الجمعة، 29 يوليو 2016

تاريخ ومجتمع 12 الطريق إلى الأقصى- القدس في ظل المماليك وبداية العصر العثماني

تاريخ ومجتمع 12 الطريق إلى الأقصى- القدس في ظل المماليك وبداية العصر العثماني


بعد أن استطاع صلاح الدين الأيوبي تحرير بيت المقدس راحت معالم السكان تعود إلى سباق عهدها قبل الاحتلال الصليبي، لكن بعض المستشرقين وبعض المرتبطين بالتوجه اليهودي حاولوا أن يدسوا العنصر اليهودي في ذلك الوقت، بحيث يظهرون دوراً ما لليهود في تحرير القدس ومن دور آخر في السكان في المدينة على اعتبار أنها جزء من بلادهم- كما يزعمون- وللحقيقة نرى أن العودة للمصادر التي كتبت مرافقة لجهاد صلاح الدين ومن بعده تؤكد لنا كثيراً من الحقائق التي تدحض تلك المزاعم.

غادر القدس المسيحيون اللاتين الذين ارتبطوا بالوجود الصليبي وتدفق عليها المسلمون وراح المسيحيون العرب يسكنوها، إضافة لبعض ممثلي الطوائف المسيحية، من أرمن وأحباش وإغريق.

وقد حظي المسيحيون برعاية السلطات المملوكية وتمتعوا بالإعفاءات من الضرائب، ومارسوا طقوسهم بحرية تامة، وقد بلغ تعداد المسيحيين أحياناً ما يزيد عن 10 بالمائة من عدد سكان القدس، والواقع أن عدداً قليلاً جداً من اليهود العرب سكنوا القدس لم يزيدوا على بضع أسر قليلة العدد، وتمتع هؤلاء بحرية دينية.

وغالباً ما نشأت خلافات بينهم وبين المسيحيين حول بعض الأماكن المقدسة وملكيتها، ويذكر صاحب كتاب (الأنس الجليل) المؤرخ العليمي أن المماليك وقفوا على الحياد حيال هذه الخلافات، وكان الحل في هذه المشاكل يعود إلى القضاء الإسلامي النزيه.

على أية حال فإن الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي زار المنطقة في القرن الثاني عشر الميلادي، وقدم إحصائية لعدد اليهود في كل مكان زاره، ووصف أحوالهم فوجد في بيت طبرين ثلاثة من اليهود، وفي بيت لحم أحد عشر، وفي الرملة ثلاثة، وفي يافا وجد واحداً، وفي كل قيسارية وعكا مائتين، وفي طبريا خمسين، وفي اللد وجد يهودياً واحداً، ولم يجد في القدس وحيفا ونابلس وقاقون وسبسطية وكفر ناحوم وبقية المناطق أحداً من اليهود.

وقد وجد في دمشق ثلاثة آلاف يهودي، أما القلائل الذين ذهبوا إلى القدس بعد تحريرها على يد صلاح الدين، فقد اشتغلوا في الدباغة والصياغة وجمع الثروات.

ففي عام 1473، أي في زمن المماليك تمكنوا من بناء كنيس صغير لهم، ودار خلاف شديد حول بناء هذا الكنيس بينهم وبين المسلمين، وقد تثبت القضاء آنذاك أن هذا الكنيس غير شرعي فألغي.

ويذكر القلقشندي في كتابه (صبح الأعشى): أنه كان من المفترض أن يكون لليهود رئيس خاص بهم في فلسطين، يرعى شؤون أفرادهم الدينية ويمثلهم لدى سلطة المماليك، ونظراً لوجود أكبر تجمع لهم في دمشق فقد كان هذا الرئيس يقيم فيها.

بينما كان اليهود السامريون يسكنون قرب نابلس ولهم رئيس طائفة، وينفصلون عن بقية اليهود في بلاد الشام، من حيث انتمائهم وعاداتهم وتشريعاتهم، وقد حافظوا على عددهم القليل دون دخول أي يهودي غريب بينهم.

والأمر الملفت أيضاً أن بطريركية عربية أرثوذكسية أقيمت في القدس وتقلصت جداً مرجعية المسيحية اللاتينية، ففي أواخر العصر المملوكي كثر عدد سكان القدس وانتشرت فيها الأحياء وقد عرفت كل حارة باسم الطائفة التي كانت تسكنها، وقد بلغ تعداد كل حارة حوالي 500 شخص، وقد كان للمسيحيين أحياء خاصة، ووجدت بعض بيوت اليهود منتشرة فيما بين مجموع السكان ولم يكن لهم حارات بسبب ندرة أعدادهم.

ويقول المؤرخ لابيدوس في كتابه (مدن الشام في العصر المملوكي): لم توجد المجتمعات المشابهة لأحياء اليهود المعروفة بالغيتو أبداً في مدينة القدس. ومما ذكره المقريزي والقزويني وغيرهما أن القدس حظيت بالعصر المملوكي بمكانة سامية، وعاشت أروع عصورها في تاريخ الإسلام، فقد حظيت بالقداسة لدى المسلمين والنصارى وغيرهم، وتوفرت فيها أجواء الحرية الدينية وكان الزوار يؤمونها بشكل دائم.

ومما يذكر أن سلاطين المماليك اختاروا القدس مكاناً للإقامة الجبرية للأمراء المبعدين لأخطاء ما لم تشكل خطراً على الدولة، ويرى بعض المؤرخين أن الذي كان ينفى إلى القدس من قبل سلاطين المماليك إنما هو يكافأ بسبب مناخ القدس الجيد وتوفر كل شيء فيها من حرية دينية وموارد وثقافة ومدارس لم تتوفر في أي مدينة أخرى من الشام.

بعد حكم المماليك وانكسارهم في مرج دابق أمام العثمانيين زحف السلطان سليم الأول نحو بلاد الشام ووصل إلى القدس، وقد استقبله أهلها بترحاب كبير إذ كانوا قد عانوا كثيراً من الظلم على أيدي ولاة المماليك في آخر عصورهم.

والواقع أن عصر ابنه سليمان القانوني يعتبر من أزهى عصور الدولة العثمانية، وكان حكمه مهماً بالنسبة لمدينة القدس، وبسبب صراعات العثمانيين مع الدول الأوروبية ثارت رياح المشاعر الصليبية من جديد وخشي الناس من تعرض القدس لحملة صليبية وكانت أسوار المدينة ضعيفة جداً، لذلك أمر السلطان سليمان بإعادة إعمار أسوار القدس وقد أشيع وقتها أن السلطان شاهد في منامه النبي e وأنه هو الذي أمره بتجديد دفاعات القدس.

وبالفعل بنت السلطات العثمانية سوراً طوله حوالي الميلين وارتفاعه أكثر من عشرة أمتار وكان في السور أربعة وثلاثون برجاً وأحاط السور بالمدينة وجعل فيه سبعة أبواب أهمها باب دمشق الذي يقال بأن المعماري العثماني المشهور سنان باشا هو الذي صممه وجاء الفراغ من هذه الأعمال عام 1541م.

وأنفق السلطان سليمان الأموال على تأمين المياه للقدس فتم تجديد بحيرة السلطان جنوب غربي القدس، وأصلحت قنوات جر المياه وبنيت ست نوافير في ساحة الحرم.

وتذكر بعض المصادر أن السلطان سليمان سهل دخول بعض يهود الأندلس إلى القدس لكن التحليل التاريخي يرى أن استقطاب هؤلاء اليهود في الدولة العثمانية جاء بعد محاكم التفتيش في إسبانيا، فقد أبدى الإسبان خشية بالغة ضد المسلمين وأكثرية يهود الأندلس، بينما ارتأى السلطان سليمان أن رحمة الإسلام تستقطب الناس أجمعين.

وقد كانت الدولة العثمانية قوية جداً بحيث كانت واثقة من عدم خطر اليهود أو غيرهم على مدينة القدس، وحقيقة فإن قوة الدولة وتساهل الإسلام ورحمته مكنت لبعض اليهود أن يجدوا لهم ملجأ في القدس خوفاً من بطش المسيحية الغربية ضدهم وخاصة في إسبانيا وروسيا.

والواقع أن السلطان سليمان اهتم كثيراً بالحرم القدسي حيث شمل الترميم بعض أجزاء قبة الصخرة مع تغليف بعض الأجزاء الأخرى بالرخام ولاقت أوقاف الحرم القدسي مع بعض المدارس مزيداً من العناية.

كما تنازل السلطان عن حقه في الرسوم التي تُجبى من الحجاج وذلك لصالح الإنفاق على تلاوة القرآن في قبة الصخرة لمدة سنة وتحسنت دخول الأوقاف وبالتالي ازداد الإنفاق.

وقد ورد في رحلة اليهودي بنيامين التطيلي وكذلك في كتاب القدس مدينة واحدة وعقائد ثلاث لـ كارين ارمسترونغ أن نفوذ اليهود في القدس بلغ درجة عالية في عهد السلطان سليمان، لكن التأريخ لهذه المرحلة من قبل اليهود لا يتوافق مع حقيقة أن الدولة العثمانية القوية لم تفكر يوماً في أن يكون لليهود موطئ قدم للانقضاض على المسلمين ومدينتهم.

لكن بعض اليهود اختلسوا التسامح العثماني وراحوا يتسللون إلى القدس فرادى حتى وصل عددهم في القرن الثامن عشر إلى بضعة آلاف، وكانت المسألة الشرقية قد برزت وبرزت معها ضعف الدولة العثمانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق