الجمعة، 29 يوليو 2016

جذور الاستبداد في الحياة السياسية العربية المعاصر......

جذور الاستبداد في الحياة السياسية العربية المعاصر......



إذا كانت "الديمقراطية" قد سودت فيها صفحات كثيرة بحثت جذورها وبذورها وشروط قيامها، فإن نقيضها "الاستبداد" لم يلق العناية نفسها، ولا البحث الذي يستحقه. فقد ظل الفكر العربي، عندما عاد إلى الاهتمام بالديمقراطية، يبحث في/عن الغائب! وأهمل الحاضر الجاثم فوق الصدور!، "ومع أن (الخلافة الراشدة) –التي لم تدم إلا نحوا من ثلاثين سنة– قد بقيت تتحدد في ضمير المسلمين، على مر العصور، بكونها (الحكم المبني على الشورى)، فإن (الملك العضوض) –الذي بلغ من العمر الآن 1380 سنة– لم يسبق أن عرف التعريف الذي يعطيه مضمونا يبقى حيا في ضمير الأجيال المتعاقبة". 1

الاستبداد ظاهرة نشأت وتراكمت في تاريخنا الممتد قروناً عديدة، ورغم المحاولات التي جرت هنا وهناك تحاول إصلاح نظام الحكم في بعض الأحيان، وتزيينه في معظم الأحيان؛ إلا أن الاستفراد بالحكم والسيطرة عليه وتوظيفه لخدمة مصالح فردية، مازال جاثما وظاهرا للعيان لا تخطئُه العين المجردة.
ظاهرة لا ينفع معها القول "إن الاستبداد لم يكن حكرا على تاريخ المسلمين"، أو "إن تاريخ الإسلام لم يكن سلسلة متوالية من أنظمة الجور"، أو القول "إن أبشع الاستبداد في تاريخنا إنما هو في هذه العصور التي غدت شرعية الحكم في العالم الإسلامي لا تستمد من الإسلام وأمته، بل من الولاء والتبعية للغرب.. " 2.



محاولتنا هذه التي تأتي تمهيداً وتشكل مدخلاً وخلفية لموضوع اللقاء السنوي الرابع عشر لمشروع دراسات ديمقراطية في البلدان العربية: الاستبداد والتغلب في نظم الحكم المعاصرة للدول العربية



والاستبداد باعتباره من ظواهر الاجتماع السياسي لا يولد اعتباطا ولا يتراكم جزافا، وإنما تحكمه مجموعة معقدة ومتشابكة من الأسباب والشروط والظروف، يتداخل فيه الذاتي والموضوعي، والداخلي والخارجي، والاقتصادي والثقافي. فهو ثمرة مجموعة مركبة من القوى والبواعث المختلفة في طبيعتها، المتفاوتة في درجة تأثيرها، المتشكلة بظروف المكان والزمان.

والنظر في الاستبداد وبديله "الديمقراطية" في وطننا العربي، لا بد أن يتجاوز التقولب وفق نموذج مطلق، وأن ينظر إليه على أساس النسبية التاريخية؛ فعلى الرغم من الاتجاه العام الناظم لحركته عبر التاريخ، فإن تجلياته التفصيلية المتنوعة مكانا وزمانا في حاجة إلى بحث عميق يحيط بها، ويسبر غورها. ونفس الشيء يقال عن بديله.

إن النموذج الوحيد لم يوجد ولن يوجد، لأن الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية تختلف من مكان إلى آخر، وتتبدل من زمان إلى آخر. والمثال والنموذج الإنساني هو دائما أمام الإنسان يتجه صوبه ولا يصل إليه. ونحن إذ نستبعد النموذج المطلق فإننا لا نرفض التجربة الإنسانية المتعددة مكاناً والمتنوعة زماناً، أيا كان مصدرها، فالحكمة ضالة المؤمن، نقتدي بها، ونقتبس منها، ونبدل ونوائم ونعدل، ونضيف إليها.

ومحاولتنا هذه التي تأتي تمهيداً وتشكل مدخلاً وخلفية لموضوع اللقاء السنوي الرابع عشر لمشروع دراسات ديمقراطية في البلدان العربية "الاستبداد والتغلب في نظم الحكم المعاصرة للدول العربية"، تكون قد أدت غرضها لو تمكنت من التنبيه إلى بعض الإجابة عن السؤال الكبير: ما العوامل التي ساعدت ومكنت الاستبداد من أن يكون هو النظام السائد لإدارة العلاقة بين الحكام والمحكومين في تاريخنا العربي الممتد إلى الآن؟ وذلك من أجل تنمية فهم مشترك أفضل يساعد العرب والمسلمين على تفكيك الاستبداد وإزالته.

ونحن في سعينا هذا سوف نقوم في هذه الورقة التمهيدية بعرض مختصر لأهم المفاهيم التي ارتبطت بالاستبداد وصولاً إلى تحديد مفهوم له كما استخدمناه في هذه الورقة، ثم بيان أهم أشكال ترويجه وتسويغه، ونختم الورقة بعرض مختصر لبعض محاولات تفسيره، وأهم وسائل تكريسه، قاصدين بذلك ضرب المثال وليس الإحاطة، فهذه تتجاوز حدود الورقة، منبهين من خلال هذا العرض إلى تعقد ظاهرة الاستبداد وتاريخيتها.

1 - ما الاستبداد؟

1 – 1: الاستبداد وأشباهه


الاستبداد يحول العلاقات بين أفراد المجتمع من علاقات تحكمها وتنظمها قوة الحق إلى علاقات يضبطها محض القوة



لقد عُرِِف الاستفراد بالسلطة والتحكم في رقاب الناس والاستئثار بخيرات مجتمعهم، في تاريخه الطويل بأسماء مختلفة ليس الاستبداد 3 إلا واحدا منها. وربما عُد مفهوم الطغيان من أقدم المفاهيم التي اختلطت 4 بمفهوم الاستبداد، حيث استُخدما للإشارة إلى أنظمة الحكم التي تسرف في استخدام القوة في إدارة السلطة، والسيطرة السياسية التامة بواسطة حاكم فرد، أو باعتبارهما "مترادفين غامضين للحكم القسري التحكمي المتعارضين مع الحرية السياسية والحكومة الدستورية وحكم القانون" 5، وإلى أرسطو يعود التمييز بين هذين المفهومين 6، حيث اعتبر الطغيان حالة مرضية بالنسبة للشعب اليوناني، أما الاستبداد فهو حالة طبيعية للآسيويين. لقد استخدم أرسطو مفهوم الطغيان ليدل به على الوجه الفاسد للحكم الملكي "فالطغيان ملوكية لا موضوع لها إلا المنفعة الشخصية للملك" 7 و"هو حكومة فرد يلي على وجه السيادة أمر الجماعة السياسية" 8. أو بعبارة أخرى "الطغيان ليس شيئا آخر إلا الملوكية المطلقة التي تحكم، وهي بمعزل عن كل مسؤولية وفي منفعة السيد وحده، رعاياه يساوونه وأحسن منه، دون أن يعنى شيئا ما بمنافعهم الشخصية. من أجل ذلك كان حكومة عنف لأنه لا يوجد قلب حر يحتمل بصبر مثل هذا السلطان." 9 فالحكم الطغياني -بحسب أرسطو- هو حكم فردي يقوم على العنف ويستهدف مصلحة الطاغية الخاصة.

وقد ظل مفهوم الطغيان هو السائد في الفكر السياسي الغربي حتى جاء مونتسكيو 10 وأبرز مفهوم الاستبداد، "ولكن الشائع استعمال اللفظين كمترادفين لتلك الصورة القاسية من الحكم الفردي.. ويطلق اصطلاح الطغيان ومقابله على الدول البوليسية برغم وجود قانون فيها، لأن السيادة ليست للقانون بل لإرادة الحاكم.." 11. بالإضافة إلى ذلك، يميز البعض بين مفهوم الاستبداد ومفهوم الطغيان من زاوية صفتي "القهر والجبر" اللتين يشتمل عليهما مفهوم الطغيان، في حين أن الاستبداد لا يتضمنهما في معناه بالضرورة، "فالاستبداد من حيث هو تصرف غير مقيد وتحكمي في شؤون الجماعة السياسية، يبرز إرادة الحاكم وهواه، ولا يعني بالضرورة أن تصرف الحاكم ضاغط بعنف على المحكومين، غير مبال بقواعد العدل والإنصاف" 12، كما يفرق آخر بينهما بالقول إن المستبد "من تفرد برأيه واستقل به، فقد يكون مصلحا يريد الخير ويأتيه، أما الطاغية فيستبد طبعا مسرفا في المعاصي والظلم، وقد يلجأ في طغيانه إلى اتخاذ القوانين والشرائع ستراً يتستر به، فيتمكن مما يطمح إليه من الجور، والظلم، والفتك برعيته، وهضم حقوقها. وقد يكيف فظائعه بالعدل فيكون أشر الطغاة، وأشدهم بطشاً بمن تناولتهم سلطته.." 13.

وفي العصر الحديث أُستخدم مفهوم الدكتاتورية ليدل "على حالة سياسية معينة، تصبح فيها جميع السلطات بيد شخص واحد، يمارسها حسب مشيئته" 14، وهناك من عبر عن الاستبداد بمفهوم التسلطية الذي هو مفهوم حديث نشأ مع الدولة الحديثة وامتداداتها البيروقراطية "بحيث تخترق المجتمع المدني بالكامل وتجعله امتداداً لسلطتها، وتحقق بذلك الاحتكار الفعّال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع" 15. ومن المفاهيم الحديثة التي تفيد معنى الاستبداد مفهوم الشمولية 16، وهو يتفق مع المفاهيم السابقة في سيطرة فرد أو مجموعة أفراد على الحكم، ويختلف عنها في أنه يسعى إلى صهر أفراد المجتمع في بوتقة أيديولوجية واحدة.

1–2: مفهوم الاستبداد


الفعل المؤسس للاستبداد هو فعل الاستيلاء، أي انتزاع الحكم والقبض عليه من دون تفويض من المجتمع أو ضد إرادته


إن التتبع التاريخي لمفهوم الاستبداد وأمثاله، لا تعنينا كثيراً بقدر ما يهمنا تحديد هذ المفهوم كما نستخدمه في هذه الورقة؛ فالاستبداد كما تشير معاجم اللغة 17 هو الانفراد. استبد به: انفرد به. واستبد الأمر بفلان: غلبه فلم يقدر على ضبطه. واستبد بأميره: غلب على أمره فلا يسمع إلا منه. استبد فلان بكذا: أي انفرد به. وفي حديث علي رضوان الله عليه: كنا نرى في هذا الأمر حقا فاستبددتم علينا. يقال استبد بالأمر، يستبد به استبداداً، إذا انفرد به دون غيره. واستبد برأيه: انفرد به. "واستبد الأمير بالسلطة أخذها لنفسه ولم يشارك فيها أحداً، ولم يستشر، فهو مستبد" 18.

وعندما نصف الاستبداد بـ "السياسي"، فإننا نعني به الانفراد بإدارة شؤون المجتمع السياسي من قبل فرد أو مجموعة أفراد دون بقية المواطنين. ويكتسب الاستبداد معناه السيئ في النفس ليس من صفة الانفراد وحدها، ذلك أن جذر الكلمة لا يفيد أي معنى سلبي أو غير سلبي، بل يستفيده من كونه اغتصابا 19 واحتكاراً لحق مشترك مع آخرين. فالاستبداد السياسي يفترض ابتداء وجود علاقة بين طرفين متساوين في الحقوق والواجبات العامة، ينفرد أحدهما (بالحقوق المشتركة= إدارة شؤون المجتمع السياسي) دون الآخر. فهو فعل يقوم على الاستحواذ والاستيلاء والسيطرة على "شيء" هو حق مشترك مع الغير؛ فالمستبد يستولي على "الشيء" دون وجه حق. فالسمة الجوهرية في الاستبداد هي "الانفراد دون وجه حق". 20

ونحن لا نربط بين الاستبداد وبين ذلك الضرب من الحكم الذي لا يخضع الحاكم فيه للقانون، بحيث يصبح القانون هو المعيار الذي يُعتمد عليه للتمييز بين أنظمة الحكم الاستبدادية وغيرها من نظم الحكم؛ "فإذا كان الحاكم لا يلتزم بقانون، وإنما قوله وفعله هما بمثابة القانون فهو حكم استبدادي" 21. بل نرى أن صفة الاستبداد غير مرتبطة فقط بقانونية الفعل، أي بكون الفعل يسير وفقاً للقانون أو يمضي مخالفاً له، ذلك أن تمييز فعل الاستبداد من غيره لا يكفي فيه مجرد النظر فيما إذا كانت تصرفات الحاكم تسير على مقتضى القانون أم لا، فنقول إن الحاكم المستبد هو الذي لا يلتزم بالقانون؛ إن الالتزام بالقانون لا يكفي وحده لنفي صفة الاستبداد عن الحكم، فأغلب "المستبدين اليوم يقهرون الناس ويستعبدونهم استعبادا قانونيا، تنفيذاً لحكم أصدره قضاة، وتطبيقاً لقانون وضعه مشرعون، في نطاق دستور موضوع" 22. إن نظرتنا لفعل الاستبداد يجب أن لا تتوقف عند قانونية فعل الحاكم رغم الأهمية الكبيرة للقانون وسيادته، بل لا بد لها أن تفحص بصورة أعمق في القانون ذاته، فالنظام القانوني الذي يسمح لفرد أو لمجموعة من الأفراد أن ينفردوا بإدارة شؤون المجتمع –بأي وسيلة– دون بقية المواطنين هو حكم استبدادي، ولو جاء هذا الانفراد باستفتاء شعبي.

بعبارة أخرى، يجب أن ينصب تفكيرنا على ما هو جوهري في فعل الاستبداد. فإذا كان الاستبداد –كما سبقت الإشارة- يفيد معنى الانفراد، فإنه يتضمن بدون شك معنى نفي الآخر، وعدم الاعتراف به مشاركا في الحق العام، فهو اعتداء واغتصاب وطغيان. فالاستبداد السياسي في المقام الأول تقويض لمبدأ المساواة التي لا تقوم حياة اجتماعية سياسية سليمة بدونه. فعندما يستبد فرد أو مجموعة أفراد بالحكم دون بقية أفراد الشعب، فإن فعلهم هذا عبارة عن استبعاد الشعب من أن يكون مشاركا في الحكم الذي هو حقه المستمد من مبدأ المساواة.

وما ينبغي أن نلاحظه هو إن الطغيان محايث لفعل الاستبداد، فهو ليس شيئا آخرا منفصلا عنه، ذلك أن معنى الطغيان هو مجاوزة القَدْر أو الحد، والاستبداد السياسي ابتداء هو تجاوز للحد -الحد الفاصل بين الخاص والعام- فهو طغيان. قد نميز بين فعل استبدادي وآخر، لكننا لا يمكن أن ننفي عنه صفة الطغيان؛ فليس العنف أو القهر أو عدمهما هما اللذان يعبران عن طبيعة الاستبداد فيجعلان من فعل ما طغيانا، وانعدامها يجعلان منه استبدادا. العنف فيما نرى لا يغير جوهر الاستبداد السياسي، أي كونه طغيانا، فهذه الصفة -الطغيان- ملازمة لفعل الاستبداد سواء تم بالترغيب أو بالترهيب، واستخدام الجزرة أم العصا. فالعنف أو القهر والجبر لا يعبر عن طبيعة فعل الاستبداد، بل يشير إلى الوسيلة التي ينشئ بها المستبد فعله، والعنف أيضاً أشكال ودرجات؛ فأيها نعده طغياناً وأيها لا نعده؟

بعبارة أخرى، إذا كانت السلطة -ونعني هنا السلطة السياسية- تفيد "الحق في الأمر" 23، وهذا الحق نابع ومؤسس على علاقة تراض وقبول بين طرفي الأمر، أي بين الآمر والمأمور، فإن الاستبداد هو تجريد الأمر من الحق الذي يؤسسه ومن ثم تحويل السلطة إلى سيطرة، وعلاقة الأمر والطاعة، إلى علاقة إكراه وإذعان. فالاستبداد يحول العلاقات بين أفراد المجتمع من علاقات تحكمها وتنظمها قوة الحق إلى علاقات يضبطها محض القوة. والاستبداد باعتباره علاقة قوة مجردة من كل حق يقوم في مبدئه على الغلبة والاستيلاء. فالفعل المؤسس للاستبداد هو فعل الاستيلاء، أي "انتزاع الحكم والقبض عليه من دون تفويض من المجتمع أو ضد إرادته" 24 .

2 - تسويغ الاستبداد

إذا كان الاستيلاء هو المنشئ الأول لنظام الاستبداد، فإن أي نظام سياسي لا يعيش بدون "شرعية" حقيقية أو مصطنعة تسنده وتمده بالحياة وتضمن له القبول بين أفراد المجتمع، فالحكم الاستبدادي لا يمكنه الاستمرار في الحياة بمجرد الاعتماد على محض القوة والجبروت؛ ذلك أنه إذا كانت القوة لازمة في كل الأحيان لممارسة السلطة، إلا أنها وحدها لا تكفي لديمومة هذه الممارسة. إن إقامة نظام يعتمد على الإكراه لإدامة السيطرة عملية لا يحتملها أي نظام سياسي مهما كانت الوسائل التي يمتلكها؛ لذا أصبح الاستبداد في حاجة إلى تسويغ يمنحه الشرعية أي قبول ورضا الناس. فمن النادر أن يقدم الطغاة والمستبدون أنفسهم عارية من كل صفة يسوقون بها طغيانهم ويسوغون بها استبدادهم، ولو وصل بهم الأمر إلى ادعاء الربوبية، والقول: "أنا ربكم الأعلى".

وإذا كان بعض المستبدين قد لجؤوا إلى "الدين" لتسويغ استبدادهم، فإن البعض الآخر قد راغ إلى ميدان (الفضيلة: العدل– الرشد- الاستنارة- العلم) يستمد منه العون. في حين اتجه بعض آخر إلى حاجة الناس إلى الأمن يؤسسون عليه سلطتهم المطلقة؛ كما لجأ آخرون إلى الظروف يتذرعون بها، ذلك أن الاستبداد لا يمكن "أن يظهر عاريا وأن يبرز نفسه بطبيعة الحال من حيث هو، أي من حيث هو استبداد فحسب، ومن غير استنارة وعدل وعقلانية، وهو لذلك، وربما لهذا السبب بالذات، لا بد له من مشروع يزوده بأسباب الجاذبية وبسحر التسويغ. وهو في الحقيقة مشروع غالبا ما يظهر (ولا نريد أن نقول دائما) على أنه عقلاني، وضروري، بل المشروع الممكن الوحيد" 25.



2–1 : الدين

يعتبر اادين الالتجاء إلى قوة فوق طبيعية لإضفاء الشرعية على سلطة الحكم، محاولة تضرب بجذورها في عمق التاريخ الإنساني، ذلك أن "الدين" يحتل مكانة جوهرية في شخصية كل إنسان، فهو مكون أساسي محايث لوجوده. والدين منظورا له من زاوية: (المقدس) و(الغيبي) و(الفوق طبيعي) يحمل شحنة انفعالية كبيرة تؤثر في، وتوجه وتضبط سلوك الأفراد في المجتمع، مما يجعله أداة مناسبة -وأحياناً الأداة- استخدم ولم يزل، في صوغ تفكير وسلوك الأفراد وتوجيههم نحو طاعة قوى السيطرة والاستبداد. بل لقد "كانت العلاقة المتميزة بين السلطة والدين.. العنصر الرئيسي بل الوحيد في إضفاء الشرعية على القوة القهرية التي كانت تقوم عليها الدولة كعلاقة مضافة ومفروضة على الجماعات الأهلية المشتتة والمتنوعة. وكانت كذلك العنصر الحاسم في توليد الاحترام والتقديس للقانون، الذي يفترض استخدام القوة" 26. ومن الأقوال البليغة لأهمية "الدين" للسلطة السياسية ما ورد في عهد أردشير 27، قوله:

"واعلموا أن الملك والدين أخوان توأمان، لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أس الملك وعماده، ثم صار الملك بعدُ حارس الدين، فلا بد للملك من أسه ولا بد للدين من حارسه، لأن ما لا حارس له ضائع وما لا أس له مهدوم، وإن رأس ما أخافه عليكم مبادرة السفلة إياكم أي دراسة الدين وتلاوته والتفقه فيه، فتحملكم الثقة بقوة السلطان على التهاون به، فتحدث رياسات مُستسرات في من قد وترتم وجفوتم، وحرمتم وأخفتم وصغرتم، من سفلة الناس والرعية وحشو العامة. واعلموا أنه لا يجتمع رئيس في الدين مُسِر ورئيس في الملك مُعلَن، في مملكة واحدة قط، إلا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك، لأن الدين أس والملك عماد، وصاحب الأس أولى بجميع البنيان من صاحب العماد".

ونحن في عرضنا لمسوغات الاستبداد يكفينا مثلاً أن نشير إلى تجربتين استخدمتا "الدين" مسوغاً للاستئثار بالسلطة والاستبداد بها: التجربة الغربية كما بدت في تطور العلاقة بين الكنيسة وبين الإمبراطورية الرومانية في مرحلة أولى، وبينها وبين الملوك في مرحلة ثانية. والتجربة العربية الإسلامية.

2–1– 1: التجربة الغربية المسيحية:

على الرغم من قول (المسيح) :"ردوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، إلا أن الصراع بين الكنيسة والإمبراطوريات والممالك الغربية دار حول "مملكة الأرض". وفي الوقت الذي تم فيه اللجوء –نظرياً وفكريا- إلى "الله كمفهوم مقدس" طالبين منه العون والمدد، كانت السيادة على مملكة الأرض تحكمها موازين القوة، وهي التي كان لها القول الفصل. إن أحداث هذا الصراع امتدت قروناً طويلة سالت فيها دماء غزيرة، اندثرت فيها إمبراطوريات، ونشأت فيها ممالك. ونحن في هذا المدخل التمهيدي لا يعنينا كثيرا أن نؤرخ لهذا الصراع، بقدر ما يعنينا أن نبرز ما استعان به المتصارعون، أي "المقدس" لتسويغ سيطرتهم واستبدادهم بالسلطة، أو سعيهم نحو ذلك، أو لتسويغ طاعة السلطة. ويعتبر قول القديس بولس 28 من أهم الأقوال المرجعية في الفكر الكنسي الذي يُرجع فيها السلطة إلى الله:

"ليخضع كل واحد للسلطات المُنَصَّبة، فإنه لا سلطان إلا من الله. والسلطات الكائنة إنما رتبها الله. ومن يقاوم السلطان إذن إنما يعاند ترتيب الله. والمعاندون يجلبون الدينونة على أنفسهم؛ لأن الخوف من الحكام لا يكون عن العمل الصالح بل عن الشرير. أفتبتغي أن لا تخاف من السلطان؟ فافعل الخير فتكون لديه ممدوحاً؛ لأنه خادم الله لك للخير. وأما إن فعلت الشر فخف؛ لأنه لا يتقلد السيف عبثا؛ فإنه خادم الله، الذي ينتقم وينفذ الغضب على من يفعل الشر، فلذلك يلزم الخضوع لا خوفاً من الغضب فقط، بل من أجل الضمير أيضا. ومن أجل هذا أيضاً توفون الجزية، لأن [الحكام] هم خدام الله الذين همهم المواظبة على الخدمة. فأدوا إذن للجميع حقوقهم: الجزية لمن له الجزية، والجباية لمن له الجباية، والمهابة لمن له المهابة، والكرامة لمن له الكرامة."

هكذا عندما أراد القديس بولص أن يوجه أتباع الدين المسيحي إلى طاعة السلطات الإمبراطورية في دفع الجزية، لم يبحث عن مصدر إنساني (اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو أخلاقي) يسوغ به دعوته تلك، بل اتجه إلى "الله" مصدر كل سلطة. وعليه أصبحت مقاومة السلطان مقاومة لله، وأضحى الخير والشر يتحددان على هذا الأساس، طاعة السلطان أو مخالفته.

ولكن بعد أن تمت السيادة للكنيسة وأصبح السلطان هو البابا، وبعد أن كانت كل سلطة تمجد حتى من قبل من هم أفضل منها على حد تعبير أغسطين، أضحت هذه السلطة (سلطة الملوك) موضع تساؤل: "هل من الممكن أن لا يخضع المقام الذي اخترعه البشر، حتى البشر الذين يجهلون الله، للمقام الذي أسسته عناية الله القوي من أجل عزتها؟ من يستطيع أن ينكر بأن كهان المسيح ليسوا آباء وأسياد الملوك والأمراء وكل المؤمنين؟.. يكفي ولو قليل من العلم لإدراك أن الكهان هم أعلى من الملوك.. 29.

وأصبح البابا قادراً على أن ينادي:
"أيها السعيد بطرس، يا أمير الرسل.. إني بقوة ثقتك.. وبسلطتك ونفوذك، أمنع الملك هنري.. الذي وقف بغرور أحمق ضد كنيستك، من حكم مملكة ألمانيا وإيطاليا. وأُحل كل المسيحيين من اليمين الذي أدوه له، وأمنع أي شخص كان من الاعتراف به كملك. إن من المناسب بالفعل أن يفقد، ذاك الذي يريد أن ينقص من شرف كنيستك، الشرف الذي يبدو أنه يمتلكه" 30.

ويتبع هذا أن السلطة الدنيوية ليس لها إلا مصدر واحد هو الكنيسة. تقيمها بناء على أمر الله، ولا تستمد شرعيتها إلا منها. "إن السلطة الروحية يجب أن تؤسس السلطة الزمنية لكي توجد، وأن تحاكمها إن أساءت السلوك". 31

ويحدثنا التاريخ أنه عندما حاول فريدريك الثاني المطالبة لنفسه بالسلطة التامة، أجابه البابا إينوسان الرابع (1243–1254) بما يعرف بالبراءة البابوية المأثورة التي تنص على أن نائب المسيح المؤسس على الأرض يتولى مثل موكله الكلي كامل السلطة من أجل ربط وحل ليس فقط أي شخص كان وإنما أي شيء كان. وإنه ليس هناك شيء يمكنه أن يحد من هذا الكمال، وأن سلطة الحكومة الزمنية لا يمكن أن تمارس خارج الكنيسة "لأنه ليس هناك من سلطة أسسها الله خارجها". "إن نائب المسيح تلقى سلطة ممارسة قضائه، بواسطة المفتاح الأول على الأرض بالنسبة للأمور الزمنية، وبواسطة المفتاح الثاني في السماء بالنسبة للأمور الروحية. 32
وتدور الدوائر على الكنيسة وتفقد قدرتها على الربط والحل، فيعلن فيليب الجميل 33 أن الحكم في مملكته من اختصاصه وحده فقط، ولا علاقة لأي شخص آخر به أو بها، ولا يعترف بأي أحد أعلى منه في هذا المضمار. ولن يجد فيليب الجميل أسهل من أن يؤسس شرعية حكمه، من نفس الأساس البابوي، من الله وحده، وهو بذلك يرد على الحق الإلهي البابوي، حقاً إلهياً ملكياً. 34 إن الملك يستمد سلطته مباشرة من الله. وهكذا على أساس هذا الحق المزعوم قامت الملكية المطلقة، واستبعدت كأساس لشرعية الحكم، ليس الكنيسة، بل والشعب.

2–1– 2: التجربة العربية الإسلامية

ولو تركنا أوروبا وعدنا إلى الشرق العربي مكانا، والعصر الأموي زمانا، فسوف نلتقي بأول حكام بني أمية معاوية بن أبي سفيان. هذا الأخير على الرغم من استيلائه على السلطة بالقوة، أو بحسب عبارته ".. فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي، ولكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة.. " 35، إلا أنه وجد أن السيف وحده لا يكفي لضمان استمرار الطاعة، بل لابد له من غطاء يضفي شرعية على النظام، ويوفر له القوة والسند، ذلك أن الاعتماد على محض السيف لا يجدي في صراع ليس من أدواته السيف بل يشهر سلاح "الفكر"؛ عندما تكون قوى المعارضة لا ترفع السيف، وإنما تحارب بواسطة "الكلام"؛ لهذا عندما أصبح إيمان بني أمية موضع سؤال، كان جوابهم -بني أمية- من نفس الجنس، وأول جواب قدموه هو "الجبر" 36. فلقد لجأت الدولة الأموية إلى "سيف الكلام" إلى "أيديولوجيا الجبر" تسوغ بها استبدادها بالسلطة.

ويقدم لنا كتاب الوليد إلى الأمصار الذي يعلن فيه عقد البيعة لابنيه عثمان والحكم سنة 125 هـ نصاً نموذجيا من نصوص الأيديولوجيا الجبرية الأموية ينطلق فيه من أن الله

اختار الإسلام ديناً لنفسه.. واصطفى الملائكة رسلاً.. وانتهت كرامة الله في نبوته إلى محمد (ص).. ثم استخلف خلفاءه على منهاج نبوته.. فتتابع خلفاء الله على ما أورثهم الله عليه من أمر أنبيائه واستخلفهم عليه منه لا يتعرض لحقهم أحد إلا صرعه ولا يفارق جماعتهم أحد إلا أهلكه، ولا يستخف بولايتهم ويتهم قضاء الله فيهم أحد إلا أمكنهم منه وسلطهم عليه وجعله موعظة ونكالاً لغيره. 37


وقبل ذلك نجد في الرسالة 38 التي بعثها الخليفة عبد الملك بن مروان (65–86 هـ) إلى الحسن البصري، وفي الرسالة التي رد بها الحسن البصري عليه، تعبيراً واضحاً عن "الحرب بالكلام" بين الدولة الأموية التي تتبنى "الجبر" وقوى المعارضة التي تتبنى "القدر".
وقد أفصح أبو جعفر المنصور عن هذه الدعوة بعبارات صريحة في خطبة له يوم عرفات قال فيها 39:

أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه. وقد جعلني الله عليه قفلاً إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني. فارغبوا إلى الله أيها الناس وسلوه في هذا اليوم الشريف.. أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم إنه سميع مجيب.


2 – 2 : الأمن


الاحتكام إلى القوة المجردة من كل معيار أخلاقي أو قانوني تمنع كل سلام وتهدم كل استقرار إنها حالة حرب، الكل في حرب مع الكل


بالإضافة إلى الدين أو بدونه، وجد المستبدون في الحاجة إلى الأمن ما يسوغون به استبدادهم، فالأمن والسلام والاستقرار حاجات أساسية للإنسان وشروط أولية لقيام الحياة الاجتماعية واستمرارها. وربما عدت من العلامات البارزة في تاريخنا السياسي. "فسلطان غشوم خير من فتنة تدوم"، ويعد الفيلسوف الإنجليزي هوبز هو المنظر للملكية المطلقة انطلاقاً من الحاجة إلى الأمن.

ينطلق هوبز من أن الإنسان منظوراً إليه في حالته الفردية الخالصة ذو حق طبيعي في أن يستخدم قواه الطبيعية من أجل إشباع رغباته الطبيعية. وحيث أن الإنسان الفرد الوحيد غير موجود، لذا وجد الإنسان أن ممارسته لقدراته وقواه الطبيعية تُقابل وتُواجه برغبات أفراد آخرين يمارسون نفس القوى والقدرات. إن حقه الطبيعي يقابله ويواجهه حق طبيعي آخر. إن كل فرد –هكذا يقرر هوبز– يواجه في كل فرد منافسا وعدواً له، والكل في حالة حرب مع الكل. والقانون السائد في هذه الحالة هو قانون القوة والحيلة. القوة المحض هي التي تحكم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، والحق –إذا جاز أن نستخدم هذه الكلمة– هو حق الأقوى. الأقوى بقواه المادية أو الأقوى بمكره ودهائه وحيلته.
وواضح أن الاحتكام إلى القوة المجردة من كل معيار أخلاقي أو قانوني تمنع كل سلام وتهدم كل استقرار. إنها حالة حرب، الكل في حرب مع الكل. حرب تزرع الخوف، وتجتث كل استقرار، وتعصف بكل أمن، وتحول بين الناس وبين "إشباع رغباتهم الطبيعية"؛ حرب" تمنع كل زراعة، وكل صناعة، وكل ملاحة، وكل أدب، وكل فن وكل مجتمع: إن ما يسود في هذه الحالة، وهذا هو الأسوأ في كل شيء هو الخوف والخطر الدائم بحدوث موت عنيف. ولهذا فإن حياة الإنسان تتميز بالعزلة والكد والتعب، وتكون شبه حيوانية وقصيرة". 40

إن "حالة الطبيعة" تلك لا يمكن أن تستمر، ذلك أنه بالإضافة إلى ما لدى كل إنسان
من قوى وغرائز تدفعه إلى إشباع رغباته الطبيعية، فإن لديه غريزة أعظم من تلك أعني غريزة الحياة والخوف من الموت تكبح جماحه وتحضه على إيثار السلام، وكل إنسان فوق ذلك أو مع ذلك لديه قوة العقل التي تجعله يوازن ويقارن ويحسب مصالحه، وتدفعه إلى تحقيق رغباته تلك بوسائل وطرق أقل عنفاً.

وقد تمخضت عقولهم عن خلق شخص ثالث به وحده يمكنهم الانتقال من حال الحرب إلى حال السلام، من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع، "إنه عبارة عن جمهورهم المتحد في شخص واحد يمثلهم جميعاً. لقد أجاز كل واحد منهم له استعمال قوة وثروات الجميع (بالشكل الذي سيراه ملائماً) من أجل تأمين سلامهم في الداخل والدفاع المشترك عنهم ضد أعداء الخارج" 41، فرد "يمتلك هو فقط من الآن فصاعداً، إرادة مطلقة" 42 بواسطتها يستتب الأمن ويتحقق النظام، ويكف الإنسان أن يكون ذئبا.
السلطة المطلقة في كل شأن هي التي تمنح المجتمع مقومات الحياة، لذا "فإن السيد هو الذي يعود له، من الآن فصاعداً، أن يقرر قطعاً ما هو الخير والشر، والعدل والظلم، ومالك ومالي، وكذلك أن يقوم بدور الشرطة الفكرية أي المتعلقة بالآراء والمذاهب وكذلك بدور الشرطة المسماة بالروحية، وذلك بالقدر الذي تتطلب فيه حاجات السلام أن يمتلك كل هذه الحقوق. وباختصار فإن السيد بهذا المقدار هو سيد القانون والملكية والآراء والمذاهب والدين أيضا". 43

2 – 3 : المستبد العالم

من النادر أن يقدم الطغاة والمستبدون أنفسهم عارية من كل صفة يسوقون بها طغيانهم ويسوغون بها استبدادهم. وتعتبر ثنائية علم الحاكم/ جهل المحكوم من أهم الأقنعة التي استخدمت لتغطية الاستبداد.

وتتلخص فكرة "المستبد العالم" في أن أفراد المجتمع العاديين "يفتقرون الشروط والمواصفات الضرورية لممارسة الحكم" 44 إنهم ليس فقط لا يعرفون مصالحهم، وإنما غير قادرين على معرفتها، والنتيجة هي أن هؤلاء الناس لا يستطيعون حكم أنفسهم، لذا وجب أن يقوم بالحكم من يملك العلم والمعرفة المناسبة لتولي الحكم؛ ومن يملك ذلك قلة من أفراد المجتمع. وتُسَوَّق هذه الفكرة من خلال عملية الحجاج التالية -التي صاغها روبرت دال على لسان أرستقراطي في حوار افتراضي بينه وبين ديمقراطي-: فتبدأ بطرح الفكرة الأساسية التي تستند إليها حجة المستبد العالم وهي "أن عملية ممارسة الحكم في دولة معينة يجب أن تقتصر على المؤهلين للقيام بالحكم فقط" 45 وليس أدل على أن الحكم يجب أن يعهد به إلى القادرين عليه المؤهلين له من أن جميع دول العالم بما فيها الدول الديمقراطية تحرم الأطفال" من حق التمتع بالمواطنة التامة" 46 استناداً إلى كونهم غير قادرين على معرفة مصالحهم دع عنك مصالح الغير؛ أي غير مؤهلين. "إن استثناءهم يثبت بشكل لا يقبل الشك.. أن الحكم يجب أن يكون مقصوراً على المؤهلين لممارسته فقط" 47 وبنفس المنطق إذا كان أفراد المجتمع العاديين لا يمتلكون المؤهلات التي تمكنهم من ممارسة الحكم، وجب استبعادهم من ممارسة ذلك، شأنهم في ذلك شأن الأطفال.

والثابت –هكذا تبنى الحجة– هو أن "الكثيرين من الناس يفتقرون على ما يبدو إلى فهم الكثير من احتياجاتهم ومصالحهم الأساسية" والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى "لننظر إلى ما يلي: على مدى ثلاثة قرون تعاون الأميركيون بشكل فاعل وجاد في تدمير بيئتهم الطبيعية، غير آبهين بشكل عام بأهميتها لخيرهم ورفاهيتهم.. [إن هذا دليل قاطع على] أن الكثيرين من الأفراد –البالغين لا الأطفال– غير قادرين على اكتساب فهم أولي لاحتياجاتهم ومصالحهم، أو أنهم غير راغبين في ذلك أساسا. فإذا ما عجزوا عن فهم مصالحهم الشخصية ألا يصبحون عاجزين عن حكم أنفسهم شأنهم بذلك شأن الأطفال؟ وإذا كانوا عاجزين عن حكم أنفسهم فإنهم بالتأكيد حتى أقل كفاءة لحكم غيرهم." 48 وهكذا نصل إلى نهاية الحجة التي تؤكد أن ممارسة الحكم ليست إلا نشاطا مختصاً مثل غيره من النشاطات المتخصصة في المجتمع. فنحن بحاجة إلى العديد من الاختصاصات المهنية، يقوم بها متخصصون مختلفون، من السباك إلى العالم الفيزيائي. وهي مهن في حاجة إلى تدريب واحتراف بحيث يصعب على الكثير من أفراد المجتمع الحصول على الوقت الكافي "لاكتساب الكفايتين الأخلاقية والوسيلية الكافيتين لتأهيلهم للاضطلاع بالحكم" 49.

2 – 4 : المستبد المعلم


عندما ينضح فكر الشعب وتتأصل فيه الممارسة الديمقراطية ويصبح راشدا قادراً على المبادرة والدفاع عن مصالحه، إذ ذاك نكون وصلنا إلى غايتنا


ولن يعدم المستبدون مسوغات يغطون بها استبدادهم، فإذا كان "المستبد العالم" احتج بالعلم والتخصص، فإن "المستبد المعلم" 50 يحتج بجهل الشعب وتخلفه وأميته، ويستخدمه غربالاً يستر به استبداده. لنستمع إليه يخاطب شعبه:
إن ديمقراطية حقيقية وفق أعرق الديمقراطيات في العالم هي ما نطمح إليه، ونبذل كل طاقتنا من أجله، ورؤيته حقيقة واقعة في مجتمعنا الحديث. لكننا ونحن نضع تلك الغاية العظيمة نصب أعيننا، ندرك الواقع الذي نعيش فيه والإرث الثقيل المرهق الذي نحمله على أكتافنا؛ فنحن نعيش في مجتمع تراكم فيه حكم السلاطين واستبدادهم وطغيانهم، وننظر إلى مواطنينا فنراهم غارقين في سبات عميق من الجهل والتخلف، خاضعين لتحكم الإقطاعيين، وكبار الملاك، والزعماء التقليديين.
إن وضعاً اجتماعياً واقتصادياً مثل الذي نعيشه، لا يمكن أن تثمر

فيه نبتة الديمقراطية التي نحلم بغرسها، وقطف ثمارها. إن تعدد الأحزاب وحرية الانتخابات، تلك التي نطمح أن تكون بمثابة الروح في جسدنا السياسي، لو طبقت في واقعنا الذي ينوء بالأحمال الثقال، فإنها لن تكون في أحسن الأحوال أكثر من واجهة يختبئ وراءها كبار الملاك والزعماء التقليديين الذين، كما هو شأنهم، سيوجهون الانتخابات لمصلحتهم وضد مصالح الشعب، ولن يجني شعبنا الذي يرزح تحت نير الأمية، وتكبله أغلال الحاجة، إن تسنى له أن يجني شيئاً، سوى الفتات.

لذلك ومن أجل أن يعيش شعبنا الذي نحبه في ظل ديمقراطية حقيقية، يجب علينا تهيئة التربة الصالحة والشروط الضرورية التي تمكن بذرة الديمقراطية من النمو، وأن نعتني بها ليشتد عودها ويقوى، وتصبح شجرة باسقة وارفة الظلال، يحتمي بها كل الشعب. إن ذلك يقتضي منا أن نؤجل تعدد الأحزاب إلى حين، وأن نشرع في تأسيس حزبنا الوحيد حزب الشعب، مدرسة الشعب، وأن نستقطب النخب المثقفة التي تهتم بمصالح الشعب وتدافع عنها، ونباشر في تربية الشعب سياسياً، ونغرس فيه عادات الحكم الديمقراطي.. وعندما ينضح فكر الشعب، وتتأصل فيه الممارسة الديمقراطية، ويصبح راشدا، قادراً على المبادرة والدفاع عن مصالحه.. إذ ذاك نكون وصلنا إلى غايتنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق