الأربعاء، 31 أغسطس 2016

البيئة العربية التي بُعِث فيها الرسول وجاء فيها الإسلام[1]


البيئة العربية التي بُعِث فيها الرسول وجاء فيها الإسلام[1]

للأستاذ محب الدين الخطيب

بلدة لا كالبلاد، لجيل لا كالأجيال، من أمة لا كالأمم..

بلدة اختارها الله – في الدهر الأول – لأول بيت قام في الأرض لتوحيد الله والعبادة الخالصة والنسك السليم: «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقامُ إبراهيم، ومن دخله كان آمناً، ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن اللهَ غني عن العالمين» آل عمران: 96-97.



قال الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله: كان الرجل قبل الإسلام يقتِل، فيضع في عنقه صوفة ويدخل أرض الحرم، فيلقاه ابن المقتول فلا يهيّجه حتى يخرج من حدود الحرم.

وقد وصف الله في سورة العنكبوت (الآية 67) هذه الميزة لبيت الله الحرام، ومنّ بها على أهله فقال: «أوَلَم يروا أنّا جعلناه حرماً آمناً ويُتَخطَّف الناسُ من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون». وفي سورة القصص (57-59) – وهي مكية – نعى الله على الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف وأمثاله من رجالات قريش وشبابهم أنهم تخوفوا من إقامة الحق بالدخول في الإسلام يوم كانت مكة هي بيئة الإسلام الأولى ومشرق دعوته: «وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا، أولم نمكّن لهم حرماً آمنا يُجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون. وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين. وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون».

ومما خاطب الله به قريشاً – فيما أنزله من القرآن بمكة – ومنّ عليهم بهذه الميزة الكبرى لبلدتهم دون بلاد الأرض كلها قوله جل ثناؤه: «فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف».

إن حرم مكة الآمن لا ينحصر في حرم الكعبة، ولا يقتصر على البلدة كلها، بل يعمّ أرض الحرم إلى مسافات بعيدة أقيمت لها أعلام في كل ناحية من نواحيها، فما كان خارج هذه الأعلام يسمى «الحلّ»، وما هو في داخل نطاقها يسمى «الحرم»، وفي الحرم تأمن الطير أيضاً – كما يأمن الإنسان – فلا تنفر عن أوكارها، ويأمن فيه حتى الوحش فلا يحل اصطياده. بل من جملة تحريمها تحريم قطع شجرها وقلع حشيشها، وقد خطب رسول الإنسانية الأعظم صلوات الله عليه يوم فتحَ اللهُ عليه مكة، فقام على باب الكعبة يقول لقريش ومَن وراءها من جماهير الناس، ولكتائب الفتح من المهاجرين والأنصار:

«إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلا في ساعة من نهار. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه»، فقال عمه العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر – وهو نبات طيب الرائحة ينتفعون به - فقال صلى الله عيه وسلم: «إلا الإذخر».

وقد حيل بين من يلجأ إلى الحرم من المجرمين وبين حقوق الله والناس بما رواه سعيد من جبير عن عبد الله بن عباس أن القاتل إذا عاذ ببيت الله في مكة أعاذه البيت، ولكن ليس على أحد من ساكني الحرم أن يؤويه، أو يطعمه ويسقيه، حتى يضطر إلى الخروج من حدود الحرم، فإذا خرج أخِذ بذنبه.

ومن أعجب ما امتازت به مكة عن بلاد الله جميعاً بين زمن مولد حامل أكمل رسالات الله وزمن هجرته، أنها بلدة لم يشعر أهلها بحاجتهم إلى حكومة، ولم تمس حاجتهم إلى إقامة شرطة تحمي أهل العافية فيهم من أهل البغي والشر، لأنهم قلما عرفوا فيهم مواطناً من أهل مكة تنزع نفسه إلى البغي والشر، وأكثر ما كان يقع فيهم الباطل أن يمطل المدين دائنه في وفاء ما في ذمته، فكان يستعين عليه بأهل العافية فيحصل منه على حقه بلا حاجة إلى قضية أو محكمة. ولأجل هذا وأمثاله انعقد في بيت وجيه من وجهاء مكة وشريف من أشرافها وهو عبد الله بن جُدعان التيمي – من أسرة أبي بكر الصديق – حلْفٌ اشترك فيه طائفة من أهل الفتوّة والمروءة من قريش، وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها – أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس – إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه، حتى تردّ عليه مظلمته. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يومئذ فتى. روى طلحة الندى وهو طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري قاضي مكة في القرن الأول للإسلام أن رسول الله صلى الله قال: «لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبتُ».

إن الناس هم الناس، وفيهم الطيب والوسط والخبيث، تشترك في ذلك الأمم كلها، غير أنها تتفاضل بنسبة أهل هذه الأصناف الثلاثة بعضهم إلى بعض: فمن الأمم من تطغى نسبة الخبيث من أهلها على من فيها من الطيبين والعنصر الوسط، فهي من شر الأمم. ومنها من يكثر فيها العنصر الطيب وتكون له الكلمة النافذة والتوجيه المطاع في المجتمع فهي من أكرم الأمم معدنا. ومنها من تعظم فيها نسبة الطبقة الوسطى فيعم فيها الخير ويستتب الاستقرار.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما قرره من حقائق: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارُهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا».

وقد علق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الحديث في كتابه منهاج السنة (2/260-261) بقوله:

«فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب ومعدن فضة كان معدن الذهب خيراً، لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين منه. فالعرب في الأجناس – وقريش فيها، ثم هاشم في قريش – مظنة أن يكون فيهم الخير أعظم مما يوجد في غيرهم. ولهذا كان في بني هاشم النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يماثله أحد في قريش، فضلاً عن وجوده في سائر العرب وغير العرب. وكان في قريش الخلفاء الراشدون وسائر العشرة وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب. وكان في العرب من السابقين الأولين من لا يوجد له نظير في سائر الأجناس، فلا بد أن يوجد في الجنس الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول. وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل، كما أن الأنبياء الذين ليسوا من العرب أفضل من العرب الذي ليسوا بأنبياء، والمؤمنون المتقون من غير قريش أفضل من القرشيين الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى. وكذلك المؤمنون المتقون من قريش وغيرهم أفضل ممن ليس مثلهم في الإيمان والتقوى من بني هاشم. فهذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب، دون مَن ألغى فضيلة الأنساب مطلقاً، ودون من ظن أن الله تعالى يفضّل الإنسان بنسبه على من أعظم إيماناً وتقوى منه، فكلا القولين خطأ، وهما متقابلان، بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة، وفضيلة لأجل المظنة والسبب. والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيله تعيين وتحقيق وغاية. فالأول يفضل به لأنه سبب وعلامة، ولأن الجملة منه أفضل من جملة تساويها في العدد. والثاني يفضل به لأنه الحقيقة والغاية، ولأن من كان أتقى لله كان أكرم عند الله، والثواب من الله يقع على هذا، لأن الحقيقة قد وجدت فلم يعلق الحكم بالمظنة، ولأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فلا يستدل بالأسباب والعلامات».

بهذا فسر شيخ الإسلام ابن تيمية حديث معادن الناس، وكان ينظر – وهو يعالج هذا الموضوع الدقيق – إلى آية الحجرات (13): «إنّ أكرمَكم عند الله أتقاكم»، كما كان ينظر إلى حديث عبد الله بن عمر قال: إنا لقعود بفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت به امرأة، فقال بعض القوم: هذه ابنة محمد صلى الله عليه وسلم (والحقيقة أنها كانت درة بنت أبي لهب، وكانت زوجة للحارث بن نوفل، ثم تزوجها دحية الكلبي)، فقال رجل: إن مثل محمد صلى الله عليه وسلم في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن. فانطلقت المرأة فأخبرت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فجاء عليه السلام يعرَف في وجهه الغضب، ثم قال على القوم فقال: «ما بال أقوال تبلغني عن أقوام! إن الله عز وجل خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم. فأنا خيار من خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضني أبغضهم».[2]

قال الحافظ العراقي: وهو حديث حسن، أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، ورواه من غير هذا الإسناد أيضاً؛ وروى نحوه من حديث أبي هريرة، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط وقال: حديث صحيح.

فالتفاضل بالتقوى هو الأصل، وهو الحقيقة والغاية. وكرم المعدن فضيلة جملة، ومظنة أن يوجد فيه الخير أكثر مما يوجد في غيره.

إن البيئة التي ولِد فيها خاتم رسل الله، وهي قريش سكان شعاب مكة وبطاحها، قد تفاوت رجالها ونساؤها في سرعة الاستجابة لدعوة الإسلام. فهذا عمر بن الخطاب كان من مشركي قريش يوم كان أبو بكر أول رجل من قريش استجاب لهذه الدعوة، وأخذ يحببها بحكمته ورجاحة عقله ودماثة خلفه إلى طائفة من أعز شباب قريش في بطحاء مكة، من أمثال عثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من مسلمي الرعيل الأول. فهل أزرى بعمر أن تأخر إسلامه عن إسلام هؤلاء وعن إسلام أخته وصهره؟

وهذا خالد بن الوليد كان – في وقعة أحد – قائد خيل المشركين، وكان المفروض فيه لما عاد من غزوة أحد إلى مكة أن يكون ثملاً بخمرة ما اتفق له من فوز، فيكون ذلك أبعد له عن الاستجابة لنداء الحق، لكننا رأيناه في أوائل السنة الثامنة للهجرة يزهد في عظيم الجاه الذي كان لأبيه وبيته في أم القرى، ويخرج متوجهاً إلى المدينة ليلتحق بدعوة الحق، فيلتقي في الطريق بين مكة والمدينة بعمرو بن العاص السهمي وعثمان بن طلحة أحد بني عبد الدار سدنة الكعبة. قال عمرو:

فقلت لخالد: إلى أين يا أبا سليمان؟

قال خالد: والله لقد استقام المنسم، وإن الرجل لنبيّ. إني أذهب واللهِ لأسلم، فحتى متى؟

قال عمرو: وأنا والله ما جئت إلا لأسلم.

وقال صاحب مفتاح بيت الله الحرام مثل مقالتهما.

فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إليهم من بعيد قال لأصحابه:

«لقد رمتكم مكة بأفلاذ كبدها».

قال عمرو: فتقدم خالد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، أنا أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي.

فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمرو، بايع، فإن الإسلام يجبّ ما قبله، وإن الهجرة تجبّ ما قبلها.

ونقل الحافظ ابن حجر في الإصابة عن الزبير بن بكار أن رجلاً سأل عمرو بن العاص: ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت أنت في عقلك؟

فأجابه: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدّم، وكانوا ممن توازن حلومهم الجبال. فلما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم فأنكروا، فقلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا، فإذا حق بيّن، فوقع في قلبي الإسلام، فعرفت قريش ذلك من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه، فبعثوا إلي فتى منهم فناظرني في ذلك، فقلت:

-أنشدك الله ربك ورب آبائك من قبلك ومن بعدك: أنحن أهدى أم فارس والروم؟

قال: بل نحن أهدى (أي أعقل وأعظم بصيرة وإدراكاً لحقائق الأمور).

قلت: فنحن أوسع عيشاً أم هم؟

قال: هم.

قلت: فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن إلا هذه الدنيا وهم أعظم منا فيها؟ وقد وقع في نفسي أن الذي يقوله محمد من أن البعث بعد الموت – ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته – حق، ولا خير في التمادي في الباطل.

هذا نموذج للذين أبطأوا في إسلامهم، وإن الذي حمله أمثالُ عمرو وخالد من أعباء الإسلام قد عجز التاريخ عن أن يحيط بحسناته، وإن لهما ولأمثالهما من ثواب الذين دخلوا في الإسلام بسببهما، ومن نشأ على الإسلام من سلالتهم وذرياتهم، ما لا تحصيه ملائكة الرحمة.

ومما يدلّ على كرم معدن البيئة المعاصرة لظهور الإسلام في مكة أن الذين ماتوا على غير الإسلام من قريش كانوا قلة قليلة جداً، يعرفهم علماء الأنساب بأسمائهم، فإن كل من ولدتهم قريش من معاصري النبي صلى الله عليه وسلم مدونة أسماؤهم في كتاب نسب قريش لأبي عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري، وكلهم ولله الحمد قد تشرفوا بالإسلام قبل أن ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ما خلا ذلك النذر القليل جداً ممن غلبت عليهم الشقوة، وهم بضآلة عددهم لا يستحقون الذكر، ولا يعرف التاريخ نبياً من أنبياء الله ولا صاحب دعوة إلى الحق والخير استجاب له من أمته رجال بستحقون أن يعدوا من أولياء الله الصادقين المجاهدين كما استجابت قريش والأنصار وسائر العرب للدعوة المحمدية، وكان لكرم معدن هذه الأمة الأثر العظيم في هذا الامتياز الذي كان لبيئة الإسلام الأولى التي رأيت أن أتحدث عنها في هذه الكلمة، وأن أعالج عرض الحقائق عن موقفها عن الإسلام فيما بين بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته إلى أن اختاره الله إليه.

ترى هل كانت دعوة الإسلام تحفَظ بمبادئها وكتابها وسنتها كما حفظت حتى الآن بلا إفراط ولا تفريط، وهل كانت تنتشر في أقطار الأرض بالقوة والسرعة والحكمة والرحمة التي انتشرت بها في القرن الأول الهجري، لو أن بيئة الإسلام الأولى لم تكن هي البيئة التي اختارها الله لها؟

أنا أعتقد أنه كما اختار اللهُ رسوله محمداً صلى الله صلى الله عليه وسلم لأكملِ رسالاته، اختار لها كذلك اللغة التي أنزل بها كتابه، والأمةَ التي حملت هذه الرسالة إلى أمم الأرض، والأرض التي تبلج هذا النور من آفاقها. والذي أشرتُ إليه في هذه المقالة لمحات خاطفة تستحق من أهل العلم دراسات أخرى أعمق وأوسع وأشمل.

[1] مجلة حضارة الإسلام، المجلد (1)، العددان 1-2 (ص53-61)، تموز 1960
[2] قال الذهبي –رحمه الله- عن هذا الحديث أنه منكر كما في كتابه (العلو: ص22) [الفسطاط].

الهجرة في نظام الإسلام[1]


الهجرة في نظام الإسلام[1]

للأستاذ محب الدين الخطيب
صاحب مجلتي الزهراء والفتح
ورئيس تحرير مجلة الأزهر سابقاً
إسلام وجاهلية

من المسلمين من يحسب أن عهد الجاهلية انقضى بظهور الإسلام، وغلبته على ما كان يسمى "جاهلية" في جزيرة العرب. ونحن نرى أن الجاهلية ما برحت قائمة في الأرض، إلى أن يعم نظام الإسلام جميع أرجائها، وسيكون ذلك –إن شاء الله- يوم يرجع المسلمون بأنفسهم إلى إسلامهم، فتبصره الأمم مترجماً لا في الكتب والمجلات والصحف، بل في سيرة المسلمين وتعاملهم بنظام الإسلام فيما بينهم وبين أنفسهم، وفيما بينهم وبين غيرهم.

إن الإنسانية ما برحب تنقلب – من العصر المحمدي إلى يوم الناس هذا – بين نظامين:

أحدهما نظام الفطرة الذي ينبض بحيوية الحق والخير، وهو الذي قامت عليه مبادئ الإسلام وسننه واتجاهاته في الاقتناعات العقلية والنفسية، وفي العبادات القلبية والبدنية والمالية، وفي الأخلاق الفردية والملية، وفي الروابط الأدبية والاجتماعية، وفي تعامل الناس وتعاونهم في بيوتهم، وأنديتهم، وأسواقهم في في محاكمهم، وأحكامهم ثم في مجالات سلمهم وحربهم.

إن مجموع ذلك يسمى إسلاماً، وبمقدار ما يتقيد به المجتمع الإسلامي في معاملاته مع أهله ومع غيرهم يرتفع مستوى هذا المجتمع في إنسانيته أو ينخفض.

وهو بمجموعه كلّ لا يتجزأ، ولا يستغنى ببعضه عن سائره: فطرة الله التي فطر الناس عليها. وعليه مدار نصوص الإسلام الأصليه في كتاب الله، والصحيح من السنة المحمدية، وإجماع أهل الإجماع من أئمة المسلمين وأعلامهم وعلمائهم.

هذا أحد النظامين اللذين ما برحت الإنسانية تتقلب بينهم منذ العصر المحمدي.

ويقابله كل ما باينه أو عارضه من الأنظمة الأخرى، على اختلاف مصادرها وألوانها، وتنوع أزمنتها وبيئاتها. إنها –في نظر الإسلام- أنظمة جاهلية، سبقت الإسلام في زمن وجودها، أو ظهرت بعده للوجود. والمسلمون لا ينبغي لهم أن يعتاضوا بشيء منها عن شيء ن عناصر النظام الإسلامي، لأن إسلامهم كامل في نفسه، ولهم به غنى عن كل ما يباينه ويعارضه، وفي حجة الوداع أعلن حامل آخر رسالات الله آخر ما نزل من وحي إله السماء إلى سكان هذا الكوكب الأرضي (اليومَ أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) [المائدة: 3]. قال ابن عباس: أخبر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً.[2]

معنى الهجرة



والهجرة في أصل اللغة وجذورها: المجافاة والترك.

مجافاة الجاهلية وبيئاتها وأنظمتها وعناصرها، وترك ما خالف فطرة الإسلام وباينها من سنن وأخلاق واقتناعات، ومبادئ وأحكام واتجاهات. وقد عبّر المسلمون عن ذلك بحادث "الهجرة" في صدر الإسلام، إلى أن كانت وقعة بدر، وفتح مكة. ثم صاروا يعبرون عنه بأساليب "التقوى" وصنوف "التوبة".

كان الغرض من "الهجرة" في تاريخ الإسلام الأول التحرر من سلطان الجاهلية في بيئاتها الوطيدة حيث يغمط نظام الإسلام، ولا يمكّن له من الظهور. فرسمت سياسة الإسلام لأهله أن يتخذوا لنظامهم معقلاً يتحولون إليه، ويتكتلون فيه، لتتكون تحت سمائه الرحيمة القوة الأولى التي تقوم لله بالحق، وتعتزم الدفاع عنه، والاستماتة في سبيل حياته، ثم تعمل جاهدة لعرضه وإبرازه بصورته المشرقة الجميلة التي عرفوها، وتذوقوا حلاوتها، واطمأنت قلوبهم إلى أنها هي المثل الأعلى للإنسانية النبيلة التي كانت وما برحت تنشدها الصفوة المختارة من أمم الأرض في كل زمان ومكان.

أول مراحل "الهجرة"

والمرحلة الأولى في الهجرة الإسلامية "النية"، وهي ما يقصده الإنسان في ضميره وأعماق نفسه إذا أراد أن يتكلم، وإذا أقدم على أي عمل، وإذا مارس تصرفاته في حياته.

يقول علقمة بن وقاص الليثي المدني وكان من ثقات التابعين: سمعت عمر بن الخطاب رضوان الله عليه يقول على المنبر: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". هكذا رواه سفيان بن عيينة بسنده إلى علقمة بن وقاص. ورواه قرينه الإمام مالك بن أنس بذلك السند إلى علقمة: "الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

لما أراد أو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري – في نهايات الأجيال الثلاثة الأولى التي تعتبر خير أجيال التاريخ الإسلامي- أن يضع بين أيدي الموفقين للحق والخير من أفاضل الأجيال الإسلامية القادمة بعده، والمتباعدة –يوماً فيوماً- عن ينابيع الإسلام الأولى، أصحَّ النصوص المحمدية، وأغلى تراث الإسلام بعد القرآن، اختارَ أن يكون "حديث النية والهجرة" هذا الذي سمعه علقمة بن وقاص الليثي من فم أمير المؤمنين الفاروق الأعظم، وهو على أعواد منبر رسول الله صلوات الله عليه، أول هذه النصوص الثمينة من جامعه الصحيح، لأن الأحاديث التي انطوت عليها دفَّتا كتابه وعددها 7563 حديثاً، تدور كلها في فلك "النية" والمسلم نفسه أول ما تعتبر قيمته باعتبار النية. فالذي يصدر عن المسلم من الأعمال الفردية والاجتماعية، والتصرفات البدنية واللسانية والمالية، والتصورات العقلية والقلبية يكون حسناً ويثاب عليه بمقدار ما تكون نيته فيه حسنة وصادقة وخالصة لوجه الله الكريم. وقد يكون العمل أو القول أو التصرف حسناً في نفسه، وصادقاً في حقيقته، غير أن النية فيه تكون مشوبة بشيء من الأغراض الخسيسة، فيعتبر في موازين الأعمال عند الله سيئاً، تبعاً للنية، ولا يشفع لصاحبه كون العمل أو القول أو التصرف حسناً في ذاته وصادقاً. وقد يكون صاحب العمل أو القول أو التصرف في ظروف قاهرة تضطره إلى غير ما يراه حسناً، فهذه الضرورة –على قدرها- تخفف من عواقب ذلك عند الله، بمقدار ما عقد المسلم نيته عليه من حق وخير لم تمكنه الظروف من استيفائها. فالأعمال –في الإسلام- بالنية، ولكل امرئ ما نوى. وأصلحُ الأعمال وأعلاها منزلة عندالله ما كان في نفسه صالحاً، والنية فيه خالصة لوجه الله لا تشوبها شائبة من رياء أو غرض لا يشرّف صاحبه.

الهجرة قبل فتح مكة

(واذكروا إذ أنتم مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناسُ فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) [الأنفال: 26].

ولم يكونوا مستضعفين في وطنهم لأنهم لم يكونوامن أبناء بيوته النبيلة، فهم من قريش كغيرهم من وجوه قريش وساداتها، وإنما استضعفوا لأنهم قاموا برسالة سماها القرآن "دين الحق"، وهي تعارض ما كان عليه الأكثرون يومئذ وتباينه، وتنشد للإنسانية اتجاهاً آخر غير الذي ألفه الناس. ورسالة الحق التي صمموا على القيام بها، في حاجة إلى قوة تؤيدها، وإلى أنصار يقفون في وجوه شانئيها، وإلى حصن تمتنع فيه وتسند إليه ظهرها في النضال المنتظر.

ولكن مهما كثر أعداء الحق، فالحق في نفسه جميل ومحبوب، ويوشك أن يقيض الله له أهلاً يرحبون بأهله، وحماةً يضعون أيديهم في أيدي حماته: "والذين تبوءوا الدار والإيمانَ من قبلهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوقَ شحَّ نفسه فأوليك هم المفلحون" [الحشر: 9].

هنالك التقى الذين آمنوا وهاجروا، بالذين آووا ونصروا، فتآخى الفريقان على الحق، وكان منهما لدين الحق الرعيل الأول من كتائب الحق: "إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض. والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق، والله بما تعلمون بصير" [الأنفال: 72].

وهؤلاء "الذين آمنوا ولم يهاجروا" هم قوم من أهل مكة دخلوا في الإسلام، وكان يؤدون صلواتهم على النهج الشرعي في منازلهم أو في الحرم المكي إن استطاعوا، وكانوا صحيحي العقيدة وغير مقصرين في العبادة – إلا أنهم كانوا سبب ضعف للإسلام بإذعانهم لنظامٍ غير نظامه، وإحجامهم عن مؤازرة أهله في وطنه ودار هجرته[3]- وردَ الحكم عليهم في آية الأنفال (72) المتقدمة بأنهم انقطعت الولاية بينهم وبين كتلة الإسلام الرئيسية، وأصرح من ذلك فيهم آيات النساء (97-100): "إنّ الذين توفاهم الملائكةُ ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم، قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. فأولئك عسى الله أن يعفوَ عنهم وكان الله عفواً غفوراً. ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموتُ فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً".

هذه مواقف المهاجرين والأنصار إلى أن فتح الله على نبيته صلى الله عليه وسلم مكة بيت الله الحرام، وهذا موقف المتخلفين عن الهجرة من المسلمين الذين لم يهاجروا ولم ينصروا.

وكان ذوو الأحلام الراجحة والعقول النيرة من قريش وأعيان أم القرى يراجعون أحلامهم في الموازنة بين الإسلام المحمدي وجاهليتهم القديمة، فيتبين لهم بنور عقولهم فرق ما بين الضلالة والهدى، وما بين دين الحق والأنظمة الباطلة، فيهاجرون باقتناعاتهم من محيط الجاهلية إلى قلعة الإسلام، وكلنا نعرف قصة الذين قال فيهم صلوات الله عليه: "لقد رمتكم مككة بأفلاذ كبدها" فكان منهم الرجل الذي له إلى يوم القيامة ثواب إسلام كل من عاش مسلماً تحت سماء مصر وشمال إفريقية، ومنهم الرجل الذي لم تسكره خمرة نصره على المسلمين في أُحُد فكان بطل الإسلام الأول في حروب الردة، وفي طلائع الجهاد في العراق، وفي انتصارات الإسلام الباهرة على جيوش الروم في ربوع الشام، وكان منهم حامل مفتاح الكعبة سليل بني عبد الدار بن قصي.

وبعد فتح مكة انقطع نظام هجرة التأسيس الأولى فلا هجرة من نوعها بعد الفتح.

الهجرة في عصورنا

روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه عن أبي عثمان النهدي أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئت بأخي "أبي معبد" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله، بايعْه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: قد مضت الهجرة بأهلها. قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ قال: على الإسلام والجهاد والخير. قال أبو عثمان النهدي: فلقيت أبا معبد فأخبرته بقول مجاشع فقال: صدق.

وفي كتب السنن – وبعضه في الصحيحين- عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفضالة بن عبيد بن ناقد الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .. فما أفضل الهجرة؟ قال: من هجر ما حرّم الله.



وفي سنن أبي داود من حديث عبد الرحمن بن أبي عوف عن أبي هند عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تنقطع الهجرةُ حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.

هذا النوع من الهجرة –وهو هجر المساوئ بالتوبة إلى الله منها- هو العهد الذي يجب أن يقطعه المسلم على نفسه لله في ذكرى الهجرة، وأن يواصل الوفاء به مع أيام السنة، إلى أن تأتي الذكرى الأخرى التي يقيمها المسلمون في جميع بقاع العالم الإسلامي، فيعود فيجدد العهد بها مع الله، ويكون عند تجديده العهد نظيف اليد واللسان والقلب من الآثام التي قطع على نفسه العهد السابق لله على اجتنابها.

ومن أصدق الدلائل على عبقرية أمير المؤمنين فاروق الإسلام، والذين كان يصدر عن مشورتهم من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختيارهم عام الهجرة المحمدية إلى المدينة بداية للتاريخ الإسلامي، ليذكر المسلمين مع تجدد الأعوام بهذا الحادث العظيم، فيطيلوا التفكير في أغراضه ونتائجه، ما بقي هذا الإسلام عنواناً لرسالة الله الخالدة في الأرض، وليجددوا لها عهدهم بالعمل على إحيائها وتجديدها.

هذا العهد في الذكرى وما يترتب عليه من نظافة المسلمين –في أخلاقهم وعقولهم وقلوبهم- على طول أيام السنة، كفيل بتكوين أمة إسلامية صالحة، تستحق من الله أن يرفع مستواها بين شعوب الأرض. وقمين أن يكون به التعريف العملي بالإسلام لمن يتصل بالمسلمين من أمم الأرض. وهذه الطريقة العملية في تعريف غير المسلمين بالإسلام هي التي جرى عليها الرعيل الأول من المسلمين من تلاميذ محمد صلوات الله وسلامه عليه، فانتشرت بهم راية الإسلام في هذا العالم الإسلامي.

أيها المسلمون، اسمعوا مني حقيقة مدوية مجلجلة: إن ما في حكومات المسلمين كلها من عيوب هي في الحقيقة من عيوب الأمة، ورجال الحكومة في جميع بلاد المسلمين هم من أبناء الأمة، ولو لم تكن هذه العيوب في الأمة لما كانت في الحكومة، ولعل ما نشكوه من عيوب حكوماتنا من أندونيسيا في أقصى المشرق إلى رباط الفتح في أقصى المغرب أقل بكثير مما كان ينبغي لنا أن نعرفه وأن ننقده وأن نعمل على الخلاص منه من عيوب الشعوب الإسلامية.

السبيل الوحيد لقوة حكوماتنا وصلاحها وعزتها إصلاحُ شعوبنا ورجوع أفرادها –رجالاً ونساءً- إلى الله حتى يكونوا أمة صدق، وأن يتعاملوا بالحق، وأن ينصف كل امرئ منهم الناس من نفسه قبل أن ينتصف منهم. وما أهون هذا وأيسره، لو قطع كل مسلم على نفسه عهداً في ذكرى الهجرة بأن يأتمر بأمر هادينا العظيم فيكون مهاجراً بهجر السيئات، وهجر ما حرم الله، وهجر الخطايا والذنوب. ولن يفعل ذلك كل المسلمين، حتى يفعله بعض المسلمين، ولو أن يبدأ بذلك مسلم واحد فيقتدي به آخر فتسري منهما عدوى الخير إلى آخرين. حتى إذا صار للمسلمين مع الأيام والسنين رأي عام صالح كان منهم للحكومة أبناء يتولون شئون المسلمين، فتكون منهم لله الدولة الإسلامية التي ترضى عن الله ويرضى الله عنها. وحينئذ يحق لنا أن نرجوا ذيوع أخلاق الإسلام ومبادئه وسننه واقتناعاته في أمم الأرض، وإذا لم يصدقني المسلمون فليجربوا...





وفي مسند أحمد بن حنبل (6/21 الطبعة الأولى) من حديث فضالة بن عبيد بن ناقد أن الني صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم. والمسلم؟ من سلم الناس من لسانه ويده. والمجاهد؟ من جاهد نفسه في طاعة الله. والمهاجر؟ من هجر الخطايا والذنوب.[1] مجلة (حضارة الإسلام) العدد الأول (ص1-9)، السنة الثانية، محرم 1381 هـ/حزيران 1961[2] تفسير الحافظ ابن كثير: أوائل سورة المائدة.[3] انظر كتاب (مع الرعيل الأول) ص 43 الطبعة الثانية.

في مدرسة السيرة[1]


في مدرسة السيرة[1]

للدكتور صالح الأشتر
الأستاذ بكلية الآداب في جامعة دمشق
ليس أحب إلى نفسي من أن أخلو إلى كتاب في السيرة أقضي في صحبته ساعة هانئة، أطوف خلالها في تلك الأجواء السمحة وأعيش في ظلال النبي الإنسان، وأجني من مدرسة حياته أعظم الفوائد، ذلك أن كُتب السيرة مدرسة حية تزود قارئها بما لا يجده في مدرسة أ خرى، وسأحاول في هذا الحديث أن أكثف الفوائد التي يجنبها الإسلاميون من دراسة السيرة.



الفائدة الثقافية

سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة تاريخية صحيحة، وهي أصح ترجمة حفظها التاريخ لنبي من الأنبياء، فقد ضاعت خلال الزمن سير الأنبياء والمصلحين، وأصبحنا نجد اليوم بين أتباعهم من ينكر وجودهم التاريخي من أساسه، فهناك بين المسيحيين الأميركيين من ينكر وجود المسيح ويدّعي أن ما يتناقله الناس عن حياته أساطير انحدرت إليهم من بقايا وثنية الروم واليونان!

وقد استمرت المعركة الجدلية أشهراً في واحدة من مجلات شيكاغو حول حقيقة المسيح التاريخي، وقد بذل رينان أقصى جهوده ليقف على قصة حياة كاملة لعيسى عليه السلام ومع ذلك لا تزال دقائق حياته سراً مكنوناً في ضمير الزمن، وعيسى هو النبي الذي يعيش في ضمائر الملايين من أتباعه المثقفين المتعلمين في الدنيا، فكيف بسِيَر المصلحين الآخرين من أمثال زرادشت وبوذا وكونفوشيوس! إن كثيراً من النقاد اليوم يشكون في شخصياتهم ووجودهم التاريخي، ونحن لا نستطيع إلى اليوم أن نحدد العصر الذي عاش فيه رزادشت صاحب المجوسية، وإلى اليوم لا يستطيع مؤرخ أن يعرض للناس صورة حقيقية لتاريخ حياة بوذا أو حياة كونفوشيوس، وكل ما يعرف الناسُ عن هؤلاء أوهاماً تنهار وتتهافت عند أول تحقيق!

أما محمد عليه السلام فإن سيرته وصلت إلينا، وهي تفصل دقائق حياته، وتقص علينا نبأ كل صغيرة وكبيرة منها، وقد دهش المستشرقون لذلك فقال أحدهم –رينان- بصراحة: «حياة مؤسس الإسلام معروفة عندنا معرفة حياة المصلحين في السادس». والحق أننا نعرف اليوم معرفة كاملة كيف كان النبي يأكل ويشرب ويلبس وينام، كيف كان يعيش في بيته، ومع الناس، وفي المسجد والسوق، وفي السلم والحرب، بل نحن نستطيع أن نتمثل صورته الشخصية تمثلاً حياً من خلال الأوصاف الدقيقة التي حملتها إلينا كتب الحديث عنه، فلننظر إلى هذه الصورة التي تكاد تغني عن الرسم الفوتوغرافي:

«كان صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، بل كان ينسب إلى الربعة، وأما لونه فقد كان أزهر، ولم يكن بالآدم الأسمر، ولا بالأمهق الشديد البياض، وأما ما كان ظاهراً للشمس والرياح كالوجه والرقبة والآذان فقد كان مشرباً بالحمرة، وأما شعره فقد كان رجْلاً ليس بالسبط ولا بالجعد القطط، و كان يضرب إلى منكبيه، وقيل أنه كان يبلغ شحمة أذنيه، وربما فرق شعر رأسه فرقتين: فرقة عن يمينه وفرقة عن يساره، وربما جعل شعره على أذنيه فتبدو سوالفه تتلألأ، ولن شعره أسود، ولم يبلغ شيب رأسه ولحيته عشرين شيبة.

وكان صلى الله عليه وسلم حسن الوجه كضوء البدر، أدعج العينين، في بياضهما عروق حمر رقاق، أزج الحاجبين سابغهما، أهدب الأشفار، وكان مستوي الأنف، حسن الثغر واسع الفم مفلج الأسنان، وكان من أحسن الناس شفتين وألطفهم ختم فم، وكان سهل الخدين صلبهما، وليس بالطويل الوجه ولا المكلثم المدور، كث اللحية، يعفي لحيته ويأخذ من شاربه، وكان أحسن عباد الله عنقاً، وكان عريض الصدر، عظيم المنكبين أشعرهما، ضخم الكراديس، واسع الظهر، ما بين كتفيه خاتم النبوة، وهو مما يلي منكبه الأيمن، فيه شامة سوداء تضرب إلى الصفرة، حولها شعرات متواليات كأنها من عرف فرس، وكان عبل الذراعين والعضدين، وطويل الزندين، رحب الراحتين، طويل الأصابع، عبل ما تحت الإزار من الفخذين والساق، وكان معتدل الخلق في السمن، بَدُنَ في آخر زمانه».

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا أشبه الناس بآدم، وكان أبي إبراهيم أشبه الناس بي خلقاً وخُلقاً».

فمحمد [صلى الله عليه وسلم] إذاً شخصية تاريخية لا سبيل إلى أدنى الريب في وجودها، ذلك أن سيرته لدينا معروفة منذ نعومة أظفاره إلى أن اختاره الله لجواره، ولا سيما تاريخ الفترة التي أدى فيها رسالة ربه، وإن في دراستنا لهذه السيرة الفائقة ثقافة تاريخية، فسيرة النبي [صلى الله عليه وسلم] هي التاريخ الحق الصحيح لفترة الإسلام، وهي الصورة الواقعية للانقلاب المحمدي الذي حقق لأمتنا العربية أول وحدة قومية في تاريخهم، والذي جمع المسلمين على هدف واحد، وقاد ركبهم المظفر لإنقاذ البشرية التائهة ودفعها نحو النور والحرية والحق.



الفائدة الأخلاقية

سيرة النبي محمد عليه السلام حقيقة تاريخية، وهي سيرة الرجل العظيم الكامل الذي لا تجد الإنسانية غيره قدوة حسنة تقتدي بها وهي سيرة الرجل العظيم الكامل الذي لا تجد الإنسانية غيره قدوة حسنة تقتدي بها وهي تتلمس طريقها نحو عالم أكمل وأمثل وحياة فُضلى، ومن الطبيعي ألا تجد الإنسانية مثلها الأعلى في شخصيات وهمية، وإلا فهي تضل طريقها المستقيم وتسير مقتدية بالخيال والأوهام! فمن حقنا إذاً أن نتخذ من سيرة النبي [صلى الله عليه وسلم] نموذجاً لسلوكنا في حياتنا و«لكم في رسول الله أسوة حسنة».

وحياة محمد [صلى الله عليه وسلم] تكشف أمامنا المثلى الأعلى في جميع أحوال الحياة: في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان الخ.. فمحمد [صلى الله عليه وسلم] هو المثل الكامل الحي لنا، نحن المسلمين، مثل حي من لحم ودم، نقتدي بخطواته ونهتدي بهديه، ولن تجد الإنسانية في غيره مثلاً حياً لها، فسيرة محمد [صلى الله عليه وسلم] حقيقة تاريخية، يصدّقها التاريخ الصحيح ولا يتنكر لها، ولهي سيرة جامعة محيطة بجميع أطوار الحياة وأحوالها وشئونها، وهي سيرة متسلسلة لا تنقص شيئاً من حلقات الحياة، وهي أيضاً سيرة عملية قابلة للتطبيق، ذلك أن ما كان يدعو إليه محمد [صلى الله عليه وسلم] في القرآن والحديث كان يحققه بسيرته أولاً، وهذا ما شهد به معاصروه، فقالت عائشة رضي الله عنها، وقد سئلت عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم: «كان خلقه القرآن».

لم يُتَح لغير محمد من الأنبياء أصحاب الرسالات، أو لغيره من المصلحين أصحاب الدعوات، أن يعلّموا أتباعهم تعليماً عملياً: فالمسيح عليه السلام لا يستطيع أن يرسم بسيرته لأتباعه مثال الزوج الكامل لأنه لم يتزوح قط، وهو لا يستطيع أيضاً أن يرسم بسيرته لأتباعه مثال الزوج الكامل لأنه لم يتزوج قط، وهو لا يستطيع أن يرسم بسيرته لأتباعه المثل الأعلى الكامل للحاكم الإداري العالم لأنه من يحكم قط، بل كان مغلوباً على أمره، ظلمه الرومان وضيقوا عليه وطاردوه، ولقد كان لعيسى أم، والإنجيل يخبرنا أن له أخاً وأختاً، ولكننا لا نجد في سيرة عيسى اليوم شيئاً عن معاملته أهله وذويه وأسرته لتكون هذه المعاملة أسوة لأتباعه.

وموسى عليه السلام لا نعرف من سيرته إلا صوراً من قتاله وقيادته في الحرب وشجاعته فيها، كما ترسمها الأسفار الخمسة من التوراة، أما النواحي الأخرى فلا نتبيّنها بوضوح –كما يقول بحق الأستاذ سليمان الندوي- كالحقوق في أمور الدنيا والفرائض والواجبات، فكيف يستطيع إذاً أتباعه أن يلتمسوا لسلوكهم في كل ذلك أسوة من سيرته.

وكذلك كيف يستطيع أتباع بوذا –وهم يعدون ربع سكان المعمورة- أن يتخذوا من سيرته قدوة عملية لهم، والتاريخ لم يحفظ من سيرته غير عدة أقاصيص وحكايات لا ترسم غير ظلال باهتة من حياته.

أما محمد عليه السلام فقد كان حريصاً على أن يربي أتباعه تربية عملية حين كان يأخذ نفسه بالتطبيق العملي المثالي لكل ما يدعو إليه، حتى إذا لم يبدأ مرة بنفسه أولاً يجد من المسلمين تردداً في تنفيذ ما يدعو إليه، وكذلك تردد المسلمون في نحر الهدْي والحلق والتقصير يوم صلح الحديبية، على الرغم من أمر النبي [صلى الله عليه وسلم] لهم بذلك، حتى لفتت أمُّ سلمة نظر النبي [صلى الله عليه وسلم] إلى أنه لم يبدأ بنفسه أولاً، فهو قد أمرهم بالنحر والحلق ولكن لم ينحر بعد، ولم يحلق أو يقصر، ليكون القدوة العملية لأصحابه، كما هو شأنه في كل أمر من أمور حياته، فأسرع عليه السلام ينحر ويحلق، وأسرع المسلمون يأتمون به دون تردد. ولهذا نجد بين المذاهب الأربعة مذهباً –هو مذهب الإمام مالك- يرجّح السُّنّة العملية، وهي ما تسمى في أصول مذهبه بعمل أهل المدينة –أي ما توارثه هؤلاء عن آبائهم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، يرجحها على السنة المروية عن طريق الآحاد، حسب اجتهاده، وهذه السنة العملية هي التي صححت لأبي يوسف رأيه في الوقف، ذلك أن أبا يوسف كان أولاً على رأي شيخه أبي حنيفة في عدم القول بجواز الوقف، فلما جاء أبو يوسف إلى المدينة ولقي فيها الإمامَ مالكاً، بيّن له هذا أن السنة العملية جرت على إقرار الوقف، وأخبره أن في المدينة عدداً من ورثة صحابة للنبي [صلى الله عليه وسلم] أوقفوا لذراريهم أوقافاً معروفة منذ عهد النبي وبإقراره، ثم استدعى الإمام مالك بعضاً منهم فشهدوا أمام أبي يوسف بتوارثهم أوقافاً لهم، أباً عن جد، فتراجع عند ذلك أبو يوسف رحمه الله وقال: «لو كان صاحبي –يعني شيخه أبا حنيفة- حياً لرجع عن قوله».

إن في دراسة السيرة إذاً فائدة أخلاقية سلوكية، فحياة النبي [صلى الله عليه وسلم] ترسم المنهاج السلوكي للمسلمين، ولهم «في رسول الله أسوة حسنة».



الفائدة الدينية

سيرة النبي [صلى الله عليه وسلم] مصدر من مصادر الشريعة الإسلامية، ذلك أن جانباً كبيراً من مقومات شريعتنا وشعائرها توضحه حياة النبي [صلى الله عليه وسلم] وتنيره أعماله، وتقدم له التفسير العملي. فدراسة السيرة إذاً تنمي إيماننا تزيدناً بصراً بحقائق ديننا القويم، وتعمّق فهمنا لكتاب الله وتعيننا على تفسيره. والقرآن الكريم في معنى من معانيه كتاب تعبدي، نتلوا آياته في صلواتنا، ونحن مأمورون بقراءته وتدبره، وسيرة النبي [صلى الله عليه وسلم] تيسر لنا السبيل إلى إحسان تدبره وفهمه، كما تشرح لنا أحكام الفرائض وتطبيقاتها. فالسّنّة العملية هي التي تفصل أحكام الزكاة وتشرحها، وتفصل كيفية الوضوء وأعمال الصلاة وتبين مناسك الحج، والنبي عليه السلام هو الذي يقول حين توضأ فغسل أعضاءه ثلاثاً ثلاثاً: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي». ويقول أيضاً: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»، ويقول في الحج: «خذوا عني مناسككم».

والقرآن الكريم عندما أجملَ أكثر الأحكام، واكتفى ببيان الخطوط الرئيسية منها، ترك لسيرة النبي تفصيل ما أجمل وبيان ما لم يتعرض له، إما بتطبيق النبي [صلى الله عليه وسلم] العملي أو بأقواله أو بإقراره لأفعال بعض صحابته، فقد ورد في حديث عمرو بن العاص قال: كنت في غزوة ذات السلاسل، فأصابتني جنابة في ليلة بادرة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلكَ، فتيممت وصليتُ بأصحابي الصبح، فلما رجعنا إلى المدينة ذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو! صليتَ بأصحابك وأنت جنب! فقلت: يا رسول الله، ذكرتُ قولَ الله تعالى «ولا تقتلوا أنفسكم» فتيممتُ وصليت. قال: فضحك النبي [صلى الله عليه وسلم] ولم يقل شيئاً..

وهكذا أثبتت السنة العملية حكماً تعبدياً لم يتعرض له القرآن الكريم وهو جواز تيمم الجنب مع وجود الماء إن خشي الهلاك. فالسيرة العملية إذاً هي التبيين لأحكام القرآن، وصدق الله العظيم: «وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون».

هذه هي الفوائد العظيمة التي يجنيها المسلم في مدرسة السيرة، فهي تقدم له ثقافة تاريخية موثوقة، وترسم له مُثُلاً أخلاقية سلوكية عملية، وتزيد وعيه الديني، وتبصّره بحقائق الإسلام وكتبه العظيم.




(1)(2)(3)[1] مجلة «حضارة الإسلام» المجلد الأول ، العدد السابع، ص 63-69، السنة الأولى (1960-1961)

الهجرة المباركة - الجزء الثالث - عائشة بنت أبي بكر


الهجرة المباركة - الجزء الثالث - عائشة بنت أبي بكر


كانت المدينة كلها قد زحفت للإستقبال, وكان يوماً مشهوداً لم تشهد المدينة مثله في تاريخها, وقد رأى اليهود صدق بشارة حبقوق النبي : إن الله جاء من التيمان والقدوس من جبال فاران. [ صحيفة حبقوق ( 3/3 ) ].


وبعد الجمعة دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ومن ذلك اليوم سُميت بلدة يثرب بمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ونزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -.


فعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أي بيوت أهلنا أقرب ؟, فقال أبو أيوب : انا يا رسول الله, هذه داري, وهذا بابي, قال : فانطلق فهيئ لنا مقيلاً, قال : قوما على بركة الله. [ أخرجه البخاري ( 3911 ) واحمد ( 12255 )(3/122 ) ].


وبعد أيام وصلت إليه زوجته سودة, وبنتاه فاطمة وأم كلثوم, وأسامة بن زيد, وأم أيمن, وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر ومنهم عائشة, وبقيت زينب عند أبي العاص, لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر. [ زاد المعاد ( 2/55 ) ].




قالت عائشة : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وعك أبو بكر وبلال, فدخلت عليهما, فقلت : يا أبَتِ كيف تجدك, ويا بلال كيف تجدك ؟ قالت : فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :
كل امرئ مصبَّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله


وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادٍ وحولي إذخر وجليلُ
وهل أرِدَن يوماً مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل


قالت عائشة : فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته, فقال : اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد, وَصَحِّحهَا, وبارك في صاعها ومُدِّها, وانقل حماها فاجعلها بالجحفة. [ أخرجه البخاري ( 1889 ), ومسلم ( 1376 ) - بتصرف من الرحيق المختوم ].

الهجرة المباركة الجزء الثاني عائشة بنت أبي بكر


الهجرة المباركة الجزء الثاني عائشة بنت أبي بكر



أما قريش فقد جن جننها حينما تاكد لديها إفلات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صباح تنفيذ المؤامرة, فأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم ضربوا علياً, وسحبوه إلى الكعبة, وحبسوه ساعة, علهم يظفرون بخبرهما. [ رحمة للعالمين ( 1/96 ) ].
ولما لم يحصلوا من علىّ على جدوى فجاءوا إلى بيت أبي بكر, وقرعوا بابه, فخرجت إليهم أماء بنت أبي بكر, فقالوا لها : أين أبوك ؟ قالت : لا أدري والله أين أبي ؟ فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشاً خبيثاً - فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها. [ ابن هشام ( 1/487 ) ].

وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين, فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة في جميع الجهات تحت المراقبة المسلحة الشديدة, كما قررت إعطا مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين, كاناً من كان. [ أخرجه البخاري ( 3906 ), واحمد ( 17641 ), ( 4/175 ) ].

وحينئذ جدَّت الفرسان والمشاة وقُصاص الأثر في الطلب, وانتشروا في الجبال والوديان, والوهاد والهضاب, لكن من دون جدوى وبغير فائدة.

وقد وصل المطاردون إلى باب الغار, ولكن الله غالب على أمره.

روى البخاري عن أنس, عن أبي بكر, قال : كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار فرفعت رأسي, فإذا أنا بأقدام القوم, فقلت : يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا ... قال : اسكت يا أبا بكر, اثنان الله ثالثهما ! وفي لفظ : ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما. [ أخرجه البخاري ( 3653 ), ومسلم ( 2381 ) والترمذي ( 3095 ) ].

وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة.

وحين خمدت نار الطلب, وتوقفت أعمال دوريات التفتيش, وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاث أيام بدون جدوى, تهيأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه للخروج إلى المدينة.

وأتتهما أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - بسفرتهما, ونسيت أن تجعل ها عصاماً, فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام فشقت نطاقها باثنين, فعلقت السفرة بواحد, وانتطقت بالآخر, فسُميت ذات النطاقين. [ أخرجه البخاري ( 3905 ), وابن هشام ( 1/486 ) ].


ثم ارتحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه -, وارتحل معهم عامر بن فهيرة, وأخذ بهم الدليل - عبد الله بن أريقط - على طريق السواحل.



قال عروة بن الزبير : سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة, فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة, فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة, فانقلبوا يوماً بعد ما طالوا انتظارهم, فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أُطم من آطامهم لأمر ينظر إليه, فبصر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب, فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب : هذا جدكم الذي تنتظرون, فثار المسلمون إلى السلاح. [ اخرجه البخاري ( 3906 ) ].



قال ابن القيم : وسُمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف, وكبر المسلمون فرحاً بقدومه, وخرجوا للقائه, فتلقوه وحيوه بتحية النبوة, فأحدقوا به مطيفين حوله, والسكينة تغشاه, والوحي نزل عليه : ( فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) [ التحريم : 4 ], [ زاد المعاد ( 2/54 ) ].
وفي يوم الإثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة - وهي السنة الأولى من الهجرة - الموافق 23 سبتمبر سنة 622م, نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء. [ رحمة للعالمين ( 1/102 ) ].

الهجرة المباركة الجزء الأول عائشة بنت أبي بكر


الهجرة المباركة الجزء الأول عائشة بنت أبي بكر



لما تم اتخاذ القرار الغاشم بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل إليه جبريل بوحي ربه -تبارك وتعالى -, فأخبره بمؤامرة قريش, وأن الله قد أذن له في الخروج, وحدد له وقت الهجرة قائلاً : لا تبت هذه لليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. [ ابن هشام ( 1/482), وزاد المعاد ( 2/52 ) ].
وذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الهاجرة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - ليبرم معه مراحل الهجرة, قالت عائشة - رضي الله عنها - : بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة, قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها, فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي, والله ما جاء في هذه الساعة إلا أمر.

قالت : فجاء رسول - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن, فأذن له, فدخل, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر : اخرج من عندك. فقال أبو بكر : إنما هم أهلك, بأبي أنت يا رسول الله, قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم. [ أخرجه البخاري ( 3905 ), وأبو داود ( 4083 ), واحمد ( 25734 ) ].

وبعد إبرام خطة الهجرة رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته ينتظر مجئ الليل.

أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد لتنفيذ الخطة المرسومة التي أبرمها برلمان مكة ( دار لندوة ) صباحاً.

وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل, فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر, ولكن الله غالب على أمره, بيده ملكوت السماوات والأرض, يفعل ما يشاء, وهو يجير ولا يجار عليه, فقد فعل ما خطب به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما بعد : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )[ الأنفال:30 ].

وع غاية استعداد قريش لتنفيذ خطتهم فقد فشلوا فشلاً فاحشاً, ففي هذه الساعة الحرجة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعليّ بن أبي طالب : نَم على فراشي وتسخَّ ببُردي هذا الحضرمي الأخضر, فنم فيه, فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم, وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام في بُردة ذلك إذا نام. [ ابن هشام ( 1/483 ) ].

ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واخترق صفوفهم, وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رءوسهم, وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه, وهو يتلو : ( وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) [ يس : 9 ], فلم يبق منهم رج إلا وقد وضع على رأسه تراباً, ومضى إلى بيت أبي بكر, فخرجا من خوخة من دار أبي بكر ليلاً, حتى لحقا بغار ثور في اتجاه اليمن.

وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر, وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل, فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم, ورآهم ببابه فقال : ما تنتظرون ؟!
قالوا : محمداً, قال : خبتم وخسرتم, قد والله مرَّ بكم, وذر على رءوسكم التراب, وانطلق لحاجته, قالوا: والله ما أبصرناه, وقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم.

ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا عليَّا, فقالوا : والله إن هذا لمحمد نائمٌ, عليه بُرده, فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا, وقام علىّ عن الفراش, فسُقط في أيديهم, وسألوه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : لا علم لي به. [ ابن هشام ( 1/483 ), وزاد المعاد ( 2/52 ) ].
وكمنا في الغار ثلاث ليال, ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد. [ فتح الباري ( 7/336 ) ]. وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة : وهو غلام شاب ثقف لقن, فيدلج من عندهما بسحر, فيصبح مع قريش بمكة كبائت, فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه, حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام. وكان يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم, فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء, فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيفيهما- حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة يتبع بغنمة أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليعفي عليه. [ ابن هشام ( 1/486 ) ].

العمل الإسلامي ومعركة التحدي الحضاري


العمل الإسلامي ومعركة التحدي الحضاري

د. أحمد العسال

خطر التحدي الحضاري الغربي

تخطو الأمة الإسلامية إلى القرن الخامس عشر الهجري مواجهة تحديات كثيرة قابلَتْها في مسيرتها، والتحديات في طبيعتها وجوهرها تظهر قوة الأمة وقدرتها على الاستجابة للتحدي والانتصار عليه وتجاوزه، مما لا شك فيه أن أكبر تحد واجه الأمة في تاريخها الطويل هو التحدي الحضاري الغربي الذي دخل إليها في عقر دارها والذي أتى إليها في صور متعددة وأفانين متنوعة، من الجيش المنظم والتدريب المتقدم إلى المعمل العلمي المجهّز إلى مدرسة الروضة الرائقة الموفقة الحالفة بشتى ألوان النشاط والألعاب فضلاً عن العمل السياسي المزدهر ومناخه الحر الذي يتيح اختلاف الرأي دون إرهاب أو خوف أو انتقاص إلى آخر المؤسسات في المجتمع الغربي.

وياليت هذه الحضارة جاءت والأمة عندها قدرة الاختيار والفحص والتقويم، إذاً لاستطاعت الاستجابة للتحدي ولأمكنها عند ذلك أن تفرز وتأخذ لنفسها ما يوافق روحها وفكرها ولطرحت الجوانب الأخرى وراءها ظِهرياً، لكن القضية أنها جاءت والأمة في حالة ضياع وانهيار والأيام دول يوم لك ويوم عليك، ولم تكن هذه الحضارة في موقف المعطي الذي يعرض ما عنده مثلما فعل الإسلام عندما دخل بلاد الروم وفارس، كلا.. بل جاءت غازية مستعمرة كل همها أن تحول بلاد الإسلام إلى أسواق للمنتجات ومصادر للمواد الخام، وأن تعمل لتعطيل وتعويق قوى النهوض والاصلاح ولتبقى هذه البلاد في مركز التابع الذليل، ولتحُول دون يقظة إسلامية جديدة تعيد للأمة دورها الرائد في أن تقدم للجماعات البشرية النورَ والهدى والصراط المستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات والأرض.

طبيعة المواجهة

وفي هذه النقطة وهي نقطة المواجهة بين الحضارة الغربي الغازية المستعمرة المؤهلة والمقتدرة.. والأمة الإسلامية بظروفها وأحوالها وما صارت إليه كانت الملحمة التي تعيشها هذه الأمة، وكان السؤال الذي يطرح نفسه: هل تستطيع أمة أو حضارة غازية مثل الحضارة الغربية أن تعيق الأمة وتمنعها من أن تأخذ طريقها بين الأمم وتصنع لها المتاهات التي تجعلها تضرب في بيداء وتجري وراء السراب؟

والأجابة على السؤال المطروح ليس بسيطاً ولا سهلاً، وذلك لأن ما في هذا الصراع وواقعه بل وحاضره يقول ببساطة: نعم، والأدلة أكثر من أن تحصى وتعد، ولكن للمسألة وجهاً آخر يجب أن ننظر إليها من زاويته وهو الأجدر والأحق، ويفضل في مثل هذه القضية الكبيرة والخطيرة أن نعمد إلى التوضيح والتفصيل بدلاً من الكلمة الموجزة والاشارة العابرة فنقول: إن الله تبارك أقام هذه الحياة على التدافع وعلى الصراع بين الحق والباطل، يقول سبحانه: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامعُ وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً) (الحج: 40)، (ولو شاء الله لانتصرَ منهم ولكن ليبلوَ بعضَكم ببعض) (محمد: 4)، (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويلُ مما تصفون) (الأنبياء: 18)، (كذلك يضربُ اللهُ الحق والباطل، فأما الزبدُ فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب اللهُ الأمثال) (الرعد: 17).

الأمة الإسلامية بين مرحلتين

ولقد حدث الصراع بين أمتنا وغيرها في مرحلتين واضحتين، إحداهما وهي تملك من أسباب الغلبة وسنن الحق وقوى النهوض ما جعلها تسود غيرها وتمنع نفسها وتقيم حضارة باسقة وارفة الظلال يانعة الثمار، والثانية حينما دارت عليها دورة الحياة والزمان فنسيت نفسها ووهنت عزيمتها، فضعفت عن إقامة الحق في حياتها وتسرب إليها الوهن والضعف، فشاع فيها الفساط والظلم فانحلت عرى الإيمان بين أبنائها واضمحل العمل الصالح فحق عليها القول فحدث التدمير والخراب: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القولُ فدمّرناها تدميراً. وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً) (الإسراء: 16-17).

ونحن نعيش المرحلة الثانية ونرى آثار التفسخ ومظاهر الانحلال، نرى تيار التبعية والانحياز على حد قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سَنن مَن قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. فقالوا: اليهود النصارى؟ قال: فمن؟ والحديث واضح كل الوضوح في نسيان الأمة لمصالحها وسيادة تيار التبعية حتى يركب هؤلاء المتبعون الصعب والذلول ويلجوا جحر الضب الخر على ضيقة وسوئه، وعدم ملاءمته ولكن كما يقولون: حبُّك الشيء يعمي ويصمّ.

ولقد استساغ أبناء المسلمين كثيراً من سنن الغربيين، في الحياة وآداب الاجتماع وأنماط السلوك وطرائق التفكير، ولعل أخطرها شأناً وأكثرها وبالاً استصغار أنفسهم واحتقار أمتهم والركون إلى كل ما تأتي به الحضارة الغربية فأصبحوا والعياذ بالله كالقردة التي تجيد التقليد والمحاكاة ولكنها أبعد ما تكون عن الابداع والاختيار الحر الذي يميز بين الخبيث والطيب.

أمران هامّان



على أنه يجب أن ننتبه هنا إلى أمرين هامين:

أولهما: أن الاحتكاك الحضاري الذي تمّ بيننا وبين الحضارة الغربية لم يكن كله شراً، بل كانت له فوائد كثيرة مثل الاستفادة من المنجزات العلمية والأساليب الحضارية الخيرة في خدمة المجتمع والبيئة وفي تطوير الزراعة والصناعة.

وثانيهما: أن هناك طبائع للأشياء لا بد من تقديرها ووزنها حتى يمكن اتخاذ موقف سليم وصحيح من غير انفعال هائج ولا حماس طائش، فكلاهما مضيع للطاقة مبدد للوقت والإمكانيات، ومن هذه الأمور التي يجب أن نفهمها تماماً، ألا وهي الروح الاستعمارية التي جاءت بها إلينا الحضارة الغربية روح الغلبة والسيطرة والسيادة وعنصر التفوق والريادة، وأنه لا يمكن تعادل الكفة بيننا وبينها ولا الوقوف منها موقف الند إلا إذا ملكنا وسائل هذه الحضارة وألبسناها روحنا وقدمنا منجزاتها من جديد بعبقرية الإسلام وأخلاقه وآدابه.. وهذه النقطة الأخيرة هي نقطة المواجهة بين العمل الإسلامي الذي تضطرم روحه في نفوس الشباب هذه الأيام وتغلى به دماؤهم، وبين عمل الحضارة الغربية بمفاهيمها وأخلاقها على أرض الإسلام وفي مجتمعاته.

هذه المواجهة التي قام من أجلها المجددون والمصلحون، والذي سال من أجلها مداد العلماء والأدباء والمفكرين في كيفية مواجهتها، وسطر الشهداءُ بدمائهم الزكية حروفها، يجب أن يكون طريقها معروفاً وسهلاً وسبيلها مفهوماً، ويجب أن نُنَحّي الغبش عن رؤيتنا للواقع وما يعتمل فيه من عوامل وما تؤثر فيه من قوى وأن نعمد إلى طريق البناء بوعي ويقظة وبدأب وثبات.

منهج في التفكير

إن أول ما نحتاجه في هذه المواجهة هو منهج في التفكير يعصمنا من الزلل ويجنبنا العثار ويؤمننا غوائل الطريق ويمدنا بمعايير التقويم والاصلاح، ومن فضل الله عز وجل أن رزقنا من لدنه الرزق الحسن فحفظ لنا كتابه المبين وجعل تفسيره في هدي خاتم النبيين والمرسلين، وجعل سبيلنا إلى فهم الكتاب والسنة العقل الرشيد، الذي يفهم لغة الكتاب وأسباب النزول ومراحل الوحي والتنزيل وحكمة الشرع فيما شرع وتقديره لجلب المنافع للناس ودفع المضار عنهم وتقديره لظروفهم وأوضاعهم (لا يكلف اللهُ نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (البقرة: 286).

هذا المنهج يعتمد الفطرة ويهتم بخطابها، إذ أنها الدين، ويكره الاعتساف والغلو. كما أنه أمر بالعلم وفرضه وجعله مطلباً أولياً لا يقبل العمل الصالح إلا على أساسه. ومن هنا قال البخاري في صحيحه: باب العلم قبل القول والعمل، واستشهد بتقديم الله عز وجل في قوله سبحانه: (فاعلمْ أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (محمد: 9)، (شهدَ اللهُ أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط) (آل عمران: 18)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. وقد تعلم الصحابة العلم وهم كبار، وقال عمر بن عبد العزيز: من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح. وقال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك.

قاعدة المنهج الإسلامي

وقاعدة المنهج العلمي في الإسلام هي الفقه: أي فهم الشيء على أصله وإدراكه من جميع جوانبه وذلك لا يكون إلا بفقه النص وفقه الواقع، وتلك، وأيم الله، ميزة الإسلام الفريدة في تقديره الواقع وأخذه بأسباب المعالجة الناجعة وتوصيته الفريدة بأن يكون المسلم حكيماً في قوله ونصحه. وقد قال سلفنا الصالح من أن المراد بالحكمة في قوله تعالى: (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) (النحل: 125) وفي قوله عز من قائل: (يؤتِ الحكمة من يشاء ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) (البقرة:269): هي الفقه. وفي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأدبه في الدعوة وطريقة معالجته للأمور والقضايا بالحكمة والبصيرة النافذة لم ينهر البدوي الذي بال في المسجد وإنما تركه ثم علّمه وأمر بإصلاح من فعل، ولم يغضب من البدوي الي سأله باسمه المجرد وإنما أجابه، ولم يوافق على ضرب غلام المشركين يوم بدر وإنما وجه السؤال الحكيم –ليصل إلى معرفة عدد القوم- كم يذبح القوم كل يوم؟ ولم يطلب من معاذ حين أرسله إلى اليمن أن يبدأ من السنن وإنما بدأ بالأصول الأولى فقال له: إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه... الخ.. وقد كان هديه وسمته، أليس هو القائل: بعثت بالحنيفية السمحة. والحنيفية هي الفطرة، والسماحة هي أخذ الأمور بيسر وعدم اعتساف..

وإذا كان الفقه هو فهم النص وإدراك الواقع بيسر وسماحة، فهو أيضاً العمل بما نعلم ولا يكون الإنسان فقيها إلا إذا عمل بما علم ودخل التجربة وذاق لذة المجاهدة فكان فقهه عم ملامسة للواقع وإدراك لمشكلاته ليس من الجانب النظري فحسب ولكن من المعاناة العملية، والعمل المطلوب هنا ليس مجرد إدائه بل هو إجادته وإحسانه وإتقانه، يقول الله سبحانه وتعالى: (الذي خلق الموتَ والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) (الملك: 2)، ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليُرح ذبيحته.

وإذا كان الإسلام قد طلب الفقه من أصغر شيء في أحكامه وهو الوضوء إلى أكبر شيء وهي الإمامة والحكم، فإن الفقه مطلوب في الحياة كلها ومواجهة القضايا كلها، وإذا كان الصحابة عرفوا لكل شيء وزنه ولكل تخصص حقه، وقال عمر رضي الله عنه: من أراد الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد المال فليأتني. وتخصص في الحديث وحفظه أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وغيرها.

وإذا أردنا أن يطّرد هذا المنهج فيما نواجه من قضايا وفيما نطرح من مشكلات فلا بد من فقه للمواجهات وإعداد لها وأخذ السبل الصحيحة لغلبتها. والواضح في مواجهتنا الحضارية أن قدراً كبيراً من الفراغ الفكري والعلمي لا زال شاغراً، وإننا نقابل هذه الحضارة بحماسات هائجة وبأماني معسولة، وأن الأصالة الأخلاقية والمثابرة الجادة لا زال كثير منا لم يتعودها ولم يدخل تجربتها، فلنعد إلى أنفسنا وإلى واقعنا ولنتسلح بالفقه المبصر وسنجد السبيل الصحيح من خلاله. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

تحليل نوعي وكمّي لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم


تحليل نوعي وكمّي لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم

اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ

بلغ عدد العمليات الحربية في عصر النبوة أكثر من ستين عملية ما بين غزوة وسرية، وقاد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بنفسه من هذه العمليات ثماني وعشرين غزوة..

وإذا تناولنا هذه الغزوات بالتحليل الإحصائي، من حيث النوع والكمية والتوزيع الزمني، فسوف تتكشف لنا عدة مبادئ في القيادة الحربية في غاية الفائدة للأمة الإسلامية، وتعد من أبرز خصائص العسكرية الإسلامية..



أولاً- تحليل التوزيع الزمني والكمي:

ولعل أول ما يسترعي الانتباه، التوزيع الزمني للغزوات خلال الفترة التي دار فيها الصراع المسلح بين المسلمين وأعدائهم في عصر النبوة، والتي امتدت سبع سنوات تقريباً من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة (من صفر سنة 2 هـ، إلى رجب سنة 9 هـ) حيث يتضح التوزيع كما يلي:

















ومن ذلك نلاحظ ما يلي:



· فهو يتيح للقائد –في بداية الصراع وقبل تصاعده- الفرصة لدراسة مسرح العلميات دراسة شخصية من الناحية "الطبوغرافية" (مثل طبيعة الأرض والطرق وموارد المياه والتضاريس.. الخ) ومن الناحية "الديموغرافية" (وهي الأهداف التي تسبب للعدو من الأضرار ما يؤدي إلى إحداث تغييرات حادة في الموقفين العسكري والسياسي ويؤثر تأثيراً بالغاً على تطور الصراع المسلح عامة).
· ويتيح للقائد كذلك الفرصة لدراسة عدوه عن طريق الاحتكاك المباشر، وتقييم كفاءته القتالية مادياً ومعنوياً، ودراسة أساليبه في القتال، وأسلحته التي يستخدمها، وكل ذلك يكسب القائد ما يسمى "بالخبرة القتالية".
· هذه الدراسة الشخصية الشاملة تمكن القائد من التخطيط السليم لجميع العمليات الحربية المقبلة، كما تمكنه من إدارة المعارك بكفاية تامة، ومن توجيه المقاتلين إلى ما يحقق لهم النصر على أعدائهم.
· ونتيجة لذلك تنمو لدى القائد ثقته بنفسه وبكفاءاته وقدراته، كما تنمو لدى سائر أفراد الجيش ثقتهم بأنفسهم وقائدهم، فيواجهون تحديات الصراع المقبلة واثقين من النصر.

· مباشرة القيادة عملياً تحت إشراف القائد الأكبر، والإفادة من ملاحظاته وتوجيهاته.
· إتاحة الفرصة لهم لملاحظة أسلوب القائد "المعلم" في القيادة الحربية من حيث التخطيط للمعركة وإدارتها، وتصرفه في مواقفها المختلفة، وهي فرصة ممتازة للتعليم على الطبيعة واكتساب الخبرة القتالية في الوقت نفسه.
· تدريب قادة المستقبل على فن التفكير واستخدام العقل والتعبير عن الرأي وذلك من خلال اشتراكهم مع القائد الأكبر في مرحلة التخطيط للمعارك، ويدخل ذلك في نطاق مبدأ الشورى الذي أمر به الإسلام وطبّقه القئاد صلى الله عليه وسلم خير ما يكون التطبيق حتى قال عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في كافة غزواته، ففي غزوة بدر مثلاً استشارهم في مبدأ دخول المعركة ضد قريش، واستقر الرأي على قبول المعركة، وعندما وصل جيش المسلمين إلى مكان المعركة نزل الرسول عليه الصلاة والسلام على رأي الحباب بن المنذر الذي أشار بأن ينتقل الجيش إلى مكان آخر أفضل من الأول، لأنه قريب من ماء بدر ويتحكم فيها. وفي غزوة أحد استشار عليه الصلاة والسلام أصحابه في مبدأ البقاء في المدينة ولقاء قريش فيها، أو لقائهم خارجها، فاستقر الرأي على الخروج، واستجاب صلى الله عليه وسلم لذلك الرأي وقال لهم: "لكم النصر ما صبرتم".
· ثم إن هذا الأسلوب بقيد قادة المستقبل من حديث أنه يكسبهم القدرة على إصدار القرارات السليمة، وفي وقتها المناسب، مما يعد من أهم خصائص القيادة الناجحة، ذلك لأن مشاركتهم في مرحلة التخطيط تتيح لهم معرفة واسعة بفكر القائد ونواياه وأهدافه، وإحاطة وافية بجوانب الموضوعات، والقضايا تمكنهم من اتخاذ القرارات السليمة في المواقف التي يواجهونها في المستقبل بهدي تفكيرهم وحده، ودون حاجة إلى الرجوع إلى القيادة العليا، وخاصة في المواقف المفاجئة أو التي لا تحتمل التأخير.
ثانياً: التحليل النوعي للغزوات:

وإذا تناولنا الغزوات بالتحليل من حيث النوع أو الطابع، فسوف تتكشف لنا جوانب أخرى في القيادة الحربية، وفي إعداد القادة وتدريبهم.

فقد احتوت الغزوات على شتى صور وأشكال العمليات الحربية كما يلي:

عمليات الإغارة ودوريات القتال والردع والتأثير المعنوي مثل:
غزوة ودان – بواط – العشيرة – بدر الأولى – بني سليم – ذي أمر – بحران – ذات الرقاع – بدر الآخرة – دومة الجندل – بني المصطلق – بني لحيان – الحديبية – عمرة القضاء.
العمليات الدفاعية مثل: غزوة بدر الكبرى – أحد – الخندق.
العمليات الهجومية مثل: غزوة فتح مكة – غزوة حنين – تبوك.
عمليات المطاردة مثل: غزوة السويق – حمراء الأسد – ذي قرد.
عمليات الحصار والقتال في القرى الحصينة مثل: غزوة بني قينقاع – بني النضير – بني قريظة – خيبر – الطائف.
ومن هذا التحليل نستخلص أن جيش الإسلام الأول (قادة وجنداً) قد تعلموا ومارسوا عملياً كل أشكال العمليات الحربية تحت قيادة القائد المعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم اكتسبوا بذلك خبرة قتالية فائقة.

كما نستخلص أنهم اكتسبوا خبرة حربية في مواجهة التنظيمات الحربية والنظريات القتالية المختلفة، فهم قد حاربوا المشركين من العرب الذي كانوا يقاتلون بأسلوب الكر والفر، وحاربوا اليهود الذين كانوا يحاربون "من وراء جدر" ومن داخل حصونهم وقراهم المحصنة.
فإذا ما أضفنا إلى ذلك المعارك التي دارت في مواجهة الروم في عصر النبوة "مؤتة وتبوك" يكون جيش الإسلام قد اكتسب الخبرة القتالية في مواجهة الجيوش المنظمة، بالإضافة إلى خبرته في قتال الجيوش غير المنظمة (قريش والقبائل العربية الأخرى).
وبعد، فإنه يبقى لنا من هذا التحليل درس عظيم، وهو أن نمط "القائد المعلم" هو النمط الذي يدعو إليه الإسلام والذي لا يرتضي عنه القائد المسلم بديلاً، وأن القائد في الإسلام "صاحب مدرسة ورسالة" يدرك تماماً أن قيامه بإعداد أجيال من القادة من أسمى واجباته لها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، قال تعالى: )لقد كانَ لكم في رسولِ الله أسوة حسنة( صدق الله العظيم ).
عدد الغزوات في السنة الثانية للهجرة: 8عدد الغزوات في السنة الثالثة للهجرة: 4عدد الغزوات في السنة الرابعة للهجرة: 3عدد الغزوات في السنة الخامسة للهجرة: 4عدد الغزوات في السنة السادسة للهجرة: 3عدد الغزوات في السنة السابعة للهجرة: 2عدد الغزوات في السنة الثامنة للهجرة: 3عدد الغزوات في السنة التاسعة للهجرة: 11- أن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم حرص على مباشرة القيادة بنفسه طوال فترة الصراع كلها. (من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة) وفي كل سنة من سنواتها بلا استثناء، مع إتاحة الفرصة –في الوقت نفسه- لأصحابه أن يتولوا قيادة الأعمال الحربية المختلفة تحت إشرافه وتوجيهه بصفته القائد الأعلى، وهذه العمليات تسمى بالسرايا التي بلغ عددها خلال نفس الفترة أكثر من ثلاثين سرية.2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاد في السنة الثانية للهجرة –وهي أول سنوات الصراع- أكبر عدد من العلميات الحربية، وهو ثماني غزوات بينما لم يزد عدد العمليات التي قادها في كل سنة بعد ذلك عن ثلاث أو أربع عمليات في المتوسط. هذا التركيز في قيادة عمليات أولى سنوات الصراع له دلالاته التي لا تفوت القائد المحنك الخبير بفن الحرب، ويعد في نظر العلم العسكري والاستراتيجية الحربية من علامات القيادة الحربية الفذة.3- ونلاحظ أيضاً من تحليلنا لهذا التوزيع الكمي والزمني للغزوات: أنه يكشف عن مبدأ من أهم مبادئ إعداد القادة العسكريين لتولي القيادة، وهو أن يتولى قادة المستقبل قيادة الوحدات الفرعية للجيش تحت قيادة القائد العام، وهذا الأسلوب يفيد القدة من عدة نواح نذكر منها:

النبي العربي رسول الإنسانية الخالد


النبي العربي رسول الإنسانية الخالد

للأستاذ محمد المبارك

عميد كلية الشريعة بجامعة دمشق


في بيئة هي أقرب البيئات إلى الفطرة الإنسانية السليمة نشأ رسولُ الإنسانية العظيم بعد أن توالى في كل قوم رسول وظهر في كل شعب نبي أو أنبياء.

لقد أراد اللهُ أن تجتمع تعاليم النبوات المتفرقة ومبادئ الرسالات التي جاءت موافقة لشعب أو فترة من الزمن في رسالة جامعية وقواعد عامة تصلح للإنسانية وتوافق البشر ويشترك الناس في الأخذ بها، وفي جعلها هدفاً لحياتهم وغاية لتطويرهم وارتقائهم، فقدّر اللهُ أن تنتهي الحوادث في أسبابها ونتائجها إلى البيئة التي يختار منها رسوله إلى الإنسانية بحيث كانت أسلمها من الفساد وأبعدها عن التردي وأقربها إلى سلامة الفطرة في طبيعتها ومزاجها وتفكيرها وخلُقها.

سر اختيار العرب لرسالة الإسلام

فلقد كان العرب منزّهين عما وقع فيه الفرس من شهوات غالبة حين كان همهم الطعام الأنيق والشراب العتيق وغير ذلك من مناعم الحياة ومتع العيش، حتى انصرفوا عن كل روح مثالية أو خلق نضالي أو ثورة تستهدف العدل، وأغمضوا عيونهم على ظلم الدهاقة وذلة العامة. وكان العرب كذلك بعيدين عن نظرة الرومان إلى الناس على أنهم محكومون وأنهم وحدهم السادة والحاكمون، وعن صورة دراويش الهند والصين الغارقين في خيالاتهم وأوهامهم وعزلتهم.

لقد كان العرب الذي اختار الله منهم رسوله إلى الإنسانية يحبون المكارم ويسودونها بينهم، ويترفعون عن إسفاف أبناء الحضارات الأخرى وشهواتهم، ويبذلون في سبيل مكارم الأخلاف ومعالى الأمور أموالهم ونفوسهم، فكانوا في رأينا أرقى من الفرس والرومان واليونان والهنود خلُقاً ونفساً، وإن كانوا من جهة المظاهر المادية للحضارة ومن ناحية التنظيم السياسي والإداري أقل شأناً وأدنى مرتبة.

على أن هؤلاء العرب كانوا قوة في الوجود مضيَّعة، وكانوا يعيشون في إطار القبيلة لا ينظم مجموعهم ناظم، ولا تقودهم قيادة، وليسوا بمعزل عن تأثير من حولهم من الدول والأمم، وليس لهم فكرة جامعة أو رسالة هادية، ولكن حكم مبعثرة ومكارم مشتتة.

تكامل العظمة في شخصية الرسول

من هذا المعدن الجيد غير المستثمَر، وفي تلك التربة الصالحة غير المستنبتة، اختار اللهُ الإنسانَ الذي جمع فيه من مكارم قومه أعظمها وأرفعها وأبعدها عن إسرافهم ونقائصهم، فكان بين الناس جميعاً المعدن الخالص من كل شائبة ومجمع الخصال الكريمة المصفاة.

إن البطولة والعظمة في البشر أنواع، أرفعها وأرقاها ما تجلى في القدرة على السمو بالنفس في جميع المواقف الإنسانية والقدرة على قيادة البشر في أوسع نطاق وإلى أرفع هدف وأنبل غاية وأصدق حقيقة.

إن أشكال الحياة تتبدل، ومغريات الشهوة تتنوع، ومطامع البشر تتعدد، فألوان الأطعمة والأشربة وصنوف اللذائذ وفنون النعيم والترف وأنواع الرتب والمناصب والرياسات كثيرة متبدلة متنوعة كلما تقدم الزمنُ، ولكنها كلها تتضمن مواقف يظهر فيها طمع النفس واشتداد الإغراء ولعب الأهواء وظروف الإثراء والثأر والانتقام أو الإيثار والصبر وتحمل المشاق وحب الخير والمعروف والإحسان.

ومقياس الرقي الإنساني ليس في مظاهر الغنى وأنواع الانتاج وضروب الصناعة وفنون التفكير ونظم الحكم وتنوّع الوظائف البشرية، بقدر ما هو في موقف النفس الإنسانية أمام المظاهر المادية للحياة مهما اختلفت من ناحية القدرة على ضبط النفس وغرائزها وشهواتها ومطامعها، وعلى توجيهها وجهة الخير والمثل الأعلى والحق والعدل والإيثار والرحمة والإحسان والقدرة على إيصال هذه الروح الخيرة إلى أكبر عدد من البشر وجعلها هي السائدة الغالية فيهم أطول مدة من الزمن.

ولو أننا قسنا الناس بهذه المقاييس لوجدنا أن لكل عظيم، سواء أكان فيلسوفاً كبيراً أو كاتباً مبدعاً، نواحي من الضعف الإنساني في إغراء نفسه وتحرك الهوى، سواء أماما المال أو الجاه أو الملذات أو حب الذات أو الشعور بالزهو أو تطلب المديح أو الثأر للنفس على ما يكون فيه من نبوغ فكري أو ابداع الراي أو قدرة على التوجيه الصالح أو النضال الشعبي أو حسن التنظيم أو القيادة.

كما أن لكل عظيم أثراً يتحدد في دائرة معينة من المكان وفي عمق محدود، ويمتد إلى زمن محدود، ولو ذهبنا ننظر بهذه النظرة إلى النبي العربي العظيم رسول الإنسانية الخالدة محمد بن عبد الله، صلوات الله عليه، لوجدنا أنه بلغ القمة التي لم يقترب منها أي عظيم في هذه المجالات كلها، سواء من جهة تنزه النفس تنزها مطلقاً عن الشهوة والهوى أو القدرة على ضبطها والسمو بها في جميع المواقف والظروف والمناسبات الخاصة والعامة، أو من جهة سعة الأثر الذي تركه في آفاق البشرية ومجتمعاتها وعمق هذا الأثر وعظيم نتائجه وفوائده وشموله لنواحي الحياة واستمرار صلاحه وخلوده. لقد كان الرسول الكريم إنساناً بلغ من طاقات الإنسانية وإمكانياتها في الكمال والسمو منتهاها وغايتها، فكان بذلك فوق البشر، مع أنه بشر، وكان قدوة لكل إنسان مهما علت منزلته يبلغ بالاقتداء به الكمال الإنساني، بل كان أفراد من صحابته وتلامذته في عدد من النواحي قدوة للإنسانية لا تلحق.



لقد جعل اللهُ محمدَ بن عبد الله في قمة البشرية جميعاً، في ماضيها ومستقبلها، وهيأه بذلك ليكون مستعداً بروحه السامية بالقدرة الإلهية من جانب، فآتاه القدرة على تلقي الوحي، وعلى أن تكون نفسه مسرحاً لأعظم الحوادث الروحية، ويتلقى من الجهة الأخرى باعتباره إنساناً بالبشرية التي هو منها ليبلغها رسالة ربه وينقل إليها المثل الأعلىالذي اختاره الله لها وليقدم لها من نفسه النموذج المثالي والقدرة الكاملة.

الرسول قدوة لكل عظيم

إن كل عالم ومفكر وكل زعيم وقائد وكل قاض وحاكم وكل عامل في هذا الحياة ينبغي له أن يتخذ من محمد رسول الله القدوة النموذجية في التجرد الخالص والتنزه عن الهوى، والإيثار وحب النفع للناس والرحمة بهم والجهاد وتحمل أقسى المشاق في سبيل الحق ونصرته وتفضيل الخير والحق والعدل على عاطفة القرابة أو صلة الرحم ورابطة النسب والعرق ولو أراد أن يكون ملك أمة أو رئيس دولة أو صاحب ثروة كبرى أو المتمتع بملاذ الدنيا لكان له ما أراد، ولكنه فضل أن ينفذ أمر الله وأن يكون حامل رسالة ومبلغ دعوة وداعية عقية ومبادئ ونظام تقلب المجتمع الذي ظهر فيه وكل مجتمع يأتي من بعده من أساسه وجذوره في ثورة مستمرة على الأوضاع الفاسدة في النفس والمجتمع تستهدف التسامي المطرد نحو الغايات الكبرى وتحل المشكلات جميعاً حلاً جذرياً يربط الإنسان بالله وإزالة ما بينه وبينه من حواجز.

أثر رسالة الرسول أثر خالد

إن عمل الرسول العظيم هذا وأثره في البشرية لا تعدله الفتوحات العظيمة ولا إقامة الإمبراطوريات ولا اختراع المخترعات ولا الثورات المحلية ولا الانتصارات السياسية ولا الابتكارات الفكرية، لأنها ثورة أفقها الإنسانية كلها، ومداها الزمن الذي ستعيشه البشرية، وأهدافها أبعد الأهداف وأجمعها لجميع الغايات الإصلاحية الأخرى، وهي أبعد الثورات غوراً وعمقاً، وأعمقها لأنها تبدأ من قلب الإنسان وتنتهي إليه.

لقد كانت نقطة انطلاق هذه الثورة، التي هي أكبر ثورة وأوسعها وأعمقها في حياة البشر، بلاد العرب، وكان المكلف من الله بالقيام بها من هذه الأمة العربية، فكأن الله أعد مكارمها وخصالها واستعدادها لتكون المادة الأولية الصالحة والأداة التنفيذية لتلك الرسالة وتلك الثورة، لا لتكون أداة استعلاء وحجة للأثرة والأنانية ووسيلة للغرور والكبرياء وذريعة لاستعمار الشعوب. فجعلت هذه الرسالة التي جاء بها النبي العربي الكريم من العرب قادة إنسانيين وهداة محررين وطلائع لإنسانية جديدة تقيم أسسها على عمارة الأرض وعبادة الله، ورابطتها على الأخوة الإنسانية والعدالة والإحسان ونظامها على الشورى والمساواة بين عباد الله.

فضل الرسول على العرب

لقد نقل محمد بن عبد الله العرب برسالته بقفزة واحدة من القبلية إلى الإنسانية، ومن مجموع قبائل يعوزها نظام سياسي جامع إلى دولة شورية هدفها قيادة الإنسانية في ثورة تحريرية شاملة، ومن المكارم المشتتة إلى النظام الكامل في الحياة الشامل لجميع نواحيها، ومن أمة يتناوشها من أطرافها نفوذ الفرس والرومان واليهود وتأثيراتها السيئة إلى أمة يمتد نفوذها المصلح إلى شعوب الأرض وأممها.

الرسول مصدر الخير الكامل للعرب وللإ نسانية

عناصر ثلاثة جمعها الله من أجل إيصال البشرية بجميع شعوبها إلى الغاية المثلى، إلى الأخوة أساساً يرتكز عليها تنظيمها، وأخلاقها والتعاون والمساواة والعدل يقوم عليها تشريعها، والإيمان بالله والشعور بالمسؤولية أمامه ضماناً لتلك الأسس والأنظمة والأخلاق، وهذه العناصر الثلاثة هي: رسالة أوحى بها، وإنسان في مستوى هذه الرسالة والاستجابة لمبادئها والإنبات لبذورها وهي البيئة العربية. لقد كان محمد صلوات الله عليه مصدر الخير الكامل ووسيلة السعادة المثلى لقومه وللأقوام جميعاً، لعصره ولعصور الإنسانية جميعاً.

لذلك كان جديراً بنا وحقاً علينا أن يحتل الرسول العظيم من قلوبنا ونفوسنا المحل الذي لا يحتله أحد في الحب والتعظيم.