أحد وذلك تقديساً لما يحمل، وكان يوضع مصحف شريف في قمة هيكل المحمل؛ دلالة على الارتباط القوي بالذكر الحكيم.
أقدم المحامل:
أما تاريخ خروج أول محمل على وجه التحديد فهو غير معروف، لكن عموماً يعد المحمل الشامي أقدم المحامل من حيث النشأة والتي من المرجح أن تعود إلى الدولة الأموية، وكانت المحامل تتعرض للكثير من الأخطار منها ما يتعلق بالطقس حيث كانت غالبيتها تسير في الصحاري القاسية، وتتعرض لعمليات السطو المتكررة من البدو، بل تتعرض لبعض الأوبئة نظراً لتقلبات المناخ، وتغير البيئات، وكانت تحمل ما يعرف بـ"الصرة" والتي اختلفت حسب البلد الخارج منه المحمل، أو الرخاء الذي تتمتع به، فكان حجمها ضخماً يصل في بعض الأحيان (200) ألف قطعة، وكان بالمحمل خاصة المصري عدد من الوظائف فهناك "أمير المحمل" و"القاضي" و"رئيس حرس المحمل" و"أمين الصرة"... إلخ.
وبعد إنشاء سكة حديد الحجاز صار المحمل النبوي أو موكب الصرة السلطانية يرسل عبر القطار تماشياً مع روح العصر آنذاك.
ويحتفظ المتحف الأنثوجرافي التابع للجمعية الجغرافية بالقاهرة بهيكل كامل للمحمل المصري بعدما توقف إرسال المحمل بعد قيام ثورة يوليو 1952م.

عهد الدولة العامرية والفتنة (4)

عهد الدولة العامرية والفتنة (4) 
 
{ للأمانة...الكاتب ::راغب السرجاني}
بين المهدي وسليمان بن الحكم وحدث غريب
وجد سليمان بن الحكم ومن معه من البربر أن قوتهم ضعيفة، ولن تقوى على مجابهة قوات المهدي، فقاموا بعمل لم يُعهد من قبل في بلاد الأندلس، فاستعانوا بملك قشتالة.
كانت مملكة قشتالة هذه هي أحد جزئي مملكة ليون في الشمال الغربي، بعد أن كان قد نشب فيها (مملكة ليون) حرب داخلية، وانقسمت على نفسها في سنة 359هـ= 970م إلى قسمين، فكان منها قسم غربي وهو مملكة ليون نفسها، وقسم شرقي وهي مملكة قشتالة، وكلمة قشتالة تحريف لكلمة كاستولّة، وتعني أيضًا قلعة باللغة الأسبانية، فحرفت في العربية إلى قشتالة، وكانت قد بدأت تكبر نسبيًا في أول عهد ملوك الطوائف، فاستعان بها سليمان بن الحكم والبربر على حرب المهدي.
وبين المهدي من ناحية وسليمان بن الحكم والبربر وملك قشتالة من ناحية أخرى دارت موقعة كبيرة، هُزم فيها المهدي أو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وتولى سليمان بن الحكم مقاليد الحكم في بلاد الأندلس، وبالطبع كانت فرصة من السماء لملك قشتالة لضرب الأندلسيين بعضهم ببعض، ووضع قاعدة لجيشه وجنده في أرض الأندلس، تلك البلاد التي لطالما دفعت الجزية كثيرًا للمسلمين من قبل.
وفي فترة مدتها اثنتان وعشرون سنة يتولى حكم المسلمين في الأندلس ثلاثة عشر خليفة متتاليين، بدأت هذه الفترة بهشام بن الحكم في سنة 359 هـ= 970 م، ثم المهدي، ثم سليمان بن الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر الذي تولى الحكم ولقب نفسه بالمستعين بالله -وكان قد استعان بملك قشتالة- وذلك في سنة 400هـ= 1010م.
بين المهدي وسليمان بن الحكم وحدث أغرب
وتدور الأحداث بعد ذلك، حيث يفرّ المهدي الذي انهزم أمام سليمان بن الحكم أو المستعين بالله إلى الشمال حيث طرطوشة، وفي طرطوشة وحتى يرجع إلى الحُكم الذي انتزعه منه سليمان بن الحكم، والذي لم يبق فيه غير شهور قليلة فكّر المهدي في أن يتعاون مع أحد أولاد بني عامر، ذلكم الذين كان منذ قليل يذبّح فيهم جميعًا.
كان المهدي قد قابل في طرطوشة رجلًا من قبيلة بني عامر يدعى الفتى واضح، والذي أقنع المهدي بأنه سيتعاون معه؛ ليعيده إلى الملك من جديد، ويبقى هو على الوزارة كما كان عهد الدولة العامرية من قبل، الأمر الذي وافق قبولًا لدى المهدي، فقبل عرض الفتى واضح، وبدأ يتعاونان سويًا؛ لتنفيذ مخططهما هذا.
في بداية الأمر وجد الفتى واضح والمهدي أنهما لن يستطيعا أن يصمدا أمام قوة كبيرة مثل التي يملكها سليمان بن الحكم والبربر ومعهما ملك قشتالة، فهداهما تفكيرهما في الاستعانة بأمير برشلونة، وبرشلونة هذه كانت ضمن مملكة أراجون التي تقع في الشمال الشرقي للأندلس، والتي كان يدفع حاكمها الجزية لعَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر ولابنه وأيضا للحاجب المنصور، فلما حدثت هذه الهزة في بلاد المسلمين انخلعت من هذه العباءة، وقامت من جديد، فكان أن استعان بجيشها المهدي والفتى واضح في حرب سليمان وملك قشتالة.
وافق أمير برشلونة على أن يساعدهم لكن على شروط هي:
أولاً: مائة دينار ذهبية له عن كل يوم في القتال.
ثانياً: دينار ذهبي لكل جندي عن كل يوم في القتال، وقد تطوع الكثير لحرب المسلمين، فكان عدد الجيش كبيرًا.
ثالثاً: أخذ كل الغنائم من السلاح إن انتصر جيش برشلونة مع المهدي والفتى واضح.
رابعاً: أخذ مدينة سالم، وكانت مدينة سالم قد حررها قديما عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر في عهد الخلافة الأمويّة، وهي بلا شك شروط قبيحة ومخزية، ولا ندري كيف يوافق مسلم على مثلها؟!.
لكن الذي حدث هو أنهم وافقوا على هذه الشروط، وبدأت بالفعل موقعة كبيرة جدًا في شمال قرطبة بين المهدي (محمد بن هشام بن عبد الجبار) ومعه الفتى واضح العامري ومعهم أمير برشلونة من جهة، وسليمان بن الحكم الخليفة الملقب بالمستعين بالله، ومعه البربر من جهة أخرى، انتصر فيها المهدي ومن معه، وانهزم سليمان بن الحكم وفرّ ومن بقي معه من البربر، وسلمت مدينة سالم لأمير برشلونة، ومثلها الغنائم، وتولى المهدي الحكم من جديد في قرطبة.
الفتى واضح وعودة هشام بن الحكم الخليفة المخلوع
ولأنه زمن فتنة، فما فتئ المهدي يصل إلى الحكم في قرطبة حتى انقلب عليه الفتى واضح ثم قتله، وبدأ هو في تولى الأمور.
كان الفتى واضح أذكى من عبد الرحمن بن المنصور، هذا الذي طلب ولاية العهد من هشام بن الحكم قبل ذلك، فقد رفض أن يكون هو الخليفة؛ حيث اعتاد الناس أن يكون الخليفة أموي وليس عامري، ومن ثم فإذا فعل ذلك فسيضمن ألا تحدث انقلابات عليه، وأيضاً يكون محل قبول لدى جميع الطوائف.
ومن هنا فقد رأى الفتى واضح أن يُنصّب خليفة أموي، ويحكم هو من ورائه، وبالفعل وجد أن أفضل من يقوم بهذا الدور ويكون أفضل صورة لخليفة أموي هو هشام بن الحكم الخليفة المخلوع من قبل، هذا الذي ظل ألعوبة طيلة ثلاث وثلاثين سنة في يد محمد بن أبي عامر، ثم في يد عبد الملك بن المنصور، ثم في يد عبد الرحمن بن المنصور على التوالي.
ذهب الفتى واضح إلى هشام بن الحكم وعرض عليه أمر الخلافة من جديد، وأنه سيكون رجله الأول في هذه البلاد، وعلى الفور وافق هشام بن الحكم الذي كان ملقبًا بالمؤيد بالله، وعاد من جديد إلى الحكم، لكن زمام الأمور كانت في يد الفتى واضح.
سليمان بن الحكم وأعمال يتأفف من ذكرها التاريخ
كان سليمان بن الحكم لم يُقتل بعد، وما زال في البلاد يدبر المكائد؛ يريد أن يعود إلى الحكم من جديد، لم يجد أمامه إلا أن يعود مرة أخرى إلى ملك قشتالة -المرة الأولى كان قد ساعده على هزيمة المهدي والوصول إلى الحكم-، ويعرض عليه من جديد أن يكون معه ضد الفتى واضح وهشام بن الحكم حتى يصل إلى الحكم.
ولأن ملك قشتالة ذلك الخبيث كان يطمع فيما هو أكثر مما عند سليمان بن الحكم، فقد رد عليه بأن يمهله عدة أيام حتى يعطيه الجواب، وخلال هذه الأيام كان قد ذهب ملك قشتالة إلى هشام بن الحكم -الحاكم في ذلك الوقت-، وأخبره بما كان من أمر سليمان بن الحكم منتظراً الجواب والمقابل في عدم مساعدته له لسليمان في حربه إياه، وهنا كان العجب العجاب، فما كان من هشام بن الحكم إلا أن خيّر ملك قشتالة بين عدة أمور، كان من بينها: إعطائه كل الحصون الشمالية التي كانت للمسلمين في بلاد الأندلس، ذلك الخيار الذي قبله ملك قشتالة؛ فتوسعت قشتالة جداً حتى أصبحت حدودها أكبر من حدود مملكة ليون، بالرغم من أنها كانت جزءاً صغيراً منفصلاً عن مملكة ليون، وعظمت بذلك البلاد النصرانية في الشمال.
وإنها لكارثة كبيرة قد حلت بديار الإسلام، فقد حدثت كل هذه الأحداث من القتل والمكائد والصراعات والاستعانة بالنصارى، ثم دخولهم بلاد المسلمين، كل ذلك في ثلاث سنوات فقط.
وفي سنة 403 هـ= 1012 م حيث هشام بن الحَكم على الحُكم، قام سليمان بن الحكم ومن معه من البربر بعمل لم يحدث في تاريخ المسلمين من قبل وحتى هذه اللحظة، فقد هجموا على قرطبة وعاثوا فيها، فساداً، وقتلاً، واغتصاباً للنساء، ثم من جديد يتولى سليمان بن الحكم (المستعين بالله) الحكم في بلاد الأندلس، وطرد هشام بن الحكم من البلاد، ثم قتل بعد ذلك، وكان مقر الحكم آنذاك هو قرطبة، لكن البلاد كانت مفككة تماماً، وقد فر العامريون إلى شرق الأندلس في منطقة بلنسية وما حولها.
المفاجأة الكبيرة والمثيرة حقا أن كل هذه الأحداث السابقة والمليئة بالمكائد والمؤامرات، والتي حملت الأسى والألم لكل المسلمين، كانت بين أخوين لأب واحد هو القائد المظفر الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، وكان خطأه والذي يدركه الجميع الآن هو أنه وسد الأمر لغير أهله، واستخلف على الحُكم من لا يملك مؤهلات الحُكم، وهو هشام بن الحَكم.
البربر والانقلاب على سليمان بن الحكم وتأجج الصراعات
من سنة 403هـ= 1012م ظل سليمان بن الحكم يتولى الحكم، وكان غالبية جيشه من البربر، وفي سنة 407هـ= 1016م وبعد مرور أربع سنوات على حكمه، وفي هذا الزمن المثخن بالصراعات والفتن فكر البربر: لماذا لا نتملك نحن الأمور؟
وعلى الفور أسرعوا وكونوا قوة أساسية كبيرة، واستعانوا بالبربر من بلاد المغرب، ثم هجموا على سليمان بن الحكم، وأخرجوه من الحكم، بل وقتلوه، وتولى الحكم في بلاد الأندلس علي بن حمود الذي كان من البربر، وتسمى بالناصر بالله.
استقر الأمر لعلي بن حمود في قرطبة وقام بتعيين أخاه القاسم بن حمود على إشبيلية في سنة 407هـ= 1016م، وأصبح البربر هم الخلفاء الذين يتملكون الأمور في قرطبة وما حولها.
لم يرض العامريون الذين فروا إلى شرق الأندلس بهذا الوضع، فما كان منهم إلا أن بحثوا عن أموي آخر وهو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، أحد أحفاد عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، ثم بايعوه على الخلافة، وقد تلقب بالمرتضي بالله.
جاء العامريون ومعهم المرتضي بالله إلى قرطبة لحرب علي بن حمود البربري، وبالفعل دارت حرب كبيرة بين العامريين وخليفتهم المرتضي بالله، والبربر وعلى رأسهم علي بن حمود، كان من أعجب ما نتج عن هذه الموقعة أن قُتل الخليفتان علي بن حمود والمرتضي بالله، لكن البربر تمكنوا من الانتصار في نهاية المعركة، وتولى حكم الأندلس منهم القاسم بن حمود الذي كان حاكما لإشبيلية من قِبَل أخيه الذي قُتل.
أحضر العامريون أمويًا آخر، وقامت بعد ذلك صراعات كثيرة، واستمرّ الوضع على هذا الحال حتى سنة 422هـ= 1031م.
انتهاء عهد الخلفاء والأمراء وتولّي مجلس شورى للحكم
في محاولة لحل هذه الأزمة التي تمرّ بها البلاد، وفي محاولة لوقف هذه الموجة من الصراعات العارمة، اجتمع العلماء وعلية القوم من أهل الأندلس، وذلك في سنة 422هـ= 1031م، ووجدوا أنه لم يعد هناك من بني أمية من يصلح لإدارة الأمور؛ فلم يعد من يأتي منهم على شاكلة من سبقوهم، فاتفقوا على عزل بني أمية تمامًا عن الحكم، وإقامة مجلس شورى لإدارة البلاد.
وبالفعل كونوا مجلس شورى في هذه السنة، وولوا عليه أبا الحزم بن جهور لإدارة البلاد، وكان أبو الحزم هذا من علماء القوم، كما كان يشتهر بالتقوى والورع ورجاحة العقل، وظل الحال على هذا الوضع ما يقرب من ثلاث سنوات.
لكن حقيقة الأمر أن أبا الحزم بن جهور لم يكن يسيطر هو ومجلس الشورى الذي معه إلا على قرطبة فقط من بلاد الأندلس، أما بقية البلاد والأقاليم الأخرى فقد ضاعت السيطرة عليها تماماً، وبدأت الأندلس بالفعل تُقسّم بحسب العنصر إلى دويلات مختلفة؛ ليبدأ ما يسمى بعهد دويلات الطوائف، أو عهد ملوك الطوائف.
وقد ذكرنا سابقاً أن مساحة الأندلس كانت ستمائة ألف كيلو متر مربع، فإذا طرحنا منها ما أخذه النصارى في الشمال؛ فإن النتيجة هي أربعمائة وخمسون ألف كيلو متر مربع -أقل من نصف مساحة مصر- مقسمة إلى اثنتين وعشرين دولة، كل منها بكل مقومات الدولة المتكاملة من رئيس، وجيش، ووزارات، وعملة، وسفراء، فتفتت المسلمون في الأندلس تفتتاً لم يُعهد من قبل في تاريخهم، وفقدوا بذلك عنصراًَ مهما جداً من عناصر قوتهم وهو الوحدة، فكان الهبوط على أشد ما يكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المرحلة التي يعيشها المسلمون الآن وتصنيفها.
قد يتساءل المرءُ: ما هو تصنيفنا كمسلمين في هذا العصر، وفقًا للمراحل السابقة ما بين الارتفاع والهبوط أو القيام والسقوط؟.
وواقع الأمر وكما هو واضح للعيان، أن الأمة الإسلامية تمرّ الآن بمرحلة من مراحل السقوط، سقوط كبير وضعف شديد وفرقة للمسلمين، سقوط مباشر لسقوط الخلافة العثمانية في عشرينات القرن الماضي، وهو أمر طبيعي ودورة طبيعية من دورات التاريخ الإسلامي، وسنّة من سنن الله - تعالى -كما رأينا.
إلا أن مرحلة السقوط الأخيرة هذه قد شابها أمران لم تعهدهما الدولة الإسلامية، ولم يتكررا من قبل في مراحل سقوطها المختلفة...
الأمر الأول: هو: غياب الخلافة، إذ حدث ولأول مرة في التاريخ أن يصبح المسلمون بلا دولة واحدة تجمعهم، فرغم ما كان وما يكون من السقوط والانهيار على مدى فترات الضعف التي مرت بها الأمة الإسلامية، إلا أنه لم تكن لتغيب صورة الخلافة عن الأذهان بحالٍ من الأحوال، منذ الدولة الأموية في القرن الأول الهجري، وحتى سقوط الخلافة العثمانية في القرن الرابع عشر الهجري؛ حيث كان الإسلام سياسيًا -دين ودولة- طيلة أربعة عشر قرنًا من الزمان.
الأمر الثاني: وهو: غياب الشرع الإسلامي، فلم يكن أيضًا في أي من عصور السقوط السابقة للدول الإسلامية، مع ما يصل المسلمون إليه من تدنٍ وانحدار لم يكن أبدا يُلغى الشرع أو يغيب، نعم قد يُتجاوز أحيانًا في تطبيق بعض أجزائه، لكن لم يظهر على الإطلاق دعوة تنادي بتنحية الشرع جانبًا، وتطبيق غيره من قوانين البشر مما هو أنسب وأكثر مرونة على حسب رؤيتهم.
وإن مثل هذين العاملين ليجعلان من مهمة الإصلاح والتغيير أمرًا من الصعوبة بمكان، ورغم ذلك فإنه وكما وضحنا ليس بمستحيل؛ لأن المستحيل هنا هو التعارض مع سنن الله - سبحانه وتعالى - التي تقول بأن دولة الإسلام في قيام حتى قيام الساعة.
وهناك من المبشّرات نحو قيام الدولة الإسلامية الآن الكثير والكثير، فمنذ سقوط الخلافة العثمانية سنة 1342هـ= 1924م كان قد حدث انحدار كبير - ولا شك - في معظم أقطار العالم الإسلامي إن لم يكن كله -بعد سقوط الخلافة العثمانية أُقيمت الدول العربية عدا السعودية على أساس علماني شبيه بالدول الغربية-، وظلّ هذا الوضع حتى أوائل السبعينيات، ثم كانت الصحوة في كل أطراف الأمّة الإسلامية في منتصف السبعينيات وإلى يومنا هذا.
ونظرة واحدة إلى أعداد المصلين في المساجد خاصة الشباب، وإلى أعداد المحجبات في الشوارع في كل أطراف العالم الإسلامي، وانتشار المراكز الإسلامية في كل بلاد أوروبا وفي أمريكا، والصحوة الجهادية في البلاد المحتلة مثل فلسطين، والعراق، والشيشان وغيرها، وحال الإسلام في جمهوريات روسيا السابقة، بعد احتلال نصراني وشيوعي دام لأكثر من ثلاثمائة عام؛ نظرة واحدة إلى مثل هذه الأمور وغيرها يبشر بالقيام من جديد.
وهو ولا شك قيام ينحو الخطى البطيئة المتدرجة، لكنه لا ينفي العلو والانتشار المرجو منه، وهذه سنة أخرى من سنن الله - عز وجل -، فلا يجب أن يُستعجل التمكين، ولنا فيما مضى من تاريخ الأندلس، وفي التاريخ الإسلامي بصفة عامة، ومنذ أن أسّس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقل من عشر سنين الدولة الإسلامية التي ناطحت أكبر قوتين في زمنهما، وكان قد أوذي وطرد وهو وأصحابه من بلدهم، منذ ذلك التاريخ وحتى سقوط الخلافة العثمانية لنا خير دليل ومعين.
 (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا) [فاطر: 43].

عهد الدولة العامرية والفتنة (3)

عهد الدولة العامرية والفتنة (3) 
 
{ للأمانة...الكاتب ::راغب السرجاني}
سقوط الخلافة الأموية وانتهاء الدولة العامرية.
كأن مقتل عبد الرحمن بن المنصور واشتعال الفتن والثورات في الأندلس كانا بميعاد، فمنذ أن قتل عبد الرحمن بن المنصور العامري انفرط العقد تمامًا في البلاد، وبدأت الثورات تكثر والمكائد تتوالى، وبدأت البلاد تُقسّم.
كان رأي بعض الباحثين أن سبب سقوط الدولة العامرية ومن ثَمّ سقوط الخلافة الأموية هو تولّي عبد الرحمن بن المنصور الحكم -ذلك الفاسق الماجن الذي أسقط بني أميّة وأحدَث هذه الاضطرابات الكثيرة في البلاد-.
وحقيقة الأمر أنه ليس من سنن الله - سبحانه وتعالى - أن تهلك الأمم لمجرد ولاية رجل فاسق لشهور معدودات، فلم يمكث عبد الرحمن بن المنصور في الحكم إلا أقلّ من عام واحد، ومهما بلغ أمره من الفحش والمجون فلا يمكن بحال أن يؤدي إلى مثل هذا الفشل الذريع والسقوط المدوي للبلاد، فلا بدّ إذن أن يكون هناك أسباب وجذور أخرى كانت قد نمت من قبل، وتزايدت مع مرور الزمن حتى وصلت أوجّها في فترة عبد الرحمن بن المنصور؛ ومن ثَمّ كان هذا التفتت وذلك الانهيار.
وكما رأينا سابقًا في تحليلنا لأسباب ضعف الإمارة الأموية، وكيف كان لهذا الضعف أسباب وجذور تمتدّ إلى عهد قوة الإمارة الأموية ذاتها، فإن هناك ثلاثة أسباب رئيسية لسقوط الدولة الأموية، ومن ثَمّ الدولة العامرية نذكرها فيما يلي:
السبب الأول: يرجع إلى زمن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر ذاته، ذلك الرجل الفذ الذي اتّسم عصره بالبذخ والترف الشديد، وكثرة إنفاق الأموال في زخرفة الدنيا، ومن ثَمّ انشغال الناس بتوافه الأمور، وكانت الدنيا هي المهلكة، وليس أدلّ على ذلك من قصر الزهراء الذي أنشأه عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، وكان آية في الروعة والجمال، وأعجوبة من أعاجيب الزمان في ذلك الوقت؛ فقد كان على اتساعه وكبر حجمه مبطنًا من الداخل بالذهب، بل كان سقفه أيضاً مبطنًا بخليط من الذهب والفضة، بأشكال تخطف الأبصار وتبهر العقول، ومع أن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر لم يكن مُقَصّرًا في الإنفاق في أي ناحية من النواحي، مثل: الإنفاق على التعليم أو الجيش أو غيره، إلا أن فعله هذا يعد نوعًا من البذخ والترف المبالغ فيه، أدّى في النهاية إلى أن تتعلق القلوب بالدنيا وزخرفها.
ومما جاء في ذلك أن القاضي المنذر بن سعيد - رحمه الله - دخل على عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر في قصره -وكان على هذا الوصف السابق-، فقال له عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر: ما تقول في هذا يا منذر (يريد الافتخار)؟ فأجابه المنذر، ودموعه تقطر على لحيته قائلاً: ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ على ما آتاك الله من النعمة، وفضلك على كثير من عباده تفضيلًا، حتى ينزلك منازل الكافرين.
فقال عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر: انظر ما تقول، كيف أنزلني الشيطان منازل الكافرين؟! فردّ عليه المنذر: أليس الله - تعالى -يقول في كتابه الكريم: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) [الزُّخرف: 33].
فقد ذكر الله - سبحانه وتعالى - السُّقُف التي من فضة في هذه الآية على سبيل التعجيز، يعني لولا أن يكفر الناس جميعًا بسبب ميلهم إلى الدنيا، وتركهم الآخرة، لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عند الله - عز وجل -، لكنّا لم نجعله، إلا أن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر فعله وجعل لقصره سقفًا من فضة.
وهنا وجم عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر بعدما سقطت عليه تلك الكلمات كالصخر، ثم بدأت دموعه - رحمه الله - تنساب على وجهه، وقام على الفور ونقض ذلك السقف وأزال ما به من الذهب والفضة، وبناه كما كانت تبنى السُّقُف في ذلك الزمن، إلا أنه ولكثرة الأموال ومع مرور الوقت، كان مظهر الترف يعود ويبرز من جديد حتى أصبح الإنفاق في لا شيء، وقد قال الله - سبحانه وتعالى -: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16].
السبب الثاني: توسيد الأمر لغير أهله: إضافة إلى الترف والإسراف فقد كان توسيد الأمر لغير أهله من أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط الدولة العامرية، والخلافة الأموية، ولقد تجسد هذا العامل واضحًا جليًا حين ولّى الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر ابنه أمور الحكم في البلاد، وهو ما زال طفلًا لم يتجاوز الثانية عشرة سنة بعد، فتحكم فيه الأوصياء، وحدثت المكائد والمؤامرات، رغم ما كان من حياة الحَكَم الحافلة بالجهاد، ونشر العلم والدين في البلاد.
وقد حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك حين أجاب السائلَ عن أمارات الساعة بقوله - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل عن أماراتها: ((أَنْ تُضَيَّعَ الْأَمَانَةُ))، فقال السائل: وكيف إضاعتها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).
وهكذا إذا تولّى من لا يستحق منصب من المناصب، فلا بد وأن تحدث الهزة في البلاد، ويحدث الانهيار، فما البال وما الخطب إذا كان هذا المنصب هو منصب الخليفة أعلى مناصب الدولة؟ فقد ضيعت الأمانة، ووسد الأمر لغير أهله، فكان لا بدّ أن تقع الأندلس والخلافة الأموية والدولة العامرية.
السبب الثالث: انتفاء روح الجهاد الحقيقية ليصبح مجردًا للمادة وجمع الغنائم.
كان أيضاً من أهم أسباب سقوط الدولة العامرية الملحقة بالخلافة الأموية؛ أن الدولة العامرية اعتمدت في جهادها على الناحية المادية من جند وعدد وعدة ومال ومعمار، ولم تصرف نواياها إلى رب العالمين - سبحانه وتعالى -، ولم يجددوا تربية الشعب على الجهاد في سبيل الله؛ طلبًا للجنة أو الموت في سبيل الله، فافتقد الشعب روح الجهاد الحقيقي ومعناه، وأصبح جلّ همّه جمع المال وعَدّ الغنائم.
المهدي وبداية الفتنة وعهد ملوك الطوائف.
من قريب كنا نتحدث عن الجهاد والفتوحات، وعصر القوة والنفوذ، وها هو التاريخ يدير لنا ظهره، ويبدأ دورة جديدة من دوراته في الأندلس، اتُّفق على تسميتها بعهد ملوك الطوائف، فكان من سنن الله - عز وجل - في كونه ألا تقوم أمة إلا ويكون لها سقوط كما كان لها قيام، يطول عهدها أو يقصر، بحسب قربها أو بعدها من منهج من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
بعد خلع هشام بن عبد الملك بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، وولاية محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر الذي تلقب بالمهدي انفرط العقد تمامًا في الأندلس، فلم يكن يملك المهدي من لقبه إلا رسمه، فكان فتى لا يحسن قيادة الأمور، وليس له من فن الإدارة شيء، فكان من أول أعماله في الحكم ما يلي:
أولًا: ألقى القبض على كثير من العامريين ثم قتلهم، وثانيًا: بدأ ينتقم من البربر الذين كانوا العون الرئيس لمحمد بن أبي عامر -الرجل الأول في الدولة العامرية-، ولمن خلفه في الحكم من أولاده، فبدأ يقتّل أيضًا فيهم، ويقيم عليهم الأحكام حبسًا وتشريدًا.
أثار هذا الفعل غير الحصيف من قبل المهدي غضبًا عارمًا لدى البربر والعامريين، بل وعند الأمويين أنفسهم الذين لم يعجبهم هذا القتل وذاك التشريد، وهذه الرعونة في التصرف، فبدأ يحدث سخط كبير من جميع الطوائف على المهدي.
لم يكن ليقف الأمر عند هذا الحد، فقد تجمع البربر وانطلقوا إلى الشمال، وهناك أتوا بسليمان بن الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، وهو أخو هشام بن الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر الخليفة المخلوع منذ شهور قليلة، فنصّبوه عليهم، ولقبوه بخليفة المؤمنين، وبدأ يحدث صراع بين سليمان بن الحكم هذا ومن ورائه البربر وبين المهدي في قرطبة.

عهد الدولة العامرية والفتنة (2)

عهد الدولة العامرية والفتنة (2) 
 
{ للأمانة...الكاتب ::راغب السرجاني}
وهذه صور مشرقة من حياته الجهادية:
1- يُسيّر جيشًا جرارًا لإنقاذ نسوة ثلاث
جاء عن الحاجب المنصور في سيرة حروبه أنه سيّر جيشا كاملًا؛ لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين كن أسيرات لدى مملكة نافار، ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من شروط هذا العهد: ألا يأسروا أحدًا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم. فحدث ذات مرة أن ذهب رسول من رسل الحاجب المنصور إلى مملكة نافار، وهناك وبعد أن أدّى الرسالة إلى ملك نافار أقاموا له جولة، وفي أثناء هذه الجولة وجد ثلاثاً من نساء المسلمين في إحدى كنائسهم فتعجب لوجودهن، وحين سألهن عن ذلك قلن له: إنهن أسيرات في ذلك المكان.
وهنا غضب رسول المنصور غضبًا شديداً، وعاد إلى الحاجب المنصور، وأبلغه الأمر، فما كان من المنصور إلا أن سيّر جيشاً جرارًا لإنقاذ النسوة، وحين وصل الجيش إلى بلاد نافار دُهش ملك نافار وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم، وقد كانت بيننا وبينكم معاهدة على ألا نتقاتل، ونحن ندفع لكم الجزية. وبعزة نفس في غير كبر ردّوا عليه بأنكم خالفتم عهدكم، واحتجزتم عندكم أسيرات مسلمات، فقالوا: لا نعلم بهن، فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النسوة الثلاث، فقال ملك نافار: إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن؛ فقد أسرهن جندي من الجنود، وقد تم عقاب هذا الجندي، ثم أرسل برسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذارًا كبيرًا، فعاد الحاجب المنصور إلى بلده ومعه الثلاث نساء.
2- يقطع النصارى عليه الطريق، فيُملي شروطه عليهم
مما ذُكر عن الحاجب المنصور أيضًا أنه - رحمه الله - وهو في جهاده لفتح بلاد النصارى كان قد عبر مضيقًا في الشمال بين جبلين، ونكاية فيه فقد نصب له النصارى كمينًا كبيرًا، فتركوه حتى عبر بكل جيشه، وحين همّ بالرجوع وجد طريق العودة قد قطع عليه، ووجد المضيق وقد أغلق تمامًا بالجنود.
فما كان من أمر الحاجب المنصور إلا أن عاد مرة أخرى إلى الشمال، واحتلّ مدينة من مدن النصارى هناك، ثم أخرج أهلها منها وعسكر هو فيها، ووزّع ديارها على جنده، وتحصّن وعاش فيها فترة، ثم اتخذها مركزًا له يقود منه سير العمليات العسكرية، فأخذ يرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى، ويأخذ الغنائم، ويقتل المقاتلين من الرجال، ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين، ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتلّه النصارى، ومنعوه من العودة منه.
وهنا ضج النصارى وذهبوا مغاضبين إلى قوادهم يعرضون عليهم أن يفتحوا له الباب؛ حتى يعود إلى بلده مرة أخرى، أو يجدوا حلًا لهم في هذا الرجل، فاستجابوا لهم، وعرضوا على الحاجب المنصور أن يخلوا بينه وبين طريق العودة، ويعود من حيث أتى، فما كان من المنصور إلا أن رفض هذا العرض، وردّ عليهم متهكمًا أنه كان يأتي إليهم كل عام مرتين، صيفًا وشتاءً، وأنه يريد هذه المرة أن يمكث بقية العام حتى يأتي موعد المرة الثانية، فيقوم بالصوائف والشواتي من مركزه في هذه البلاد بدلاً من الذهاب إلى قرطبة ثم العودة منها ثانية.
لم يكن مفر أمام النصارى سوى أن يطلبوا منه الرجوع إلى بلده، وله ما يريد، فاشترط عليهم الحاجب المنصور في سبيل موافقته على عرضهم ما يلي:
أولاً: أن تفتحوا المضيق، ولا تبقوا فيه نصرانيا واحدًا، فوافقوه على ذلك.
ثانياً: أن ترفعوا جثثكم التي ألقيناها من أمام المضيق، فبدؤوا يرفعون جثث الجنود الذين قتلوا من أمام المضيق، وأبعدوها عنه.
ثالثاً: أن تحملوا لي جميع الغنائم من هنا إلى مقري في قرطبة، وبالفعل أجابوا إلى ذلك، وحملوا الغنائم التي حصّلها من بلادهم من ليون في الشمال حتى أوصلوها إلى قرطبة في الجنوب.
3- يجمع ما علق على ثيابه من غبار ليدفن معه في قبره
مقتديًا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ)) [رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح]. كان من عادة الحاجب المنصور - رحمه الله - في جهاده، وبعد كل معركة أن ينفض ثوبه، ويأخذ ما يخرج منه من غبار، ويضعه في قارورة، ثم أمر في نهاية حياته أن تدفن معه هذه القارورة؛ وذلك حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى.
إلا أنه ومع كل هذه الحروب ومع كل هذا الجهاد، ورغم أنه غزا أربعًا وخمسين غزوة، ولم يهزم في واحدة منها قط، فلم يكن سمت حروب الحاجب المنصور سمتًا إسلاميًا مثل التي كانت في زمن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر أو الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، فقد كان الحاجب المنصور يخترق بلاد النصارى، ويصل إلى عمقها، ويقتل منهم ثم يعود فقط محملًا بالغنائم، ولم يكن من همه أبدًا أن يضم هذه البلاد إلى بلاد المسلمين، أو أن يُعلّم أهلها الإسلام، أو أن ينشر الدعوة في هذه البلاد، فبقي الحال كما هو عليه، بل إن الحمية زادت في قلوب النصارى وزاد حقدهم على المسلمين.
ثانيا: اهتمامه بالجوانب الحضارية في البلاد
من الجوانب الوضّاءة في حياة محمد بن أبي عامر أو الحاجب المنصور أيضًا اهتمامه الكبير بالجانب المادي والحضاري في البلاد، فقد أسسّ مدينة الزاهرة على أحسن ما يكون - كما ذكرنا -، وزاد كثيرًا في مساحة مسجد قرطبة، حتى أضاف إليه ضعف مساحته الأصلية، وكان يشتري هذه المساحات ممن يقطنون حول المسجد، وذلك بالمبلغ الذي يرضونه.
وقد ذُكر في ذلك أنه كانت هناك سيدة وحيدة تسكن في بيت فيه نخلة بجوار المسجد، وقد أبت هذه السيدة أن تبيع بيتها هذا إلا إذا أَتى لها الحاجب المنصور بمنزل فيه نخلة كالذي تملكه، فأمر الحاجب المنصور بشراء بيت لها فيه نخله كما أرادت، حتى ولو أتى ذلك على بيت المال، ثم أضاف بيتها إلى حدود المسجد.
زاد الحاجب المنصور كثيرًا في المسجد بعد ذلك، حتى أصبح ولفترة طويلة من الزمان أكبر من أي مسجد أو كنيسة في العالم، وهو لا يزال إلى الآن موجودًا في إسبانيا، ولكنه - وللأسف - قد حُوّل إلى كنيسة بعد سقوط الأندلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكذلك كانت العلوم والتجارة والصناعة وغيرها من الأمور قد ازدهرت كثيرًا في حياة الحاجب المنصور، وقد عمّ الرخاء وامتلأت خزانة الدولة بالمال، ولم يعد هناك فقراء تمامًا كما كان الحال أيام الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر أو أيام عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر نفسه.
ثالثا: عدم وجود ثورات أو خروج عليه طيلة عهده
كان الأمر اللافت للنظر أيضًا في حياة الحاجب المنصور أنه ورغم طول فترة حكمه التي امتدت من سنة 366هـ= 976م وحتى سنة 392هـ= 1002م لم توجد أي ثورات مطلقاً، فلم تقم أي ثورة أو تمرّد في عهده على طول البلاد، واتساعها، واختلاف أمزجتها.
فقد كان الحاجب المنصور رجلًا قويًا، محكِمًا للأمن والأمان في البلاد، كما كان عادلًا مع الرعية، ومما جاء في ذلك ما ترويه بعض الروايات: من أنه جاءه يومًا رجل بسيط من عامة الشعب، يبغي مظلمة عنده، وقال له: إن لي مظلمة وإن القاضي لم ينصفني فيها، وحين سمع منه مظلمته أتى بالقاضي مستوضحًا منه الأمر، وكيف أنه لم ينصف الرجل في مظلمته، فقال له القاضي: إن مظلمته ليست عندي، وإنما هي عند الوسيط -بمكانة نائب رئيس الوزراء في زمننا-، فأحضر الحاجب المنصور الوسيطَ وقال له: اخلع ما عليك من الثياب -يقصد ثياب التميز والحكم-، واخلع سيفك، ثم اجلس هكذا كالرجل البسيط أمام القاضي، ثم قال للقاضي: الآن انظر في أمرهما، فنظر القاضي في أمرهما، وقال: إن الحق مع هذا الرجل البسيط، وإن العقاب الذي أقضيه هو كذا وكذا على الوسيط، فما كان من الحاجب المنصور إلا أن قام بإنفاذ مظلمة الرجل، ثم قام إلى الوسيط فأقام عليه أضعاف الحد الذي كان قد أوقعه عليه القاضي، فتعجب القاضي وقال للمنصور: يا سيدي، إنني لم آمر بكل هذه العقوبة، فقال الحاجب المنصور: إنه ما فعل هذا إلا لقربه منا، ولذلك زدنا عليه الحد؛ ليعلم أن قربه منا لن يمكّنه من ظلم الرعيّة.
الدولة العامرية بعد الحاجب المنصور
من خلف ستار الخلافة الأموية ظل الحاجب المنصور يحكم الأندلس ابتداءً من سنة 366هـ= 976م وحتى وفاته - رحمه الله - في سنة 392هـ= 1002م، وقد استخلف على الحجابة من بعده ابنه عبد الملك بن المنصور، فتولّى الحجابة من حين وفاة والده وحتى سنة 399هـ= 1009م –أي: سبع سنوات متصلة-، سار فيها على نهج أبيه في تولي حكم البلاد، فكان يجاهد في بلاد النصارى كل عام مرة أو مرتين، كل هذا وهو أيضاً تحت غطاء الخلافة الأموية.
في هذه الأثناء وعند بداية ولاية عبد الملك بن المنصور أمر الحجابة كان الخليفة هشام بن الحكم قد بلغ من العمر ثمانية وثلاثين عاماً، ومع ذلك فلم يطلب الحكم، ولم يحاول قط أن يُعمل نفوذه وسلطانه في بلاد الأندلس، فكان فقط قد تعود على حياة الدعة، واستماع الأوامر من الحاجب المنصور، ومن تلاه من أولاده.
تولي عبد الرحمن بن المنصور وانتهاء الدولة العامرية
في سنة 399هـ= 1009م من الهجرة وفي إحدى الحملات في الشمال يتوفي عبد الملك بن المنصور، ثم يتولى أمر الحجابة من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور؛ حيث كان أولاد بني عامر يتملكون زمام الأمور في البلاد، وأخذ أيضًا يدير الأمور من وراء الستار، لكنه كان مختلفًا عن أبيه وأخيه، فبالإضافة إلى أن أمه كانت بنت ملك نافار وكانت نصرانية، فقد كان عبد الرحمن بن المنصور شابًا ماجنًا فاسقًا شَرّابًا للخمر فعالًا للزنا كثير المنكرات، فكان الشعب يكرهه بدرجة كبيرة، ذلك الشعب الذي كان غالبيته من المسلمين كان يكره أن يتولى أمره من جاء من أم نصرانية.
وفوق ذلك فقد قام عبد الرحمن بن المنصور بعمل لم يُعهد من قبل عند العامريين، وهو أنه أقنع الخليفة هشام بن الحكم في أن يجعله وليًا للعهد من بعده، وبذلك لن يصبح الأمر من خلف ستار الخلافة الأموية كما كان العهد حال تولي والده محمد بن أبي عامر أو أخيه عبد الملك بن المنصور، فكان أن ضجّ بنو أميّة لهذا الأمر، وغضبوا وغضب الناس أجمعون، لكن لم تكن لهم قدرة على القيام بأي رد فعل؛ خاصة وأن عبد الرحمن بن المنصور قد جعل جميع الولايات في أيدي العامريين، وفي يد البربر الذين هم أتباع العامريين منذ أيام الحاجب المنصور.
ومع كل هذا الفسق وهذا المجون الذي كان يعيشه عبد الرحمن بن المنصور إلا أن الشعب كان قد تعوّد حياة الجهاد، والخروج كل عام إلى بلاد النصارى، وفي إحدى المرّات خرج عبد الرحمن بن المنصور على رأس جيش من الجيوش إلى الشمال، فانتهز الناس الفرصة وأرادوا أن يغيروا من الأمر، فذهبوا إلى هشام بن الحكم في قصره، وخلعوه بالقوّة، وعينوا مكانه رجلًا من بني أميّة اسمه: محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر (من أحفاد عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر)، ثم دبّروا مكيدة لعبد الرحمن بن المنصور وقتلوه، وانتهى بذلك ما يسمى في تاريخ الأندلس بعهد الدولة العامرية.
قيام وسقوط الدول والحضارات... وقفة متأنية
بعد الوصول إلى هذه المرحلة من الضعف والتفتت والهوان، هناك تعليق عام، وتحليل، واستراحة على طول طريق الأندلس منذ الفتح وحتى هذه المرحلة، نستجلي فيه سنة من سنن الله - سبحانه وتعالى - في كونه بصفة عامة، وفي الأمة الإسلامية بصفة خاصة، وهي سنّة قيام وسقوط الأمم، وسنة الارتفاع والهبوط، تلك التي لوحظت بشكل لافت في الدولة الإسلامية خاصة.
وحقيقةُ الأمر أنه منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، بل حتى قيام الساعة، اقتضت سنّة الله في الأمم والحضارات بصفة عامة أن تقوم ثم تسقط وتزدهر ثم تندثر، فمن سنن الله أن كانت هناك قوانين اجتماعية وإنسانية عامة تتصل مباشرة بضبط مسيرة الحياة الإنسانية، ومسيرة الأمم والشعوب، فإذا ما التزمت الأمم والحضارات بهذه القواعد دامت وكانت في خير وسعادة، وإذا حادت عنها لقيت من السقوط والاندثار ما هي أهل له، قال - تعالى -: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140].
وليست الأمة الإسلامية بمنأى عن هذه السنن الكونية، فمنذ نزول الرسالة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والدولة الإسلامية تأخذ بأسباب القيام فتقوم، ثم تحيد عنها فيحدث الضعف ثم سقوط.
وأسباب قيام الدولة الإسلامية كثيرة على نحو ما ذكرنا فيما مضى، والتي كان من أهمّها:
أولًا: الإيمان بالله - سبحانه وتعالى -، والاعتقاد الجازم بنصرته وقدرته.
ثانيًا: الأُخوة، والوحدة، والتجمّع ونبذ الفرقة.
ثالثًا: العدل بين الحاكم والمحكوم.
رابعًا: العلم، ونشر الدين بين الشعوب.
خامسًا: إعداد العدة، والأخذ بالأسباب (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60].
فإذا أخذ المسلمون بهذه الأسباب فإنهم سرعان ما يقومون، وغالب الأمر يكون القيام بطيئًا ومتدرجًا، وفيه كثير من الصبر والتضحية والثبات، ثم بعد ذلك يكون القيام باهرًا، ثم يحدث انتشار للدولة الإسلامية بصورة ملموسة، حتى تفتح الدنيا على المسلمين، وهنا يصبر القليل على الدنيا وزينتها، ويقع الكثيرون في الفتنة، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ)).
ومن جديد يحدث الضعف فالسقوط، وعلى قدر الفتنة بالمادة والمدنية يكون الارتفاع والانحدار، والسقوط والانهيار.
وأمر الفتنة هذه هو الذي فقهه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في سنة 17هـ= 735م حين أمر بوقف الفتوحات في بلاد فارس، في عمل لم يتكرر في تاريخ المسلمين إلا لدى قليل ممن هم على شاكلته، وذلك حين فتحت الدنيا على المسلمين، وكثرت الغنائم في أيديهم.
خاف عمر - رضي الله عنه - أن تتملك الدنيا من قلوب المسلمين، وخشي أن يُفتَنوا بالدنيا ويخسروا الآخرة فيخسروا دولتهم، وكان همه أن يُدخل شعبه الجنة لا أن يُدخله بلاد فارس، فإذا كان دخول فارس على حساب دخول الجنة: فلتقف الفتوح، ووددت لو أن بيني وبين فارس جبل من نار، لا أقربهم ولا يقربوني. ولم يعد - رضي الله عنه - إلى مواصلة الفتوح إلا بعد أن هجم الفرس على المسلمين، وخاف على المسلمين الهزيمة والضياع.
والأمة الإسلامية تنفرد بأنها أمة لا تموت، ودائمًا في قيام، فإذا سقطت أتبع السقوط قيام، أما ألا يُتبَع السقوطُ قيامٌ فهذا ليس من سنن الله مع المسلمين، ولا يحدث إلا مع أمم الأرض الأخرى غير الإسلامية، تلك الأمم التي يغلب عليها سقوط واندثار لا يتبعه رجعة، حتى وإن طال أجل القيام والازدهار، ومن أصدق الأمثلة على ذلك حضارة الفراعنة، واليونان، وامبراطوريتي فارس والروم، وامبراطورية إنجلترا التي لا تغرب عنها الشمس... وهذه السُّنة الكونية يمثلها قوله - تعالى -: (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21]. (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) [النور: 55]. ومما يُثبت سنة الله هذه في الدولة الإسلامية ذلك الحديث الذي رواه أبو داود في سننه وصححه الحاكم ورواه في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا)). فمعنى هذا أنه سيحدث سقوط، ومن بعد السقوط ارتفاع وعلو، وهذا الارتفاع سيكون على يد مجدد أو مجموعة مجددين، وهكذا إلى قيام الساعة.
والتاريخ الإسلامي مليء بمثل هذه الفترات، ففيه الكثير من أحداث الارتفاع والهبوط، ثم الارتفاع والهبوط، ولم يكن هذا خاصًّا بتاريخ الأندلس فقط؛ بل إن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاهدوا ذلك بأعينهم، فبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - مباشرةً حدث سقوط ذريع، وانهيار مروّع، وردّة في كل أطراف جزيرة العرب التي لم يبق منها على الإسلام سوى مكة والمدينة وقرية صغيرة تسمى هَجَر -هي الآن في البحرين-.
وبعد هذا السقوط يحدث قيام عظيم وفتوحات وانتصارات، كان قد جدّد أمرها وغرس بذرتها أبو بكر - رضي الله عنه - بعد أن أجهض على الردّة، ثم فتحت الدنيا على المسلمين في عهد سيدنا عثمان - رضي الله عنه -، فحدثت الفتنة والانكسارات في الأمة الإسلامية، مما أدّى إلى مقتله - رضي الله عنه - وهو الخليفة الراشد، وصاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وظلّت طيلة خلافة سيدنا علي - رضي الله عنه -.
ومن جديد يستتبّ الأمر، وتقوم الدولة الأموية، وتستكمل الفتوح، ثم فترة من الزمان ويحدث سقوط آخر حين يفسد أمر بني أمية، وعلى أَثَره يقوم بني العباس فيعيدون من جديد المجد والعزّ للإسلام، وكالعادة يحدث الضعف ثم السقوط، وعلى هذا الأمر كانت كل الدول الإسلامية الأخرى التي جاءت من بعدها، مرورًا بالدولة الأيوبية، وانتهاءً بالخلافة العثمانية الراشدة التي فتحت كل شرق أوروبا، وكانت أكبر قوة في زمنها.
فهي إذن سنة من سنن الله - تعالى - ولا يجب أن تفُتّ في عضد المسلمين، ولا بدّ للمسلمين من قيام بعد سقوط، كما كان لهم سقوط بعد قيام، وكما ذكرنا سابقًا فإنه ليس بين الله - سبحانه وتعالى - وبين أحد من البشر نسبًا، ((يَا فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)).
فإن ضل المسلمون الطريق، وخالفوا نهج نبيهم؛ فستكون الهزيمة لا محالة، وسيكون الانهيار المرّوع الذي شاهدناه في الأندلس، والذي نشهده في كل عهود المسلمين.

عهد الدولة العامرية والفتنة (1)

عهد الدولة العامرية والفتنة (1) 
 
{ للأمانة...الكاتب ::راغب السرجاني}
كيف نشأت الدولة العامرية؟ وكيف انتهت؟
يعتبر محمد بن أبي عامر هو مؤسس هذه الدولة، وتبدأ قصته عندما كان أحد الوصايا على هشام بن الحكم، وبدأ في التخلص من باقي مجلس الوصاية، وسيطر على الخليفة صغير السن، وبدأ يقوِّي نفوذه في الدولة، حتى إنه عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور. وتبدأ هذه الدولة فعليًّا منذ سنة 366هـ/ 976م، وظلت حتى سنة 399هـ/ 1009م، ولكنها كانت تابعة للدولة الأموية؛ لأن هشام بن الحكم كان ما زال يحكم ولو بشكل رمزي، وبعد وفاة الحاجب المنصور سنة 392هـ/ 1002م تولى الحجابة بعده عبد الملك بن المنصور، وتوفي عبد الملك بن المنصور سنة 399هـ/ 1009م، وتولى أمر الحجابة من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور، ولكنه كان ظالمًا فقتله الناس، وعزلوا هشام بن الحكم وتنتهي الدولة العامرية.
انتشار الفتن بعد سقوط الدولة العامرية، ويبدأ عهد يعرف باسم ملوك الطوائف.
تميزت هذه الفترة بكثرة الفتن والصراعات، مثل التي حدثت بين المهدي الذي تولى الحكم بعد هشام بن الحكم وبين سليمان بن الحكم الذي أعلنه البربر خليفة، وتحدث الكثير من النزاعات لتصل إلى الدرجة التي تجعل البعض يستعين بالنصارى، ثم يتدخل البربر ويعلنون خليفة منهم يسمى علي بن حمود، ولكن العامريين يتدخلون محاولين إعادة نفوذهم مرة أخرى، ويعلنون أحد الأمويين ويسمى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله خليفة، ولقبوه بالمرتضى بالله، وتدور الكثير من الصراعات بين البربر والعامريين، ويحاول العلماء التدخل لإصلاح هذه الأوضاع، ويعلنون قيام مجلس شورى لكي يحكم، وبالفعل يتولى الحكم ولكنه كان يسيطر على قرطبة فقط، أما باقي بلاد الأندلس فكانت تعيش في حالة من الفوضى والدمار، ومن ثَمَّ تنقسم الأندلس إلى دويلات متفرقة، ويبدأ عهد جديد يسمى "عهد ملوك الطوائف".
ولكن ما أسباب التحول من القوة إلى الضعف؟ وما مكانة المسلمين اليوم بين القيام والسقوط؟
إن التحول من القوة إلى الضعف سنة من سنن الله - سبحانه وتعالى -، فإن أية دولة تبدأ من مرحلة النمو ثم تنمو هذه الدولة لتصل إلى مرحلة القوة والازدهار، ثم تبدأ الدولة في الانهيار تدريجيًّا حتى تصل إلى مرحلة الشيخوخة.
والأمة الإسلامية تنفرد بأنها أمة لا تموت ودائمًا في قيام، فإذا سقطت أتبع السقوطَ قيامٌ، أما بالنسبة إلى الوضع اليوم في العالم الإسلامي فلا يوجد خلافة إسلامية ولا تطبيق للشرع، ولكن ما نراه اليوم من كثرة عدد المصلين والمحجبات، والصحوة الجهادية في البلدان المحتلة يشير إلى أن إصلاح هذه الأمة سيكون قريبًا بإذن الله - سبحانه وتعالى -.
الحَكَمُ بنُ عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، وكبوة الجواد
بالرغم من أنه كان من أفضل الحكام المسلمين على الأندلس إلا أن الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر في آخر عهده قد أخطأ خطأ جسيمًا، فقد أصيب في آخر أيامه بالفالج (شلل)، فقام باستخلاف أكبر أولاده هشام بن الحكم وعمره آنذاك اثنتا عشرة سنة فقط، استخلفه على بلاد الأندلس وفوقها بلاد النصارى في الشمال، ومن تحتها الدولة الفاطمية في الجنوب، وكل ممالك أوروبا تتشوق إلى الكيد بهذه القوة العظيمة وهزيمتها.
وهي بلا شكٍ زلّة خطيرة من الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر؛ إذ كان عليه أن ينتقي من يستخلفه لهذه المهمة الجسيمة، ويولّي رجلًا آخر من بني أميّة، يستطيع أن يقوم بالأعباء الثقيلة لمهمة حكم دولة قوية، كثيرة الأعداء، متسعة الأطراف، ومترامية الأبعاد كدولة الأندلس.
توفي الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر - رحمه الله - سنة 366 هـ= 976 م، مستخلفًا على الحُكم ابنه الطفل الصغير هشام بن الحكم، وقد جعل عليه مجلس وصاية مكون من ثلاثة أشخاص:
الأول: الحاجب: وهو جعفر بن عثمان المصحفي، والحاجب أي الرجل الثاني في الدولة بعد الخليفة مباشرة، وهو بمثابة رئيس الوزراء حاليًا.
الثاني: قائد الشرطة: وهو محمد بن أبي عامر، وكان من اليمن.
الثالث: أم هشام بن الحكم، وكان اسمها (صُبْح).
محمد بن أبي عامر ت 392 هـ= 1002 م
كان محمد بن أبي عامر يملك طموحات ضخمة وآمال كبيرة أطمعته في أن يكون واليًا على هذه البلاد، ولتحقيق هذا الحلم قام بعدة مكائد غاية في الظلم والقسوة، فعمل على الآتي:
أولًا: فكر في التخلص من الوصيين اللّذَيْن كانا معه على هشام بن الحكم، فدبر مكيدة سجن فيها الحاجب (جعفر بن عثمان المصحفي) ثم قتله بعد ذلك، ثم نظر إلى أمر أم هشام بن الحكم فوجد أن موقفها ضعيف بالنسبة له كقائد شرطة فتركها في قصرها، ثم تقلّد هو الأمور وحده، وبدأ يحكم بلاد الأندلس باسم الخليفة الصغير هشام بن الحكم.
ثانيًا: أراد محمد بن أبي عامر بعد ذلك أن يقوّي جانبه أكثر مما كان عليه، فتزوج من ابنة أمير الجيش غالب بن عبد الرحمن، وبذلك يكون قد حيّد جانب أمير الجيش، وضمن ولاء الجيش الأندلسي له، وحين انتبه غالب بن عبد الرحمن -أمير الجيش ووالد زوجته- له وعلم نيّاته وخطته وأفصح له عن ذلك، دبّر محمد بن أبي عامر له مكيدة أيضًا ثم قتله.
ثالثًا: لم يكتف محمد بن أبي عامر بذلك، فقد قام باستدعاء جعفر بن علي بن حمدون قائد الجيش الأندلسي في المغرب، (كانت المغرب قد ضمت إلى بلاد الأندلس في عهد الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر كما ذكرنا)، استدعاه إليه وقربه منه، واستفاد كثيرًا من قوته، ثم دبّر له مكيدة أيضا وقتله، وكان كلما قتل شخصاً عيّن مكانه مَن يعمل برأيه وبوصاية منه، وبذلك يكون قد تملّك من كل الأمور في الأندلس.
رابعًا: وبنظرة طويلة إلى الأمام بدأ محمد بن أبي عامر يقنع الخليفة الصغير هشام بن الحكم بالاختفاء في قصره بعيدًا عن العيون؛ وذلك - كما يزعم - خوفاً عليه من المؤامرات، وأن على الخلفاء أن يتفرغوا للعبادة، ويتركوا أمور الناس لرئاسة الوزراء، أو لقوة الشرطة، أو غيرهما، وهكذا أقنعه، وقام هو بإدارة دفّة البلاد، ورُبّي ونشأ هشام بن الحكم الطفل الصغير على هذا الفهم.
بروز نجم محمد بن أبي عامر (الحاجب المنصور)
مرت السنوات ومحمد بن أبي عامر يتولى كل شيء في بلاد الأندلس، وهشام بن الحكم يكبر في السن لكنه لم يكن يعرف شيئًا عن الحكم، وتحمُّل المسئولية، وفي 371هـ= 982م وبعد حوالي خمس سنوات من تولي هشام بن الحكم الأمور ووصاية محمد بن أبي عامر عليه، كان الأمر قد استَتَبَّ لمحمد بن أبي عامر، ولقّب نفسه بالحاجب المنصور.
وكان من عادة الخلفاء قبل ذلك أن يطلقوا على أنفسهم ألقابًا تميزهم ويُعرفون بها، وعليها كانوا يؤملون، وذلك مثل: الناصر بالله، الحاكم بأمر الله، المؤيد بالله، لكن هذه هي أول مرة يقوم فيها الوصي أو رئيس الوزراء أو الحاجب بأخذ لقب لنفسه وهو المنصور، الأمر الذي تطور كثيرًا حتى أصبح يُدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم، ثم نقش اسمه على النقود، وعلى الكتب والرسائل.
وإتمامًا لذلك وكما أنشأ عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر - رحمه الله - مدينة الزهراء في الشمال الغربي من مدينة قرطبة؛ لتكون مركزًا لخلافته، قام محمد بن أبي عامر بإنشاء مدينة جديدة في شرق قرطبة سمّاها مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية.
وبدأ محمد بن أبي عامر ينقل الوزارات، ودواوين الحكم إلى مدينة الزاهرة، وأنشأ له قصرًا كبيرًا هناك، وبدأ يجمّل فيها كثيرًا، حتى أصبحت مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية هي المدينة الأساسية في الأندلس، وبها قصر الحكم.
الدولة العامرية 366 - 399هـ= 976 - 1009م
بعد التمهيدات السابقة وفي الطريق نحو عهد جديد من تاريخ الأندلس قام محمد بن أبي عامر بعمل الآتي:
أولًا: في سنة 381هـ= 991م قام بأمر لم يعهد من قبل في تاريخ الأندلس، بل في تاريخ المسلمين، حيث عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور، وكان المشهور والمتعارف عليه أن الخليفة وحده هو الذي يعهد بالخلافة من بعده.
ثانيًا: وتمهيدًا لإقامة مُلْك على أنقاض بني أمية، قام في سنة 386هـ= 996م بتلقيب نفسه بلقب الملك الكريم، كل هذا وهشام بن الحكم الخليفة يكبر في السن، لكن ليس له من الأمر شيء.
ثالثًا: قام محمد بن أبي عامر بعد ذلك بعمل خطير أدى - فيما بعد وعلى ما سنرى - إلى انقساماتٍ كثيرة في بلاد الأندلس، فقد كان محمد بن أبي عامر يمنيًا، واليمنيون في الأندلس ليسوا بكثرة، ولخشيته من الاستعانة بالقبائل المضرية، وقبائل بني أمية معه في الجيش، وبقية الأمور؛ فكّر أن يستعين بعنصر آخر وهم البربر، فبدأ يعظّم من أمرهم، ويرفع من شأنهم؛ حتى يضمن ولاءهم.
بدأ العامريون يكثرون في أماكن الحكم في بلاد الأندلس، وبدأ التاريخ يسجل لهم عهدًا جديدًا سماه: الدولة العامرية، وقد بدأت فترة هذه الدولة فعليًا منذ سنة 366هـ= 976م، ومنذ أن تولى محمد بن أبي عامر أمر الوصاية على هشام بن الحكم، وظلت حتى سنة 399هـ= 1009م أي أنها استمرت ثلاثًا وثلاثين سنة متصلة، لكنها تعتبر داخلة في فترة الخلافة الأموية؛ لأن هشام بن الحكم الأموي لا زال هو الخليفة، حتى وإن كان رمزًا أو بعيدًا عن مجريات الأمور.
جوانب مضيئة في حياة محمد بن أبي عامر:
كما رأينا فقد تولّى محمد بن أبي عامر الحكم منذ سنة 366هـ= 976م وحتى وفاته - رحمه الله - في سنة 392هـ= 1002م، وقد بدأ عهده كما رأينا بمكائد ومؤامرات وقتلٍ - على الأقل - لثلاثة أنفس، حتى وصل إلى تولّي كافة الأمور في الأندلس.
ومن العجيب حقًا أنه - بالرغم من أفعال محمد بن أبي عامر هذه - إلا أنه كانت له محامد وجوانب مضيئة في حياته، جعلت جميع المؤرخين يتعجبون من سيرته، ويقفون في حيرة من أمره، ومن هذه الجوانب ما يلي:
أولا: كان مجاهدًا... كان غريباً حقاً أن يغزو محمد بن أبي عامر في حياته أربعًا وخمسين غزوة لم يُهزم أبدًا في واحدة منها، بل كان الأغرب من ذلك هو أن يصل (الحاجب المنصور أو محمد بن أبي عامر) في فتوحاته إلى أماكن في مملكة ليون وفي بلاد النصارى لم يصل إليها أحد من قبل، بل لم يصل إليها الفاتحون الأوائل مثل موسى بن نصير وطارق بن زياد، فقد وصل الحاجب المنصور إلى منطقة الصخرة، تلك المنطقة التي لم تُفتح من قِبَل المسلمين من قبل، واستطاع - رحمه الله - أن يغزو النصارى في عقر دارهم، وها هو قد وصل إلى خليج بسكاي والمحيط الأطلسي في الشمال.
وكان من المتعارف عليه قبل ذلك أن الجهاد في الصوائف فقط، إلا إن الحاجب المنصور كان له في كل عام مرتان يخرج فيهما للجهاد في سبيل الله، عُرفت هاتان المرتان باسم: الصوائف والشواتي.