الجمعة، 29 يوليو 2016

تاريخ ومجتمع 13 الطريق إلى الأقصى- القدس في قلب المسألة الشرقية

تاريخ ومجتمع 13 الطريق إلى الأقصى- القدس في قلب المسألة الشرقية


عندما بدأ يدب الضعف في الدولة العثمانية أخذت القوى الاستعمارية الأوروبية تتكالب عليها وعلى الأراضي التابعة لها في منطقة البلقان والشمال الإفريقي وبلاد الشام ومصر، ولما كانت مدينة القدس مدينة دينية ولها مكانتها في كافة المناطق، ولها رمزيتها بالنسبة للمسلمين والمسيحيين، فقد ركزت الدول الغربية كافة على فلسطين سياسياً ودينياً وآثارياً، وحظيت مدينة القدس بالحظ الأوفر من الاهتمام، فلعل هذا الاهتمام يجر إلى حروب صليبية جديدة تشنها القوى الغربية بوسائل عدة لتعيد أمجاد الحملات الصليبية الأولى على الشرق وفلسطين بوجه خاص.

بدأ هذا التغلغل منذ وقت مبكر في بداية القرن السابع عشر عندما استطاعت فرنسا أن توقع اتفاقية تجارية مع العثمانيين، وقد تم بموجبها إرسال أول قنصل فرنسي إلى القدس، كانت مهمته الدينية حماية حقوق رهبان طائفة الفرنسيسكان ومن يسمون بالحجاج الغربيين.

وقد أخذت الإدارة العثمانية تتدهور، مما أتاح الفرصة لتدخل القنصل الفرنسي في شؤون مدينة القدس، حاول الباشوات مقاومته فأخفقوا، وعندما رأى الأرثوذكس اهتمام الفرنسيين بشؤون الكاثوليك تحركوا وصار التنافس على مظاهر الاحتفالات يأخذ منحى سياسياً تتدخل فيه كل من روسيا الأرثوذكسية وكذلك بريطانيا والنمسا وغيرها من البلدان.

وبالعودة إلى الوثائق التاريخية نجد أن حملة نابليون بونابرت على فلسطين فتحت الأعين الغربية من جديد على فلسطين والقدس وخاصة الإنجليز، في عام 1801، وصل فلسطين الرحالة الإنجليزي إدوارد دانيال كلارك وقد زار أكثر معالمها الدينية وكتب عن مشاهداته الكثير من التقارير لحكومته مما دفع الإنجليز لتشكيل جمعية اكتشاف الأرض المقدسة عام 1804، وبدا أن هذه الحركة قد مهدت الطريق لمزيد من النفوذ والتغلغل في فلسطين.

والغريب في ذلك الوقت أن الولايات المتحدة شكلت عدة جمعيات بروتستانتية للذهاب إلى فلسطين، وكانت جميعها تعمل في اتجاه خدمة ما جاء في توراة اليهود المحرفة ليصلوا إلى مقولة إن اليهود أحق بهذه الأرض لأنها أرض توراتهم ودولتهم القديمة حسب زعمهم.

ومنذ عام 1849 ازداد رجال اللاهوت والرحالة الذين قدموا إلى القدس من أميركا وإنكلترا وألمانيا، والواقع أن الحروب التي حدثت في البلقان وخسارة الدولة العثمانية لمعظم المناطق التي كانت مسيطرة عليها ومشاكل لبنان منذ عام 1840- 1860 فتح الأعين الغربية أكثر فأكثر على فلسطين، وعن طريق استغلال هذه الظروف انتهك رجال اللاهوت الغربيون حرمة المواقع الأثرية في القدس وفلسطين وراحت الحفريات العبثية تخرب الآثار بدل المحافظة عليها ودراستها.



وكما قلنا كان هدف هذه الحملات الحفرية البرهنة على صحة خرافات العهد القديم وأساطيرها في القدس وحاول الفلسطينيون مراراً إيقاف الآثاريين الغربيين عند حدودهم .. وعلى سبيل المثال حاول سكان القدس إيقاف الآثاري دوسولسي عن الحفر في موقع عرف باسم مقبرة السلاطين في القدس، ولكن السلطات العثمانية آنذاك سمحت له بالحفر، وادعى أنه وجد قبر الملك اليهودي صدقيا، والمثير للدهشة أن اليهود في القدس اعترضوا على ما قام به هذا الباحث لأنه دنس حرمة الأضرحة.

في عام 1864 وصلت أكبر بعثة إنجليزية إلى فلسطين ومعها المهندسون وآلات الحفر، وراحوا يعيثون فساداً في آثار المدينة المقدسة، ثم تشكل صندوق اكتشاف فلسطين، وقد جرى احتفال بهذه المناسبة في القدس وحضره أسقف لندن ورئيس أساقفة نيويورك المدعو طومسون، ومما قاله هذا القس: (إن هذا البلد فلسطين عائد لكم ولي إنه لنا أساساً، فقد منحت فلسطين إلى بني إسرائيل بالعبارات التالية: هيا امش في الأرض طولاً وعرضاً لأنني سأعطيك إياها، ونحن عازمون على المشي عبر فلسطين بالطول والعرض لأن تلك الأرض منحت لنا).

وهذا الكلام قيل على لسانه عام 1865، مما يؤكد التوجه الأمريكي الاستعماري البروتستانتي ومساعدة يهود العالم على احتلال فلسطين.

وفي هذه الأثناء كانت العلاقات العثمانية الألمانية قد تطورت كثيراً، ودخل الألمان ميادين الكشف الأثري، وفي عام 1898 قدمإلى زيارة القدس الإمبراطور الروماني غليوم الثاني ودخل المدينة في موكب نصر حصاناً أبيض ولابساً أردية مقاتل صليبي وتحيط به حاشية كبيرة جداً وفي القدس نصب للإمبراطور وزوجته مخيم فخم جداً، وزار الوفد الألماني لمدة يومين جميع معالم المدينة بما في ذلك قبة الصخرة.

إن دخول غليوم الثاني القدس بهذا الشكل وبهذه الرموز يذكرنا بأواخر الحروب الصليبية عندما اتفق أحد سلاطين الأيوبيين مع ملك الفرنجة على تسليمه القدس والتنازل عنها مما أثار حفيظة العرب والمسلمين، ويبدو أن الغرب بشكل إجمالي ظل وسيظل يحمل في وجدانه وشعوره التوجه الصليبي وخاصة في ما يتعلق بالقدس وفلسطين.

وقد أغاظت زيارة الملك الألماني للقدس الإنجليز مما جعلهم يضغطون على الدولة العثمانية مما سهل لهم زيادة البعثات الأثرية والتواجد القنصلي السياسي في القدس وكان من ذلك وصول بعثة إنجليزية عام 1909 بقيادة مونتاغيو باركر، وقد قام باركر بعدة تجاوزات كان أخطرها دخوله سراً في ليلة 17 نيسان 1911 إلى قبة الصخرة حيث حطم هو وفريقه الحواجز ونزلوا إلى داخل الكهف الموجود تحت الصخرة وأخذوا ينقبون ويعملون لفتح سرداب رأسي لأنهم اعتقدوا بوجود كنز كبير هناك.

وقد كشف سر الحفر واحد من العاملين في الحرم القدسي، وانطلق يصرخ في ظلام الليل في المدينة ويستنفر الناس، فخاف باركر وصحبه ولاذوا بالفرار وغادر بعد ذلك إلى يافا.

وقد ساهم تدخل الدول الاستعمارية الكبرى في شؤون الدولة العثمانية أيام ضعفها وخاصة في القرن الثامن عشر بتسهيل التسرب اليهودي الغربي إلى القدس، ولم يعد الوجود اليهودي مقتصراً على بعض يهود إسبانيا وبعض الشرقيين.

والواقع أن أوضاع اليهود الشرقيين في القدس تدهورت مع تدهور الدولة العثمانية ومع ذلك امتلكوا أربعة معابد، ومع نهاية القرن الثامن عشر باتت أكثر البيوت في حي اليهود مهجورة، والمعابد متداعية، ويلحق ذلك التدهور كل فلسطين بمن فيها من مسلمين ومسيحيين وهؤلاء اليهود القلائل الذين تسربوا إلى القدس، وقد أثار تدخل الدول الكبرى في الشؤون الداخلية العثمانية المشاكل والنزاعات بين سكان القدس، وكانت العلاقات ما بين المسيحيين واليهود سيئة جداً.

وفي مطلع القرن التاسع عشر عاد اليهود الأشكناز إلى القدس وكانت العلاقات بينهم وبين اليهود الشرقيين سيئة ومتوترة دوماً، وقد عانت مدينة القدس من الأجواء المسمومة المتفجرة وقد استفاد من هذا كله اليهود حيث ازدادت أعدادهم كثيراً.

على أية حال فإن التدخل الغربي في شؤون الدولة العثمانية وما تبعه من تحركات مشبوهة للآثاريين دفع الإنجليز خاصة للتفكير القديم الحديث بالتغلغل في فلسطين تمهيداً لاحتلالها وتنفيذ مشاريعهم الاستعمارية فيها.

لقد اتسعت أطر الحفريات فشملت عدة مواقع من فلسطين وكذلك سيناء والنقب، وتطورت أحداث المنطقة فكانت الحرب العالمية الأولى وما عرف بالثورة العربية الكبرى ودخول الجنرال اللنبي إلى القدس الذي عد دخوله حملة صليبية جديدة أرخ لها أحد الكتاب الإنجليز.

ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى وضعت فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي، وتفرغ هذا الاستعمار لنجاح المشروع الصهيوني حسب وعد بلفور، واستمرت الحفريات الأثرية وحدث اكتشاف مخطوطات البحر الميت واكتشافات أخرى كثيرة.

لقد جيرت الدول الأوروبية الاستعمارية منذ بدأ الضعف يدب في أوصال الخلافة العثمانية لصالح مشروعين متفقين بالوسائل والأهداف، مشروع إعادة الحروب الصليبية ومشروع إقامة كيان صهيوني يهودي على أرض فلسطين، وقد لعب البروتستانت الدور الأهم في إنجاز المشروع الثاني وهو إقامة كيان صهيوني وطرد الشعب الفلسطيني من أرضه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق