الأحد، 31 يوليو 2016

نهوض الأمم المغلوبة المهمّشة

نهوض الأمم المغلوبة المهمّشة


في لحظة تاريخية غير بعيدة اكتشف الإنسان بالملموس أنّ كوكب الأرض يشبه سفينة فضائية صناعية تجوب الفضاء، فهو كوكب محدّد المساحة والأبعاد ومحدود الموارد الطبيعية. وقد تحقّق هذا الاكتشاف بفضل بلوغ البشرية مرحلة عمرية متقدّمة ومناسبة لتحقيقه. لعلها مرحلة ما بعد المراهقة! أمّا ما كان ينبغي أن يترتّب على الاكتشاف فهو البدء بإحداث تغييرات إصلاحية سلمية، جذرية ونوعية، سواء في العلاقات بين البشر أم في العلاقات مع الطبيعة، غير أنّ ما حدث هو العكس تماماً، فقد استعرت الحروب العدوانية الهمجية الإبادية أكثر، وتعاظم تبديد الموارد جميعها أكثر فأكثر، إضافة إلى تمزيق الغلاف الجوّي الذي يحمي سكان السفينة الفضائية الطبيعية ويحفظ حياتهم!

إنّ تقدير عمر البشرية يمكن أن يقاس بما بلغته من نمو في النضج والمعرفة والعلاقات المجتمعية، وبما بلغته من نموّ في العدد والكثافة والانتشار السكاني، فهي مثل أيّ كائن حيّ فرد تمرّ بجميع مراحل وخصائص العمر المختلفة، ولعلّ سكّان الأرض في العصر الحجري، الذين يقدّر عددهم بحوالي المليون، كانوا البشرية في حالة تشكّلها كجنين! أمّا الملايين الخمسة في فترة بزوغ فجر الزراعة، قبل حوالي ثمانية آلاف عام، فلعلّهم كانوا البشرية في طفولتها أو فتوّتها الأولى! واليوم يبدو كأنّما البشرية، بعد بلوغها سنّ الرشد، وقعت في قبضة عصابات من المنحرفين الخطرين ، فهي مهمّشة مغلوبة على أمرها!

وجدير بالذكر، ونحن نتأمّل في المأساة البشرية، أنّ الزيادات في عدد سكان الأرض ظلّت تحسب بالملايين وبعشرات الملايين حتى بدايات الألف الميلادية الثانية، ثمّ صارت الزيادات تحسب بمئات الملايين منذ القرن السابع عشر، حيث بلغ عدد سكان الأرض في العام 1650 حوالي خمسمائة مليون نسمة، ليبلغ في العام 1850 المليار الأول! أمّا القرن العشرون فقد شهد ثورة مذهلة في ميدان نمو تعداد سكان الأرض، حيث صارت بضع عشرات من السنين كافية لإضافة مليار جديد إلى تعداد البشرية. فالملياران في العام 1930 صارا حوالي أربعة في العام 1975، وحوالي ستة في العام 1993، وفي نهاية القرن العشرين حوالي سبعة! ومن المتوقع، بالوتيرة ذاتها، أن تبلغ الزيادة ثلاثة عشر ملياراً في نهاية هذا القرن، فيصبح العدد عشرين ملياراً في العام 2100!

نعود إلى موضوع اكتشاف جغرافية الأرض المحدّدة ومواردها المحدودة لنقول أنّ ذلك بدّد نهائياً أوهام المخيلة البشرية، فلم يعد ثمّة مجال للأحلام الخرقاء والمغامرات الرعناء لاكتشاف أراض مجهولة وموارد غامضة، وصار لزاماً على الإنسان توحيد جهوده وتنظيمها من أجل تحقيق الكفاية والعدل، والعيش بأمان وسلام على هذا الكوكب الذي يشبه سفينة فضائية صناعية، أو أنّ السفينة تشبهه. وبالفعل أصبح تحقيق الكفاية والعدل والأمن والسلام هو الشغل الشاغل للأكثرية الساحقة من العلماء والمفكّرين والمصلحين في مختلف أنحاء الأرض، على مدى القرنين الماضيين.

غير أنّ المركزية الأوروبية/ الأميركية، ممثلة بشركاتها الاحتكارية الربوية، التي تمسك بزمام الحياة البشرية وتستولي على السلطة والثروة، ازدادت تشبّثاً بمواقعها العنصرية وإمعاناً في مشاريعها الإجرامية، فواصلت عمليات الإخضاع والهيمنة والتهميش والنهب ضدّ الأمم، وعمليات التبذير والتبديد والتدمير للموارد الطبيعية وللغلاف الجوّي.

ومنذ الهيمنة الأميركية المطلقة على العالم الرأسمالي، بعد المجزرة العالمية الثانية وعلى مدى ستين عاماً، تعاظم دور هذه الشركات إلى حدّ السيطرة على أكثر من نصف التجارة الدولية، والانفراد بتسويق حوالي 90 في المائة من أهمّ السلع المنتجة في البلدان المغلوبة المهمّشة، فبلدان الجنوب، التي تضم أغلبية البشرية وتشغل المساحة الأكبر من الأرض، عزلت عن النمو الرأسمالي المتسارع في الشمال لتقع في عجوز متنوعة مزمنة، حيث كان الدخل الفردي ذات عام في الجنوب بحدود 126 دولاراً مقابل 2576 دولاراً للفرد في الولايات المتحدة، و1771 دولاراً للفرد في بلدان السوق الأوروبية!

نذكر على سبيل المثال أنّ هولندا استهلكت لوحدها، في عام واحد، كميات من الأسمدة تعادل ما تستهلكه جميع بلدان أميركا الجنوبية! وأنّ الولايات المتحدة، التي يشكّل سكانها نسبة 6 في المائة من سكان العالم، استهلكت لوحدها أكثر من 35 في المائة من الطاقة والمعادن المستخرجة في جميع أنحاء الأرض، حيث استهلاك أي فرد أميركي من الطاقة في أيام يعادل استهلاك الفرد في الجنوب لمدّة عام كامل! ولقد بلغ الوضع البشري المأساوي حدّاً صارت فيه الشركات المتوحشة تنتزع أكثر من دولارين كربح مقابل دولار واحد تستثمره في بلدان الجنوب! أمّا الشركات الأميركية تحديداً فقد صارت تنتزع أكثر من أربعة دولارات مقبل دولار واحد مستثمر، بل وصل مردود الدولار الواحد أحياناً إلى سبعة دولارات!

وأيضاً على سبيل المثال فقط نذكر أنّ أكثر من مليارين من البشر يفتقرون اليوم إلى المياه النظيفة المستقرّة الصالحة للشرب، بينما حلّ هذه المشكلة الخطيرة يحتاج فقط إلى ستة مليارات دولار، وهو مبلغ يقلّ عن الإنفاق العسكري العالمي لخمسة أيام في ظروف السلم، أما في الحرب فقد رأينا واشنطن تنفق على عمليات قتل العراقيين أكثر من مائة وخمسين ملياراً في العام الواحد! وتجدر الإشارة إلى أنّ المبلغ المطلوب لحلّ مشكلة مياه الشرب لا يعادل سوى جزء مما ينفق على المشروبات الكحولية!

غير أنّ أوضاع العالم بدأت تتغيّر في غير مصلحة عصابات المنحرفين المهيمنة دولياً. ويبدو أنّ بلوغ البشرية سنّ الرشد بدأ يعطي نتائجه الإيجابية، وإن متأخّراً لأكثر من قرن "وهل القرن غير لحظة في حياة البشرية؟" وهاهي مجموعة الدول العشرين تضمّ الأمم الناهضة، وهاهي المستعمرات السابقة تأخذ مواقعها إلى جانب مستعمريها السابقين على قدم المساواة! أمّا عن نهوض الأمة العربية/ الإسلامية، المغلوبة المهمّشة، فيبدو وقد صار بدوره وشيكاً على الرغم من أوضاعها السياسية الرسمية الراهنة التي تشير إلى العكس، والتي لم يعد استمرارها ممكناً. وكيف لا يكون نهوضها وشيكاً والفضل في دخول الأمم الناهضة في مجموعة الدول العشرين يعود في أحد أهمّ أسبابه المباشرة إلى فعالية المقاومة العربية/ الإسلامية "خاصة العراقية" التي أرغمت المستعمرين على القبول بقيام المجموعة؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق