الخميس، 28 يوليو 2016

السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي 6

السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي 6



ترجمة: الدكتور أنيس القيسي

بغداد ـ العراق


سادسا: العثمنة و سورية والخلافة.


لقد عرفنا من كراس أبي الهدى، الذي تم استعراضه في القسم السابق، ومن مصادر معاصرة ومستقلة أخرى، إن السلطان عبد الحميد كان يعد موقعهُ بوصفه خليفة مصدر قوةٍ ذي أهمية حيوية. والحقيقة إن السلاطين العثمانيين وجدوا خلال المائة وخمسين سنة الأخيرة، أو نحو ذلك من تاريخهم، في الخلافة، عونا جوهريا في مستويين رئيسين: الأول، هي إنها وسيلةً يعززون بها موقعهم الخاص لمواجهة تحديات القوى الاجتماعية والسياسية الجديدة في الدولة؛ أما الثاني، فهي وسيلة لإرضاء توجهاتهم نحو الصيغة المطلقة والمركزية في الحكم. إلا إن ايّا من السلاطين العثمانيين المعاصرين لم يشدّد على هذا اللقب، أو استخدمه أفضل، من السلطان عبد الحميد الثاني. في سنواته الاولى استخدم الخلافة سلاحا في صراعه مع البيروقراطية وأنصارها من اجل إقامة سلطة مطلقة في الدولة. فضلا عن إنه، وبإسم الإسلام وحماية الأرض والدين، سوّغ حكمه المطلق لأكثر من ثلاثين سنة. وقد كانت دعوة الجامعة الإسلامية مظهرا من مظاهر هذه اللعبة من اجل السلطة ليس إلا. صحيح إنها عملت على تقوية وضع السلطان دوليا، لكنها في الوقت نفسه أضفت قيمة إضافية لسلطته المحلية ولصورته في عيون رعاياه.



ربما تكون مثل هذه الحسابات هي التي كانت تحرك عبد الحميد عندما طلب التأييد والخضوع عن طريق أبي الهدى. إن حقيقة كون هذه الدعوة قد كُتبت بالعربية تقدّم الأساس للافتراض بأنه خصّصها لرعاياه العرب المسلمين فضلا عن المسلمين المثقفين في العالم، الذين كانت العربية هي اللغة المشتركة بينهم. ولا شك في إن دعوة أبي الهدى قد خدمت هذين الهدفين العريضين. ولكن يبدو، من نشاطاته خلال حكم عبد الحميد، إن اهتمام أبي الهدى الرئيس، حتى في تلك المرحلة المبكرة، لم يكن موجها نحو العرب المسلمين، ولا نحو الرأي العام الإسلامي في العالم، بل نحو سورية.

فضلاً عن ذلك، وطوال مدّة حكمه، اظهر السلطان ”اهتماما خاصا بشؤون سورية“، ربما أكثر من إي من ولاياته العربية الأخرى. على هذا الأساس، فمن المفترض إن ”داعي الرشاد“ والكتابات المشابهة، كانت موجّهة أساسا إلى رعايا السلطان المسلمين السوريين.


السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ركز كل من السلطان والشيخ أبي الهدى الكثير جدا من اهتمامهما نحو سورية ؟ للإجابة عن هذا السؤال سنعود إلى عصر التنظيمات ونستعيد باختصار بعض مظاهر التغييرات التي حدثت في المناطق السورية وما ارتأى السلطان ضرورة قلبهِ أو السيطرة عليه.

إن ظهور سورية بوصفها وحدة جغرافية كان من إفراز عصر التنظيمات، وكان واقعا جديدا على ساحة الأحداث في الشرق الأوسط. إلا إن ظهورها لا يمكن أن يُعزى إلى عاملٍ خاص بذاته، بل إلى تظافر العوامل الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، وربما السياسية. وقد أسهمت كل من هذه العوامل بحصتها للوصول إلى هذه النتيجة.


ومع ذلك، فإن إصلاحات التنظيمات، لا سيما تلك التي نُفِّذت في عهد عالي وفؤاد، والإجراءات الإدارية المُطبّقة في سورية لايمكن أن تعزى إلا إلى ذلك الهدف، اكثر من أي عامل آخر. وقد بلغ قانونا الولايات لسنتي 1864 و 1867 إلى درجة إدخال إجراءات شبه لا مركزية في الولايات. في حين وضع مرسوم الإصلاحات لسنة 1856، الذي منح المساواة في الحقوق المدنية والسياسية لغير المسلمين، الأساس لظهور الهوية المشتركة ما بين السوريين والتوحد النهائي للجماعات المختلفة في سورية في شعب واحد. وكانت تلك الإجراءات وغيرها، وتشريع القوانين ”العلمانية“ الجديدة الموسومة بالمفهوم الإقليمي ( إذ إن الشرع الإسلامي كان شخصيا) إشارات في العملية التي أدت إلى بروز سورية.


لقد كانت تلك الإصلاحات تشدّد على نمو الفئة الوسطى الجديدة، المؤلفة من المسلمين وغير المسلمين. وربما كان بروز هذه الفئة، غير المُحلّل وغير المكتوب عنه حتى الآن، العامل الأكثر أهمية في تاريخ سورية خلال القرن التاسع عشر. وهذه الفئة، المعزّزة بإصلاحات التنظيمات وبعوامل اقتصادية أيضا، المتمتعة بحماية رجال الدولة، هي التي قادت سورية إلى حقبة جديدة 0 ومن خلال هذه الفئة اصبح مفهوم ”سورية“ بوصفها وحدةً متميزة مفهوما وموضوعا موضع التطبيق لأول مرة؛ فقبل هذا التاريخ لم يكن هناك أبدا مثل مفهوم البلد الواحد الذي يُدعى ”سورية“، المأهول بشعبٍ واحد ذي هوية مشتركة مستندة على الأرض واللغة والثقافة.


وقد نظر رجال التنظيمات إلى هذا التطوّر بعين الارتياح، وقاموا بتدابير معيّنة في سورية ساعدت في تعزيز هذا المفهوم الإقليمي. على هذا الأساس، وفي سنة 1864 م، أدمجت مناطق دمشق وصيدا ومنطقة طرابلس السابقة بولاية كبيرة ضمّت الجزء الأعظم من سورية الجغرافية الممتدة من جنوبي حلب نزولا حتى صحراء سيناء. وبما إن العثمانيين كانوا يُسمّون ولاياتهم على اسم المدينة المركزية، فإن تسمية ”سورية“ وليس ”شام“ أو ”الشام“ استُعملت للإشارة إلى الولاية الجديدة. وطبقا لقانون الولايات الجديد فإن هذه الولاية كانت تُحكُم من والٍ ذي سلطات واسعة طبقا للنظام المركزي للشؤون الداخلية والنظام شبه اللامركزي في علاقاتها مع الباب العالي. وفي مايس 1866 م، عندما صدرت صحيفة الولاية أول مرة، فإنها حملت مقالا افتتاحيا حدّد، ربما أول مرة، حدود سورية. إن تلك الحدود لم تكن حدود الولاية الجديدة، بل حدود سورية الجغرافية.


بتلك الإجراءات، ساعد رجال التنظيمات في خلق إطار مفهوم الوحدة المميّزة التي أصبحت تُعرفُ بـ ”سورية“. أما بالنسبة للسكان فإنهم كانوا، على الرغم من ذلك، مُقسّمين على وفق الاختلافات الدينية شأنهم في ذلك شأن كل الولايات العثمانية الأخرى ذات الجماعات المختلطة. وهنا أيضا ساعدت الإصلاحات في تعزيز التعاون ووضع أسس التكامل.


وكانت هوية المرء في دولةٍ إسلامية مثل الإمبراطورية العثمانية محددة تقليديا على وفق أسس مذهبية. إلا إن كلا من عالي وفؤاد حاولا إقامتها على أسس إقليمية. وقد أدرك بطرس البستاني ( 1819 – 1883 م )، احد الأنصار الرئيسين لفكرة الوطنية السورية في القرن الأخير، فائدة هذا التغيير لسورية. إذ إنه سيساعد أولا في مطابقة هوية المواطن مع بلده، كما إنه سيساعد، ثانيا، في تنشئة وحدة داخلية مابين الجماعات المختلفة في البلد وتشكيل شعب واحد منها. وكانت احتمالية تحقيق ذلك في سورية اقل صعوبة، لأن الاختلافات بين جماعاتها كانت مذهبية فقط، في حين كانت في بعض الولايات الأخرى عرقية أو لغوية أو كلتيهما. وكان البستاني يعتقد بأن الوقت مناسب لمثل هذا التطور، وكان مدركا بأن هناك ”برجوازية قومية“ تؤثر فيه.


والحقيقة، إن عمل البستاني تأكد باعتقاده إن شعب سورية، على الرغم من إنقساماته، إنما يشكل قومية واحدة لأنه يتمتع بميزة العيش في بلد واحد ويتحدث باللغة نفسها. لذا، فقد دعا الناس إلى نبذ التعصّب الديني، الذي أنبت الشقاق وسبّب التخلف والخراب بين السوريين. وكتب بهذا الصدد: ”عليهم أن يتوحدوا في تضامن قومي وتضامن عربي“.


ولتسهيل الطريق أمام ظهور الشعور القومي السوري، وجد البستاني ضرورة التأكيد على الجوانب غير الدينية في الثقافة العربية. ومن المحتمل إنه كان أول عربي في العصور الحديثة يدعو إلى تجديد اللغة العربية وإحياء أدبها الكلاسيكي ودراسة تاريخ العرب. وكانت اللغة العربية تمثل له اللغة القومية لسورية، ويجب أن تكون محبّبة ومدروسة. وقد كّرس افضل سني حياته لذلك الهدف، متأملا من إقامة تجانس ثقافي خلق أساس ٍ قوي للوحدة الداخلية مابين الجماعات المختلفة في سورية.

وقد ساعد ظهور وسائل الاتصال الحديثة، لاسيما الصحافة العربية، ونمو الجمهور القارئ، في حمل هذه الأفكار إلى الأوساط الأوسع. وكانت البداية الحقيقة لهذه الصحافة بإصدار ”حديقة الأخبار“ لخليل ألخوري في بيروت سنة 1858 م، و ”الجوائب“ للشدياق في إسطنبول سنة 1861، و ”الجنان“ نصف الشهرية للبستاني في بيروت سنة 1870. وخلال سبعينات القرن التاسع عشر تزايدت أعداد الصحف العربية وتحسنت نوعيتها. والحقيقة إن إسهامها، سواء في الإحياء الثقافي أو في نشر الأفكار السياسية الجديدة، لايمكن تجاوزه.


وبينما كان رجال التنظيمات يتجهون نحو تشجيع ظهور الجماعات المختلفة في سورية وصهرها في مجتمع واحد، واظهروا لاممانعة في إحياء الثقافة العربية، كان السلطان عبد الحميد معارضا على نحو مباشر لكل ذلك. وقبل كل شيء، كان معارضا لتلك التغييرات المتعارضة مع توجهاته القوية في الحكم المركزي. فضلا عن ذلك، ربما بدا له إن من الخطير جدا السماح لسورية أن تنهج ذلك النهج، لأنها كانت مفتاحا لولاياته الآسيوية وبوابة إلى ألاماكن المقدسة في الحجاز. على هذا الأساس، فإن أهمية سورية من الناحيتين الستراتيجية والسياسية كانت أهمية استثنائية.

ولكن فوق كل تلك الاعتبارات، كان هذا السلطان يتمتع بوضع سياسي مختلف عن أسلافه في هذه المنطقة. فإذا كان رجال التنظيمات قد ساعدوا في تكوين الشخصية السورية، فربما كان ذلك بسبب بروز مصر؛ فهم لم ينسوا إن محمد علي، حينما شن هجومه على سورية في سنة 1831، كان له حلفاء متنفذون كثيرون فيها، وإنهم بالطبع لم يكونوا يريدوا لهذا أن يتكرر. ومع ذلك، تمكن عبد الحميد أن ينهج نهجا مغايرا، لأنه، بعد إقصاء إسماعيل باشا في سنة 1879 والاحتلال البريطاني لمصر فيما بعد، لم يعد هناك خطر من ذلك الموقع. والحقيقة إن سياسته في سورية وفي الولايات العربية الأخرى، منذ ذلك الحين، كانت خالية من أية تحفظات.

ومن دون تردد، عمل السلطان على تقويض ما حاول جيل عهد التنظيمات إنجازه، وقام بقلب اتجاه توحيد البلد؛ ففي سنة 1887 فصلت ناحية القدس عن ولاية سورية لتتحول إلى سنجق مستقل مرتبط مباشرة بإسطنبول. وبعد سنة، تشكلت ولاية بيروت الجديدة التي ضمت الأجزاء المتبقية من فلسطين وجنوبي لبنان والمناطق الساحلية شمالا حتى اللاذقية. وبالنتيجة، فقد فصلت ولاية سورية لتتحول إلى شقة من الأرض تمتد على حدود الصحراء من حماه شمالا حتى معان جنوبا.

ومع ذلك، بقي السلطان ينظر بارتياب لاحتمالات قيام التوحد الاجتماعي في سورية وإنبعاث الثقافة العربية بإرثها الغني الداعي إلى التفاخر بأمجاد العرب. لقد كان البستاني يدعو إلى ذلك بوصفه عاملاً موحداً وعنصراً مهماً في بناء الشخصية السورية العربية. ولكن السلطان، كما يبدو، كان يبغي اتباع وسيلة لمناوئة دعوة البستاني ورفاقه، ولإبطاء أو إعاقة حركة الإنبعاث الثقافي العربي. وربما كان هذا هو الهدف من ”داعي الرشاد“، ومن كثير من كتابات أبي الهدى الأخرى، وكذلك من كثير من تصرفات السلطان.


إن التشديد الجديد على الخلافة المعظمة للسلطان إجتذب العرب المسلمين طولا وعرضا. وكان لكثيرين منهم كان يمثل احياءً لهذه المؤسسة وإعادة لعظمة الإسلام. وكانت إسطنبول، لكثير من العرب، قد اكتسبت صورة بغداد الجديدة. السلطان نفسه حاول أن ينتحل صفة الحاكم المسلم الصالح المستقيم جدا. وكما رأينا في القسم الخامس، فقد اظهر حماسة دينية، ورعى الطرق الصوفية ووسّع الدعم لمشايخها، وساعد في ترميم كثير من أضرحة الأولياء الصوفيين، واتخذ صفة رمز للسلطة الإسلامية وسليل نهضتها. كل ذلك كان له هدف واحد: بما إنه لم يكن قادرا على إلغاء مرسوم 1856م، الذي كان الأساس لسياسة العثمنة، فقد اتخذ السلطان الخلافة والتصرفات المرتبطة بإنتحالها وسيلة لتقوية الولاء له شخصيا ولإرضاء نزعة الخضوع له والالتفاف حوله. وقد ساعدت سياسته هذه في إثارة حماسة دينية لاسيما بين عامة الشعب. ولكن تطبيق هذه السياسة على المجتمع في الولايات العربية على نحو عام، وفي سورية على نحو خاص، كان صعب المنال، لأنه كان يعني عمليا الإبقاء على التعصب الديني والإبقاء على الشقاق مابين المسلمين وغير المسلمين. بعبارة أخرى، فإن موعظة أبي الهدى وتصرفات عبد الحميد قد تسببت في جعل الدين وحده هو المبدأ الجامع في المجتمع، في حين كانت إصلاحات التنظيمات تسعى إلى إحلال ذلك المبدأ بالمبدأ الوطني.

ربما كانت هذه هي الوظيفة الرئيسة لأبي الهدى خلال العصر ألحميدي. لذلك، عندما كانت الحركة القومية العربية الناشئة ملموسة في السنوات الأخيرة من حكم عبد الحميد، التي اتخذ جانبها المسلمون وغير المسلمين، عاد أبو الهدى إلى نغمته القديمة، الباهتة فيما بعد؛ فنجده في ”الكليات الاحمدية“، وهي إحدى كتاباته الأخيرة، يلحّ على هذه الدعوة. ففي هذا الكتاب جمع الصّيادي كثيرا من أحاديث النبي (?) وخطبا كثيرة نسبها إلى احمد الرفاعي. الموضوع العام لهذه الدعوة يمكن أن يلخص بالدعوة: ”اربط نفسك بالجماعة الإسلامية وإمامها“. وطبقا لما قاله فإن ”أولئك الذين لم يتقيدوا بالاخوة الإسلامية المتينة فإنهم إنما كانوا يكسّرون وعد الله“. واستشهد بالآية: ”لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون الله“. ولكن أبو الهدى في سنواته الأخيرة كان قد تخطى ذروة أيامه، ولم يعد صوته يسمع إلا ّبصعوبة.

المراقبون الأجانب في إسطنبول، على الأقل في السنوات الاولى لحكم عبد الحميد، بدا كمالو إنهم لم يفهموا سياسة السلطان هذه، فادعوا إنه ”شخص متعصب... يحكم من القصر... يسعى إلى إذكاء روح التعصب عند المسلمين“. ولكنه لأمر مشكوك فيه فيما إذا كانت للسلطان نيات لتقوية التعصب الديني في البلاد العربية. كما إن كتابات أبي الهدى لا توفر دليلا لوجود مثل هذه النيّة. صحيح إنه كان يسعى من وراء تلك الكتابات إلى إثارة الحماسة الدينية، ولكن بالقدر المطلوب فقط لتقوية التكافل الطائفي مابين المسلمين السوريين على نحو خاص.

ولكن إذا لم يكن أبو الهدى قد اظهر نزعات بشأن التعصب الديني، فإن بعض العلماء من رفاقه فعلوا ذلك. كان احد هؤلاء، في سبيل المثال، الشيخ صالح المنير، مندوبه في دمشق، ومتسلم الراتب من السلطان. ويبدو إن الشيخ صالح كان مقتنعا على نحو صارم بتفوق الإسلام على المسيحيين. وقيل إنه في مناسبات كثيرة كان يذهب إلى الكنائس ويدخل في مجادلات مع المسيحيين بشأن كتبهم المقدسة. وفي إحدى المرات ذهب إلى الإسكندرية لمناقشة الكهنة البروتستانت وكانت الغلبة له. أما العالم الآخر من رفاق أبي الهدى فهو يوسف بن إسماعيل النبهاني، الكاتب الغزيرالإنتاج بالأمور الصوفية، ورئيس المحكمة المدنية في بيروت لسنوات عِدّة. وعلى ما يبدو كان النبهاني مستاءً من رؤية بعض العوائل المسلمة في بيروت، وربما في أماكن أخرى، وقد أرسلت أبناءها إلى المدارس المسيحية. وقد نشر كراسا يحذر فيه المسلمين من هذا العمل، وكتب بهذا الصدد: ”إن تلك المدارس ستقود أولاد المسلمين إلى الزلل، وستعيدهم من النور إلى الظلام“. وفي منشور آخر له وضع مقارنة بين المسيحية والإسلام في محاولةٍ منه لإثبات التفوّق المعنوي والمذهبي للأخير.


وثمة مظهرٌ آخر للسياسة الحميدية، ربما جاء لإكمال عمل أبي الهدى، تمثل بالسيطرة التي ابتدأها السلطان على نحوٍ لم يسبق له مثيل على المنشورات. والحقيقة إن هناك دليلا ً بأن الرقابة على الصحافة قد دخلت إلى سورية قبل بضع سنوات من اعتلاء السلطان عبد الحميد العرش، ولكنها في عهدة صارت اشد وطأة، لا فيما يخص الصحافة السياسية فحسب، بل إن المنشورات كلها كانت قد وُضعت تحت السيطرة الصارمة لوزارة الثقافة في إسطنبول؛ إذ إن أي كتاب قبل أن يُطبع كان يتطلب ترخيصا من تلك الوزارة، وإن مثل هذا الترخيص، إن لم يُحجب، فإنه يقتضي وقتا طويلا لاستحصاله. وغالبا ما كان يُطلبُ من المؤلفين إدخال تعديلات على مخطوطاتهم. ولم يكن الحصول على مثل هذا الترخيص مطلوبا من اجل الكتاب الحديث فحسب، بل حتى من اجل ذلك الكلاسيكي القديم مثل ”مقدمة ابن خلدون“ في سبيل المثال.


إن مثل هذه القيود لم تكن موجهة تماما لمنع الآراء السياسية المناوئة للنظام، أو تلك التي كانت ذات تعارض مادّي مع سياسات السلطان؛ فثمة دليل قوي على إن عبد الحميد كانت له أهداف أخرى؛ فعندما كتب احد الموظفين العرب العثمانيين، الذي ينتمي إلى إحدى العائلات الحلبية البارزة، كتابا عن العرب في العصر الجاهلي، أبقاه على شكل ”مخطوطة“، لأن السلطان، كما يقول كاتب سيرته، لم يكن يسمح بطبع مثل هذه الكتب " لأن مآثر العرب وفضائلهم باتت معروفة ولاسيما من جانب الحكومة الرسمية ". وحتى الصحف كانت قد أوقفت عن الصدور للأسباب نفسها.

يبدو إن أبا الهدى كان مدركا لسياسة السلطان هذه، لذا، فإن الخلفاء العرب مجسّدون في كتاباته بطريقة سلبية، فعندما طلبت عناصرُ محافظة من دمشق، في بداية ثمانينات القرن التاسع عشر، توسطه لدى السلطان لإيقاف فرقة مسرحية مشكلة حديثا في المدينة، عدّوها مُفسِدة للأخلاق، أشار أبو الهدى إلى سيده بأن الفرقة إنما كانت تقدّم أعمالا عن الخليفة العباسي الشهير هارون الرشيد. وقد نبّه أبو الهدى السلطان إلى الأثر العكسي لمثل هذه الأفكار على الناس في سورية. وبالنتيجة، أمر السلطان بإغلاق المسرحية. وفيما بعد هاجر مؤلفها إلى مصر.


والحقيقة، إننا عندما نتصفح احد معاجم السير مثل ”معجم سركيس“، في سبيل المثال، فلا يمكننا أن نخفق في ملاحظة إن كتبا قليلة جدا عن الأدب أو التاريخ العربي قد طُبعت في بيروت أو في مدن سورية أخرى خلال الحقبة الحميدية. وفي المقابل، فإن عددا كبيرا من الكتب الدينية الإسلامية، لاسيما كتب التصوف، قد طبعت خلال الحقبة نفسها.


يبدو إذن، إنه في الوقت الذي كان يُعتم فيه رسميا على الأعمال التاريخية والأدبية المتصلة بالثقافة العربية، كان هناك تدفق للمادة الصوفية. وكما رأينا، فإن أبا الهدى ورفاقه وحدهم كانوا ينشرون نحو عشرة كتب وكتيبات في السنة كمعدّل؛ وفيما يتعلق بكثير من الناس كانت هذه الكتب والكتيبات هي المادة المقروءة الوحيدة. ولنقل، على الأقل، إن تلك المنشورات كان لها اثرٌ في صرف إنتباه الجمهور بعيدا عن المادة المنشورة الأخرى، والمواضيع الأخرى. لا عجب إذن أن ما تبع إتباع هذه السياسة أن فضّل كثيرٌ من الكتاب السوريين الهجرة إلى مصر، وإن كثيرا من الصحف المطبوعة في بيروت أصبحت عديمة الجدوى أو أجبرت على الإغلاق. وبالنتيجة فإن مركز إحياء الثقافة العربية قد تحوّل إلى القاهرة. والحقيقة، كان هذا الأمر مختلفا عن عصر التنظيمات حينما كان السلطان يُكافيء الكتاب في سورية عن أعمالهم الأدبية الكبرى.


ربما تكون كل هذه الإشارات كافية لإظهار إن غرض السياسة الحميدية، إنما كان من اجل السيطرة على عملية إحياء الثقافة العربية في سورية ومحاولة لحرف مسارها. لقد كان السلطان مستاءً من هذه الحركة لأنها كانت ذات مضمون غير ديني كاد يُفضي إلى إقامة تجانس ثقافي والى تشجيع التضامن مابين الجماعات المختلفة في سورية، الأمر الذي كان يناقض سياسته تجاهها.


ويبدو إن هدف السلطان عبد الحميد كان تقويض تأثيرات إصلاحات التنظيمات الأخيرة في سورية. إن هذه التدابير التي اتخذها، لاسيما سياسته الإسلامية، وادعاءه بالخلافة العالمية، ومحاولته السيطرة على الإنبعاث الثقافي العربي، كان لها، فيما يتعلق الأمر بسورية، نتيجة مهمة جداً: إنها أعاقت تبلور الهوية المشتركة مابين السوريين، المستندة على الأرض واللغة والثقافة، التي كان أنصار الإحياء الثقافي يرغبون في تطبيقها. وبهذا الخصوص، فقد خدمهُ أبو الهدى على أحسن وجه في دعوته المتكررة من اجل التضامن الإسلامي وبنشاطه الصوفي في سورية وفي منشوراته المتحررة من كل قيد. والحقيقة، إننا لا نجانب الصواب إذا استنتجنا بأن السلطان عبد الحميد قد نجح، عن طريق إبقاء المجتمع السوري مقسّما على أسس مذهبية وعن طريق إعاقة التوحد الاجتماعي، في إخماد الحركة القومية الناشئة في سورية مدة جيل على الأقل.

 

انتهى الموضوع
يارب الموضوع يعجبكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق