الجمعة، 29 يوليو 2016

تاريخ ومجتمع 14 الطريق إلى الأقصى- القدس ونهاية الدولة العثمانية

تاريخ ومجتمع 14 الطريق إلى الأقصى- القدس ونهاية الدولة العثمانية



من المعروف لدى الدارسين والمؤرخين المتخصصين بالدولة العثمانية أن الإمبراطورية المسلمة تعرضت لحروب استعمارية متتالية من قبل بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية فسقطت الجزائر تحت نير الاستعمار الفرنسي عام 1830 وكذلك سقطت عدن تحت نير الاستعمار البريطاني عام 1839م.

وبدأ الضعف يدب في أوصال الدولة العثمانية بسبب الضغوطات الخارجية وقلة الموارد المالية، وما إن حل السلطان عبد الحميد الثاني خليفة للدولة حتى بدأت الدوائر الاستعمارية والصهيونية تنشط باتجاه إقناع الخليفة بالتنازل عن فلسطين مقابل 20 مليون جنيه لسد العجز في الميزانية العامة للدولة العثمانية.

وقد اشتهر في الأوساط أن السلطان عبد الحميد رفض العروض المغرية للتنازل عن فلسطين، إلا أن الأضواء لم تسلط بما فيه الكفاية على أواخر عصره وصراعه مع الاتحاديين الأتراك الذين كانوا يخططون في الخفاء ضد السلطان عبد الحميد لإقصائه عن الحكم وتنفيذ مآرب الطورانية التركية التعصبية.

دعا السلطان عبد الحميد إلى الجامعة الإسلامية في وجه دعاة القومية التركية التي طالبت الأرمن بتعديل مواقفهم بغية إقامة تحالف معهم للإطاحة بعبد الحميد الثاني.

وفي حين كان الاتحاديون يدافعون عن قومية متعصبة كان السلطان عبد الحميد يدافع عن الإسلام، والتخلف عن الركب الإسلامي يعد خروجاً عن الإسلام.

وهذا ما ينعكس فيما بعد على العلاقة السيئة بين السلطان عبد الحميد والحركة الصهيونية التي لاقت أصداءها ورضاها عند الاتحاديين.

وقد أكدت الوثائق التركية والعربية وكذلك الوثائق الصهيونية أن العثمانيين رفضوا فكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين، كما رفضوا الهجرة اليهودية إليها، وانطلاقاً من الوثائق العلنية فإن المفاوضات بين السلطان عبد الحميد وثيودور هيرتزل زعيم الحركة الصهيونية عام 1896 قد فشلت تماماً.

وقد نقل نيولنسكي وهو صديق للسلطان عبد الحميد وهيرتزل في نفس الوقت نص جواب السلطان عبد الحميد التالي:



(إذا كان هيرتزل صديقك بقدر ما أنت صديقي فانصحه أن لا يتابع أبداً هذا الأمر أن أبيع ولو قدماً واحدة من البلاد لأنها ليست لي بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمه وغذاها فيما بعد بدمه أيضاً، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منها، لقد حاربت كتيبتان من جيشنا في سورية وفلسطين وقتل رجالنا الواحد بعد الآخر لأن أحداً لم يقبل التسليم، وفضلوا أن يموتوا في ساحة القتال، الإمبراطورية التركية ليست لي وإنما لشعبي، لا أستطيع أبداً أن أعطي أحداً أي جزء منها).

وقد أصدر السلطان عبد الحميد قانوناً يمنع الإسرائيليين من الإقامة الدائمة في فلسطين سنة 1900م ويقول هذا القانون: "كنا قد شددنا على منع دخول الإسرائيليين إلى أرض فلسطين، الموظفون تراخوا في تطبيق الأمر وأساؤوا تأويله، والإسرائيليون يأتون بحجة الزيارة ويستوطنون، كما أشعرنا متصرف القدس أن مكوثهم لا يجوز بأي حال من الأحوال، إن مأموري الدولة مسؤولون بشدة وفوق العادة عن تنفيذ الأمر بدقة وحتى اليهود من أتباع الدولة العلية لا يجوز لهم الإقامة بصفة دائمة في فلسطين".

إن هذه الأوامر لا تمانع زيارة اليهود للأراضي المقدسة منفردين أو جماعات، ولكنها لا تسمح بإقامتهم الدائمة، ويجب أخذ تعهد من القنصليات التي جاؤوا عن طريقها وقد اتخذ هذا الأمر بقرار من مجلس شورى الدولة ومجلس الوزراء وصدرت فيه إرادة سنية من الخليفة، صدر في 5 تشرين أول 1316هـ تحت رقم 2409.

وعلى الرغم من ذلك فقد راح الاتحاديون الأتراك يعملون في الخفاء على تسهيل تسريب اليهود إلى فلسطين مقابل دعمهم لإسقاط عبد الحميد الثاني عن عرش الخلافة.

وتم للاتحاديين إسقاط عبد الحميد الثاني وجيء بخليفة ضعيف من بعده، وصارت اليد الطولى لحزب الاتحاد والترقي الذي يشار إلى عدد كبير من أعضائه على أنهم من أصول يهودية ينتمون إلى يهود الدونمة.

وقد طرح الاتحاديون شعار: كل شيء من أجل القومية الطورانية، وهذا يعني تخليهم عن الشعارات الإسلامية التي لا تغيب عنها فلسطين والقدس.

لقد كان شعار عبد الحميد: كل شيء من أجل الراية الإسلامية، ولهذا كان موقفه السابق من القضية الفلسطينية، موقف الحاكم المسلم الذي لن يسمح لنفسه بالتفريط بأي شبر من أرض فلسطين المباركة.

ويرى الدكتور محمود علي عامر أن السلطان عبد الحميد انفرد عن سلاطين بني عثمان بأنه كان يدعو إلى إحياء الدين.

وقد تجسد في أذهان المسلمين أن عبد الحميد رجل مسلم ورجل سلطنة تصدى بقوة إلى أعداء الدين من القوى الاستعمارية ورفض بشدة مطالب اليهود وأعداء الإنسانية جمعاء في السماح لهم بالتوطن في فلسطين العربية المسلمة على الرغم من الأموال التي عرضوها عليه وكان بأمس الحاجة لها، وقد بدا للمسلمين عامة والعرب خاصة أن عبد الحميد فضل إنقاذ فلسطين آنذاك من براثن الطغمة الصهيونية على إمبراطورية عرشه.

ومع نشوب الحرب العالمية الأولى كان الاتحاديون قد سيطروا على الدولة العثمانية بشكل كامل وأصبح السلاطين لعباً بأيديهم، وقد أجبر السلطان رشاد على دخول الحرب مع ألمانيا ضد الإنجليز والفرنسيين.

حاول الشريف حسين قائد الثورة العربية أن يدعم موقف السلاطين العثمانيين في وجه الاتحاديين، لكنه فشل، ومع حملة التتريك القاسية التي شنها كبار حزب الاتحاد والترقي لم يعد أمام العرب إلا الثورة على الأتراك.

وقد سبق أن قام جمال باشا بإعدام عدد كبير من رموز الدين والسياسة من العرب كالشيخ الزهراوي وعبد الغني العريس وغيرهما.

وقد كانت فلسطين آنذاك ضحية واضحة لتخلي الاتحاديين عن الدفاع عنها وتركها أمام جيوش الحلفاء من الإنجليز والفرنسيين الذين ما إن بدأوا باحتلالها حتى سارعت الأوساط الصهيونية إلى فتح باب الهجرة اليهودية على مصراعيه.

وحتى عندما أصدر بلفور وعده لليهود بإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين، لم يكن الاتحاديون ليحتجوا أو حتى يخرجوا أي تصريح يناقض التوجه الاستعماري البريطاني، صحيح أن الدولة العثمانية في أواخر أيامها كانت تعاني من فقدان شبه كامل لسيادتها على أراضيها بفعل الامتيازات الأجنبية، وهو الأمر الذي جعل السلطان عبد الحميد الثاني يستصرخ الملأ في مذكراته بقوله: "منحنا لقيصر ألمانيا حق حماية الكاثوليك التابعين للكنيسة الألمانية في فلسطين فبدأت فرنسا بالصراخ والعويل ولكن المشاريع الاستعمارية كانت أكبر مما يحتملها السلطان العثماني، فقد كانت بريطانيا تحاول جاهدة أن تجد لها مواقع أقدام في المنطقة من خلال تسويغها وعملها في التبشير البروتستانتي وحماية اليهود، وقد برز مشروعها الخاص بتسكين اليهود الأوروبيين في فلسطين وبتدويل القدس".

لقد انتهت الدولة العثمانية واقتسمت أوروبا أراضيها، ووجهت الدول الاستعمارية أكبر طعنة قاتلة للخلافة الإسلامية عندما زرعت في قلب الأمة الإسلامية الكيان الصهيوني الذي يهدد العقيدة الإسلامية ووحدة الوجود الإسلامي.

لقد ظلت القدس عصية على الطامعين طوال أربعة قرون من سلطة العثمانيين، ولكن الضعف سنة الكون، والضعيف يصبح محل طمع كل الطامعين ومحل مؤامرات الغرب الصليبي الذي أنهى الدولة العثمانية وفتت الأمة الإسلامية إلى دويلات لا حول لها ولا قوة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق