الخميس، 28 يوليو 2016

السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي 3

السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي 3



د. أنيس القيسي


ثالثا: أبو الهـــدى والسلطــان


يبدو إن أبا الهدى، بعد عزل السلطان عبد العزيز، قد طُرد من منصبه كنقيب لأشراف حلب. ولكن بعد مدة قصيرة من اعتلاء السلطان عبد الحميد أعيدت النقابة له. أما الرجل الذي قبل هذا المنصب خلال هذه المدة، وهو عبد الحميد المشّاتي، فقد نُفي إلى يافا، وبقي فيها اكثر من ثلاثين سنة حتى ثورة تركيا الفتاة في سنة 1908. ومن المحتمل إن ذلك كان درسا لأبي الهدى الذي كانت لهُ مصلحة شخصية في تنامي حكم عبد الحميد واستمراره. وبعد مدّة قصيرة من إعادة تعيينه كوفيء بمرتبة ”الحرمين“، وهي إحدى المراتبالعالية في هيئة العلماء، وغادر حلب متوجها إلى إسطنبول (في أواخر سنة 1876 م تقريبا ) بصحبة مجموعة من الأصدقاء، بينهم عبد القادر القُدسي. وبعد بضعة أيام من وصولهم دُعي أبو الهدى لمقابلة السلطان واستُقبِلَ بحفاوة كبيرة. وطبقا لما ذكرهُ في سيرته الرسمية فقد طُلب منه أن يَمثُل في حَضرة السلطان مرة أو مرتين أسبوعيا. وبعد مدة قصيرة عُيّن رئيسا لمشايخ الصوفية (شيخ المشايخ ) في إسطنبول.

لكن مثل هذا النجاح غير الاعتيادي كان لابد من أن يُثير الغيرة والمكائد. فقد اتهم السلطان أبا الهدى باستغلال حظوته لدى صاحب الجلالة كوسيلةٍ لكسب مصالح شخصيّة. وقد علمنا بأن تلك المسالة كانت تسبب لعبد الحميد إزعاجا كبيرا؛ ففي نهاية الأمر، في حزيران سنة 1878م، إي بعد ما يقرب من ثمانية عشر شهرا من تعرّفه على أبي الهدى، امرهُ السلطان بالعودة إلى حلب تحت الحراسة. وقد سببّت هذه الأخبار عن ”نفي“ أبي الهدى ارتياحا لكثير من الناس الذين طلبوا من الوالي طرده كذلك من منصب نقيب أشراف المدينة. ولكن نفيهُ كان قصير الأجل. فبعد بضعة اشهر أمر السلطان أبا الهدى بالعودة إلى إسطنبول بسبب – كما قيل – توسّط رجُلين من البلاط هما احمد اسعد الذي اصبح الصديق المقرّب له، والحاج علي بك رئيس الحاشية. ولم يغادر أبو الهدى إسطنبول بعد ذلك أبدا حتى عندما كان يرغب بمغادرتها. وفيما بعد، بعد عقدين تقريبا، أصبح يتمتع بثقة السلطان وتبجيل بعض المسئولين الكبار. وبما إنه لم يكن يتقلدُ منصبا رسميا فقد استمر معززا في فئة العلماء. وعليه، مُنِحَ في سنة 1296 هـ درجة متميزة في إسطنبول. بعدها بسنتين تقلّد منصب قاضي عسكر الأناضول. وفي رمضان سنة 1302 هـ (1885 م ) تقلّد منصب قاضي عسكر الروميللي. وهي أسمى رتبة في فئة العلماء.

وفي سنة 1299 هـ زيد راتبه من 1200 إلى 4500 قرش شهري. وفي سنة 1307 هـ اهدي قصرا ( صغيرا ) في بشكطاش، أحدى أفضل ضواحي إسطنبول. وبين الحين والآخر كان السلطان يكافئه بأوسمة عدة، من ضمنها أعلى الأوسمة.

إن النجاح الذي أحرزه أبو الهدى في إسطنبول يثير أسئلة عدة، من بينها: (1) ما الذي أثار اهتمامه هناك ؟ (2) كيف وطد نفسه ”مستشارا للسلطان“؟ و (3) لماذا كان السلطان مهتما به؟

كما ذكرنا في أعلاه، عندما توجّه أبو الهدى إلى إسطنبول في نهاية سنة 1876م تقريبا، فإنه كان بصحبة عبد القادر قدري القدسي، احد اخوة القدسي من حلب الذي كان صديقه ومريده في الطريقة في الوقت نفسه. لذا فإن أبا الهدى لم يكن غريبا في إسطنبول وإنما كانت له علاقاته الخاصة. ويبدو إن مساعدة عبد القادر كانت مهمة في هذه العلاقات. فطبقا لما ذكره ابن أخ عبد القادر، إن عمّه كان مؤمنا بالشيخ أبي الهدى، وقد عزا إليه، بشيء من المبالغة، ترقية الشيخ وتعريفه إلى أصحاب الشأن في إسطنبول.

كان عبد القادر اكبر من أبي الهدى بنحو خمس عشرة أو عشرين سنة وكان اكثر تجربة منة في السياسات العثمانية. دخل الخدمة الحكومية في أوائل خمسينات القرن التاسع عشر في حلب وأزمير أولا، ثم في إسطنبول وبورصة، وفي مناطق أخرى متعددة. وكما ذكرنا في أعلاه فإنه كان ممثلا عن حلب في دورة الإنعقاد الثانية للبرلمان في سنة 1878 م. وعندما علّق البرلمان دخل عبد القادر خدمة السلطان في البلاط، دليلا ًعلى وجهة نظرة المحافظة ودعمه للسياسات الحميدية. وبعد مدة قصيرة، وبصفته متصرفا في غاليبولي، عاد في تموز 1880 م إلى القصر بصفته مساعدا ثانيا للسلطان، وهو المنصب الذي بقي يشغله حتى وفاته بعد اثني عشر سنة.

إن تلك السنوات التي كان فيها عبد القادر متقلدا منصبا رفيعا في القصر كانت السنوات الأسعد والأكثر نجاحا في سيرة أبي الهدى. فمن بين ما يتذكره ابن أخ عبد القادر عنهما: ”نهما كانا صديقين طيّبين جدا“، و”كان كل منهما مخلصا للاخر، ينصر بعضهما بعضا ويعلن مزاياه وفضائله، وبالتالي فإن شهرتهما قد توسّعت“.

بعبارة أخرى، فقد كان عبد القادر حليفا لأبي الهدى في البلاط، وإن وجوده هناك أبقاه في اتصال مع مركز السلطة. ولكن ثمة أيضا رجل آخر من رجال الحاشية كان أبو الهدى يعرفه وأقام معه علاقات ٍ جيدة لسنوات عدّة وساعده في فهم السلطان وحاشيته المقربة، ألا وهو احمد اسعد، احد أعيان المدينة في الحجاز، الذي إنتقلت عائلته إلى هناك من الأناضول قبل أجيال عدّة. وقد تعيّن هذا في سنة 1868 م بمنصب ”فِراشة شريف الوكيل“ في جامع النبي(e) في المدينة. وكان ذلك بداية لاتصالات قوية مع القصر استمرت سنوات عِدّة.

إلا إن السيد احمد اسعد لم يكن من مشايخ الطرق الصوفية، ولم يكن لديه ادّعاء بالإنتساب إلى أي من الأتباع، على الرغم من إنه طالب في أن يكوننفوذه مابين القبائل البدوية في شمالي الحجاز ومناطقها المتاخمة ومع أمير جبل شمّر، إلا إنه كان معروفا بورعه وتقواه. وكان السلطان عبد الحميد يثق به وأرسله في إحدى البعثات إلى ولاياته العربية والى مصر. واسند إليه وظيفة في "المابين" بين القصر والباب العالي. لذا، كان اسعد في وضع جيد يمكنّه من التوصية على أبي الهدى في علاقاته مع القصر، وللدفاع عنه عند الضرورة.

لقد كان وجود أبي الهدى والشيخين الآخرين اللذين ذكرناهما سابقا، إلى حدٍ ما، ظاهرة غريبة. لماذا كان السلطان يقرب إليه مثل هؤلاء الناس من ولاياته العربية ؟ كتب مراقب معاصر: ”أبدا، فمنذ تأسيس السلطنة العثمانية، فإن العربي، ايّا كان أجداده، كان يضع جبينه أينما يضعون أقدامهم... “. وكان الأمر يتطلب عزم السلطان عبد الحميد كله للإبقاء على هؤلاء المشايخ لمواجهة استياء البعض من حاشيته ومستشاريه الأتراك.

لقد حاول احد المراقبين أن يفسّر هذه الظاهرة بالقول إن السلطان ”كانت لديه نزعة لمحاولة استكشاف المستقبل“، أو إنه ”كان خاضعا لكثير من.الخرافات...“، وكان مؤمنا بتنبؤات العرّافين“. ولذلك كان أبو الهدى يسمّى بـ ”منجم البلاط“. إلا إن آخرين يقدّمون أسبابا مثل ”تديّن السلطان“، أو [ إن ذلك كان ] ”غرض إظهار ورعه“. لاشك بأن تلك التفسيرات سطحية، إذ إن السلطان عبد الحميد كان رزنا، حذرا، ورجل دولة ٍ داهية، لم يكن يسمح للعواطف ولا للنزوات بالتدخل في خططه السياسية. ولما كان الأمر كذلك، فلماذا إذن وجد ضرورة في الإبقاء على أبي الهدى (والآخرين) في إسطنبول؟ ، وماهي الخدمات التي قدمها الأخير التي سّوغت ثقة السلطان والتأييد الذي لاقاه؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق