الجمعة، 29 يوليو 2016

فتوح أوروبا (2).. فتح بلجراد والبوسنة والهرسك

فتوح أوروبا (2).. فتح بلجراد والبوسنة والهرسك



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

1- فتح بلجراد عاصمة المجر:

عزم ملك المجر على فك أي تعهدات كانت قد أُعطيت من قِبل أسلافه للدولة العثمانية، فأرسل له السلطان "سليمان القانوني" -رحمه الله- سفيرًا يطلب منه دفع الجزية أو الحرب؛ فأمعن ملك المجر في العداء ونقض العهود، وتحدَّى السلطان؛ فأمر بإعدام السفير، مما أثار غضب السلطان "سليمان"؛ فأمر بتجهيز الجيوش، وجمع كل ما تتطلبه من الذخائر والمؤن، وسار هو بنفسه في مقدمة الجيش، وأرسل أحد مشاهير قواده وهو "أحمد باشا" لمحاصرة مدينة "شابتس" القريبة من بلجراد -تقع إلى الشمال من بلجراد وتسمى اليوم "سابو تيكا"-، ففتحها يوم 2 شعبان سنة 927 هـ الموافق 8 يوليو سنة 1521 م، ووصل إليها السلطان في اليوم التالي.
ثم قاد الجيوش التي كانت تقوم على حصار هذه المدينة لمساعدة وزيره "بير محمد باشا" الذي كان يحاصر مدينة "بلجراد" ويضيق الخناق عليها، ودافع المجريُّون عن عاصمتهم دفاعًا شديدًا، غير أن جند المسلمين تمكَّنوا من فتحها في الخامس والعشرين من رمضان سنة 927 هـ الموافق 29 أغسطس سنة 1521م، وأخلى الجنود المجريين قلعتها، ودخلها السلطان، وصلَّى الجمعة في إحدى كنائسها بعد تحويلها إلى مسجد، وصارت هذه المدينة -التي كانت أمنع حصن للمجريين ضد تقدم القوات العثمانية- أكبر مساعد لها على فتح ما وراء "الدانوب" من الأقاليم والبلدان.
وأعلن السلطان هذا الانتصار بالكتابة إلى جميع الولاة، وإلى ملوك أوروبا، ثم عاد إلى "إسلام بول" -هكذا سماها محمد الفاتح، أي: مدينة الإسلام بالتركية، وهي القسطنطينية والتي تسمى الآن "إستنابول"- مكللاً بالنصر والظفر على الأعداء، وأرسل إليه قيصر الروس يهنئه بالفوز والظفر، وكذا فعل رئيس جمهوريتي: البندقية وراجوزه -وهي من النمسا الآن-.
2- فتح البوسنة والهرسك سنة 791 هـ، ومعركة "قوص أوه" أو "قوصره":
كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها وازدهارها حينما اكتسحت أوروبا الشرقية، فتهاوت مدنها ودولها تحت ضربات الجيش العثماني المسلم، ووصلت طلائع هذا الجيش إلى مدينة "فيينا" لتحاصرها فترة من الزمن، ويتسابق ملوك أوروبا بإعلان الولاء والانقياد للسلاطين العثمانيين، الذين كان همهم الأول وشغلهم الشاغل الجهاد في سبيل الله، ونشر كلمة التوحيد في كل مكان.
ولنتوقف قليلاً في عهد السلطان "مراد الأول بن السلطان أورخان الغازي"، فقد كان من السلاطين العظام الذين جاهدوا في سبيل الله ففتحوا المناطق الواسعة في أوروبا.
وُلد هذا السلطان سنة ست وعشرين وسبعمائة للهجرة، ونشأ على كريم الأخلاق، ولما شبَّ اشترك مع والده في جهاد اليونان، فأظهر بسالة لا تُوصف وإقدامًا لفت الأنظار، وبعد وفاة والده تولَّى الحكم سنة إحدى وستين وسبعمائة هجرية؛ فقضى كل سِني حكمه في جهاد مستمر.
كانت أول أعماله الجهادية فتح مدينة "أدرنة"، فجعلها عاصمة لدولته، وظلت كذلك حتى فـُتحت القسطنطينية، ثم ساق جيشه هو نحو البلقان، فتبوؤوا مدنها، وافتتحوا حصونها، وأبرم معاهدة مع ملك اليونان، بَيْدَ أن هذه المعاهدة لم تستمر طويلاً؛ حيث نقضها اليونان، واستطاع السلطان "مراد الأول" أن يستولي على جزء كبير من أوروبا الشرقية، وأن يحيط بالقسطنطينية من جميع الجهات.
وهنا اضطرب ملوك أوروبا النصارى، وارتعدت فرائصهم، وأدركوا عظيم الخطر الذي تشكـِّله هذه الدولة المسلمة الفتيَّة، فطلبوا من البابا "أوربانوس الخامس" أن يأمر جميع الدول النصرانية أن تتحد للوقوف في وجه المسلمين، وإخراجهم من أوروبا قبل أن يجتازوا حدود البلقان، وحينئذٍ لا يستطيع أحد الوقوف في وجوههم، فيكتسحوا أوروبا كلها.
ولبَّى البابا استغاثتهم، وكتب لجميع ملوك أوروبا النصارى يأمرهم بالتأهب لمحاربة المسلمين، وأن يشنوا حربًا دينية للحفاظ على النصرانية في وجه الإسلام، ولم ينتظر الملك "أوروك الخامس" ملك الصرب وصول الإمدادات من أوروبا؛ بل استعان بالدول القريبة منه، وكوَّن جيشًا جرارًا من اليونان والصرب والمجر والرومان، وسار بهم إلى عاصمة العثمانيين "أدرنة"، فحاصرها، وكان السلطان "مراد" خارجها، فعاد مسرعًا بجيشه، وهاجم النصارى بغتة، حيث فوجئوا بالتهليل والتكبير وسيوف المسلمين تعلوهم؛ فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى ولوا الأدبار تاركين الثرى مخضبًا بدمائهم، وهكذا فشلت محاولة الصرب هذه ضد المسلمين، وكان من نتيجة هذه المعركة أن تسابق حكام البلقان لإعلان الولاء للمسلمين ودفع الجزية لهم.
وفي سنة إحدى وثمانين وسبعمائة تحالف ملك الصرب الجديد "لازارجر بلينانوفتش" مع ملك البلغار على مهاجمة المسلمين، لكنهما بعد عدة مناوشات تحقـَّقا من عجزهما عن هزيمة العساكر الإسلامية، فأبرما صلحًا مع السلطان "مراد"، على أن يدفعا له خراجًا سنويًّا.
ولم يستمر هذا الصلح طويلاً؛ فقد نقضه النصارى، وبدأوا يعدون العدة لمحاربة المسلمين، إلا أن العثمانيين لم يُمهلوهم؛ فاجتاحت جيوشهم بلاد البلغار، وهزمت ملكها، واحتلت مدنها، وانتهى الأمر بأسر ملك البلغار.
ولما علم ملك الصرب "لازار" بذلك بدأ يستعد لمواجهة المسلمين، فألف جيشًا من الصرب والبوسنة والهرسك والألبان والأفلاق والبُغدان، وتعاهد الجميع على محاربة المسلمين والاستيلاء على الدولة العثمانية، وبلغ الخبر مسامع السلطان "مراد"، فألف مجلسًا للشورى والنظر في الأمر، لكن ولده "بايزيد" هتف قائلاً في المجلس: "الحرب الحرب.. والقتال القتال"، فأبطل كل مشورة، ودقت طبول الحرب، وسار الجيش الإسلامي إلى الأعداء، فالتقاهم في سهل "قوص أوه" أو "قوصره" سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ونشب القتال بين الجانبين، ووثب المسلمون على النصارى، والتحموا معهم في القتال التحامًا لم يعُد يُرَى معه إلا جماجم طائرة، وفرسان غائرة، ودوي سلاح يدك الجبال الشامخة، وبقيت الحرب بينهما سجالاً مدة من الزمن؛ دافع الصليبيون الصرب خلالها دفاعًا مستميتـًا، وتناثرت الرؤوس، وأزهقت النفوس.
وفي أثناء المعركة انحاز صهر ملك الصرب بفرقته إلى المسلمين، ودارت الدائرة على الصربيين، وجرح ملكهم "لازار"، ثم وقع أسيرًا في يد المسلمين، وانتصر المسلمون على الصربيين، وكانت من المعارك الحاسمة في تاريخ أوروبا الشرقية، وظل ذكرها شهيرًا في أوروبا بأسرها، وزال استقلال الصرب، وخضعت كل بلادها للمسلمين، كما فقدت البلغار استقلالها من قبل.
وبعد المعركة أخذ السلطان "مراد" يتمشَّى بين الجثث، وينظر إليها بعين الاندهاش، إذ قام من بينها جندي صربي اسمه: "ميلوك كوبلوفتش"؛ فطعن السلطان بخنجر طعنة قاضية، وسقط -رحمه الله- ليسلم الروح بعد قليل.
وهكذا شهد سهل كوسوفا معركة "قوص أوه" أو "قوصره" الحاسمة بين المسلمين والصرب، وانتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا، وأخذ الإسلام ينتشر في تلك البقاع حتى تحولت مناطق كاملة إلى الإسلام كما هو الحال في البوسنة والهرسك، وكوسفو، وغيرهما.
وكما يشهد هذا انتصار المسلمين؛ فقد شهد أيضًا غدر الصرب الذي ذهب ضحيته سلطان المسلمين "مراد"، فمات أوائل شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة من الهجرة -رحمه الله-، وسجل التاريخ منذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا أن الصرب لا يلتزمون بعهد ولا ميثاق، ولا يعرفون في تعاملهم مع المسلمين إلا لغة القوة والبطش وسفك الدماء.
وكما غدر الصرب وأعوانهم بقائد المسلمين في تلك المعركة غدروا بالمسلمين جميعًا في البوسنة والهرسك، فقتلوا وأسروا واغتصبوا، لا يردعهم خلق ولا دين، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، والعجب كل العجب أن وقف المسلمون -إلا من رحم الله- موقف المتفرج على هذا كله.
نسأل الله -تعالى- أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرجع إلى المسلمين أمجادهم، وأن تعود هذه البلاد إسلامية كما كانت.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
للاستزادة:
"ري الظمآن" د/ سيد العفاني.
"الدولة العثمانية" د/ علي الصلابي.
"موسوعة التاريخ" محمود شاكر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق