الجمعة، 29 يوليو 2016

تاريخ ومجتمع 11 الطريق إلى الأقصى - التفريط بالقدس نهاية المفرّطين بها

تاريخ ومجتمع 11 الطريق إلى الأقصى - التفريط بالقدس نهاية المفرّطين بها


لعل من أحلك الفترات على مدينة القدس وعلى العرب والمسلمين ما آلت إليه الأحوال بعد موت صلاح الدين الأيوبي وانقسام مملكته المترامية الأطراف إلى ممالك صغيرة استأثر بها أولاده وأخوه العادل وأولاده.

فبدل أن يستجمعوا القوى لطرد الصليبيين نهائياً من الأرض العربية فتنوا هذه القوى بالتناحر والتقاتل من أجل ضم الأراضي إلى ممالكهم وإقطاعياتهم، وأدى ذلك في مراحل عدة للاستعانة بالصليبيين ضد إخوتهم وأبناء عمومتهم.

وحسب ما أشارت إليه المصادر العربية التاريخية فإن المسلمين عادوا مع صلاح الدين وعمروا القدس بأبناء العروبة والإسلام وطردوا الصليبيين منها طرداً كاملاً.

في البداية نشب نزاع بين ولدي صلاح الدين، الأفضل علي والعزيز عثمان حول القدس، وقد كانت القدس تابعة للأفضل علي، وقد أهملت المدينة في هذا الوقت ثم تسلط عليها العزيز عثمان وأرسل إليها الأموال والغلال كما بعث بقوة عسكرية تقف إلى جانب والي القدس وكان اسمه عز الدين جديك، ومع تصاعد نفوذ عثمان تخلى الأفضل له عن هذه المدينة وذلك في سبيل التخلص من نفقات حمايتها.

لكن الوزراء والولاة والقادة الذين استقروا في القدس خافوا على نفوذهم فانقلبوا ضد العزيز عثمان، ونشبت المعارك بين جيوش الأخوين، ولم يلبث أن مات كلاهما فأصبحت مصر بيد الملك العادل ثم استولى على دمشق، وبدأ زحف الحملة الصليبية الرابعة فاضطر العادل إلى التراجع أمام الصليبيين ومن ثم الهرب إلى دمشق، لكنّ منيته وافته في الطريق، وقد خلفه ابنه المعظم عيسى على دمشق، وقد ارتأى أن يدمر أسوار القدس، وقام فعلاً بالتهديم فدمرت أسوار القدس ودفاعاتها وجاء هذا التهديم على عدة مراحل بدءاً من 616هـ.

في هذا الوقت كان الصليبيون قد احتلوا دمياط فعرض الكامل عليهم تسليمهم كل المناطق التي حررها أبوه صلاح الدين بما فيها مدينة القدس مقابل أن ينسحبوا من دمياط فرفض الصليبيون طلبه، ولما سمع القادة المسلمون عرضه اجتمعوا وقرروا خلعه، ولما سمع الكامل بذلك تراجع عن عرضه وطيب خاطر القادة.

ولتخفيف الضغط الصليبي عن مصر قام الملك المعظم في دمشق بمساعدة أخيه الكامل فراح يهاجم ممتلكات الصليبيين في فلسطين وتهديم الأسوار العملاقة في القدس وقد تحولت أسوار القدس وأبرجتها إلى أكوام من الحجارة باستثناء المسجد الأقصى وبسبب هذا التخريب وقعت في القدس ضجة كبيرة مثل يوم القيامة فخرجت النساء المخدرات والبنات والشيوخ والعجائز والشباب والصبيان إلى المسجد الأقصى والصخرة فقطعوا شعورهم ومزقوا ثيابهم، وبسبب هذا التهديم هرب الآلاف من المدينة خوفاً من الصليبيين الذين كانوا يتربصون مدينة القدس، وكانت ذكرى مذبحة القدس الأولى لا تفارق الناس.

وفي الجانب الآخر، وفي ألمانيا، كان الملك فريدريك يجهز لحملة صليبية جديدة وكانت القدس تحت قيادة ابن صلاح الدين المعظم عيسى، ولكي يؤكد عيسى اهتمامه بالقدس فقد زارها مع لفيف من العلماء، وقد قدم رسول الملك فريدريك ليتباحث مع عيسى حول القدس، فأغلظ عيسى على فريدريك وقال لرسوله: (قل لصاحبك ما أنا مثل غيري ما له عندي سوى السيف)، لكن الملك عيسى توفي بعد فترة وجيزة وخلا الجو لأخيه الملك الكامل حيث وقع مع فريدريك هدنة لمدة عشر سنوات نصت على تسليم القدس لفريدريك إضافة لكافة القرى الموجودة على الطريق من يافا إلى القدس.

بعد توقيع الاتفاق طلب الكامل من أهل القدس مغادرتها وتسليمها للصليبيين ولم يستمع لأصوات المعارضة، وحينها وقع في القدس الضجيج والبكاء وعظم ذلك على المسلمين وحزنوا لخروج القدس من أيديهم وأنكروا على الملك الكامل فعلته واستشنعوه منه ووقف أهل دمشق ضد هذه الفعل، ودخل فريدريك القدس ونصب نفسه ملكاً عليها في كنيسة القيامة ثم عاد إلى عكا بعد يومين.

وكان في هذه الأثناء ملك فرنسا يعد العدة لحملة صليبية جديدة، مما أثار حمية الناصر داود بن عيسى صاحب الكرك، فتحرك فجأة نحو القدس وأعاد تحريرها بعد أن اجتاح دفاعاتها وفرض على الصليبيين مغادرة المدينة وتسليمه قلعتها، وتجمعت قوات الصليبيين في عكا مرة أخرى، وكان قصدها مدينة دمشق، وقد أهملت مدينة القدس مرة أخرى.

لكن المأساة الأخرى التي وقعت للقدس أن الملك الصالح أيوب اتفق مع الصليبيين على هدنة كان من بنودها تسليم القدس وعدد من المناطق للصليبيين مثل قلعة الشقيف وصفد وجبل الطور واللجون وبيت لحم، وكان هذا يعني إضاعة كل ما حققه صلاح الدين في حروبه مع الفرنجة.

وقد استقر الإفرنج في القدس لبعض الوقت، لكن الملك الصالح أيوب تنبه لما فعله، فحشد جنوده من المماليك والخوارزمية وحرضهم على استعادة القدس .. فقاموا بمهاجمة القدس وقتل عدد كبير من الصليبيين وقد تم طردهم منها عام 1244م واستولى عليها جنود الملك الصالح، بينما كان الزحف المغولي يتقدم من شمال سوريا، ومن فرنسا تأتي حملة صليبية جديدة بقيادة لويس التاسع كان الهدف منها احتلال مصر.

وبسبب من ضغط الحملة الصليبية السابعة على الملك الصالح، قام بعرض هدنة على لويس التاسع تتضمن منحه القدس، والواقع أن الخوارزمية بعد فتحهم للقدس نشب خلاف بينهم وبين الملك الصالح أيوب فهجروه وعملوا لصالح غيره، لكن القدس بقيت بأيدي المسلمين، وأخذوا يعودون إليها للاستقرار وأعطى ثماره في العصر المملوكي، ولم تحتل القدس مرة أخرى من قبل الصليبيين.

ويموت الملك الصالح وتحدث معركة المنصورة، فينتصر المسلمون ويؤسر لويس التاسع وتبدأ مرحلة جديدة في مصر حيث ينتهي الحكم الأيوبي ليتسلم المماليك الحكم ليواجهوا التتار والصليبيين معاً في المرحلة الآتية.

من خلال ما تقدم، ندرك أن القدس عاشت في غربة خلال فترة حكم الصليبيين واحتلالهم لها، لكنها عندما حررت أخيراً من الصليبيين بدأت تشهد الاستقرار والأهمية السياسية إلى جانب أهميتها الدينية.

لقد جاء تحريرها الأخير دافعاً لقيام لويس التاسع بحملته الصليبية على مصر، وعلى الرغم من إطلاق سراحه ومكوثه في عكا فترة طويلة إلا أنه لم يفكر أن يهاجم القدس أو يحتلها.

ويهاجم المغول بلاد الشام فيحتلون المدن مدينة إثر أخرى، وقد زحفت جيوشهم المتجمعة في منطقة البقاع باتجاه فلسطين وهناك في عين جالوت جرت المعركة الفاصلة بين التتار والمسلمين، حيث انكسر المغول وردوا على أعقابهم، وسلمت مدينة القدس من الغزو.

وبدأت معالم مرحلة جديدة تبرز في ظل حكم المماليك، وقد قام سلاطين المماليك الأوائل بتصفية الوجود الصليبي في بلاد الشام وحررت عكا عام 1291م وبذلك انقضت مرحلة الحروب الصليبية.

ومما لا شك فيه أن تسليم القدس من قبل ملوك الأيوبيين بعد صلاح الدين يعتبر وصمة عار في تلك المرحلة، لكن الله سبحانه من على هذه المدينة المباركة بأن جعل سكانها يرابطون فيها ويدافعون عنها حتى تعاد مرة أخرى إلى وجهها الإسلامي المشرق، وهذا هو قدر أهلها كما حدث عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أرض رباط وأهلها مرابطون مجاهدون إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق