الخميس، 28 يوليو 2016

السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي 2

السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي 2
 
ثانيا: الاستقطاب السياسي في كلٍ من إسطنبول وحلب


إن ظهور أبي الهدى يمكن أن يكون علامة لإعادة تجديد الاستقطاب السياسي والاجتماعي في منطقة حلب، الذي يبدو إنه خمد بعد قمع تمرد سنة 1850 م. ولكن في الوقت الذي كان فيه الإنشقاق قبل ذلك التاريخ مقتصرا بين الفئات العليا والدنيا من المجتمع ومالَ للاقتصار على حلب والمناطق المجاورة، يبدو إنه اصبح مقتصرا، في سبعينات القرن التاسع عشر، ضمن الفئات العليا بصورة رئيسة، وتركز على مباديء سياسية ذات صلة بنظام الحكم في الدولة، سواءً على المستويين المركزي والإقليمي.

وقد أبرزت وفاة عالي باشا في سنة 1871م إلى السطح تيّارين سياسيين متنازعين مابين السياسيين العثمانيين فيما يخص مسالة الإصلاح ونظام الحكم: اولهما مكوّنُ من أولئك الذين كانوا يودون أتباع سياسات عالي وفؤاد. أما التيارالاخر فقد كان يضم أولئك الذين كانوا يؤمنون بالأفكار المحافِظة والتقليدية. وقد تناولت الاختلافات بين التيارين قضايا عدّة، ربما كان أكثرها أهمية إن المجموعة الاولى كانت ترى إن إنهاء الحكم الاستبدادي للسلطان ومنح حقوق المساواة المدنية والسياسية لغير المسلمين ضرورة أساسية لحكومةٍ منظمةٍ، وحفاظا على رفعة الإمبراطورية. وفي المقابل، كانت المجموعة الثانية تعتقد بتفوق وهيمنة العناصر المسلمة، على أساس أنها تشكّل القوى التي تتألف منها الإمبراطورية كلها. والحقيقة إن المجموعة الاولى، أو مجموعة التنظيمات، كانت تسعى إلى تثبيت هوية المواطن على أسس إقليمية، والى تحويل ولائه من مجتمعه الخاص إلى الولاء للدولة ( وهو ما يسمى بمبدأ العثمنة)؛ وعلى النقيض من ذلك، كان التقليديون يرغبون في الإبقاء على هوية المواطن المستندة على أسس مذهبية والإبقاء على الولاء لشخص السلطان. إن تطبيق فكرة التيار الأول قد تفضي إلى قيام نظام حكمٍ مقيّد على قدرٍ من اللامركزية، في حين إن تطبيق فكرة التيار الثاني يمكن أن يزوّد السلطان بالوسائل لإقامة نظامٍ مركزي إن كانت رغبته كذلك.

وقد أتاح اعتلاء محمود نديم الصدارة العظمى في أيلول سنة 1871 الفرصة للمجموعة الثانية لإعادة تثبيت نفسها في السياسات العثمانية. وكما ذكرنا في أعلاه، فإنها كانت تهدف إلى إقامة نظامٍ مطلق ومركزي في الحكم. وقد شجّع هذا السلطان عبد العزيز في العودة إلى الحكم الاستبدادي، وشدّد ادعاءه بالخلافة وسيلةً لتأييد توجهاته السياسية، وربما لتحشيد الرأي الإسلامي في الإمبراطورية خلفه.

ويبدو إن الإنشقاق بين هذين التيارين اللذين كانا موجودين في إسطنبول قد ظهر في حلب أيضا. فمن كتب السيرة المتوافرة لدينا يمكننا أن نعلم إن الأعيان المسلمين في المدينة كانوا منقسمين على مجموعتين أيضا، كانت كلٌ منهما تؤيد هذا الفريق أو ذاك في إسطنبول، وبالنتيجة فقد كانت محمية من جانبه. فمن جانب، كانت هناك عائلات الجابري وكيثودا والكواكبي، ومن جانب آخر كانت هناك عائلات القدسي والمدرّس والرفاعي.

وعلى ما يبدو كان الجابريون وحلفاؤهم يؤيدون سياسات عالي وفؤاد. ويُقال إن عليا، ابن محمد اسعد ( المفتي الذي توفي في سنة 1860م) الذي اختير لتمثيل حلب في مجلس الدولة المشكل مؤخرا (1868م )، كان على علاقاتٍ وديّة مع عالي باشا. وقد أتاح اعتلاء السلطان عبد العزيز الفُرصة لهذه المجموعة المُنافسة لتثبيت نفسها في حلب كما رأينا بصعود أبي الهدي. ولكن عزل هذا السلطان عزّز من موقف الجابريين اكثر وعليه، قام عبد القادر، ابن عم علي (الذي تمرّض وتوفي بعد مدّة قصيرة) بإجبار المفتي المُنصّب حديثا، الشيخ الزوباري،على الاستقالة، واستولى على المنصب لنفسه. وقد انتُخِبَ ابنُهُ نافع، على الرغم من إنه كان لا يزال شابا، ممثلا لحلب في برلمان سنة 1877 و 1878م. وبعد أن صار واحدا من قادة المعارضة ضد السلطان عبد الحميد، أمره السلطان، من بين آخرين، بمغادرة إسطنبول، بعد أن علّق البرلمان. وفي الوقت نفسه تقريبا خُلٍعَ والده من منصب المفتي. وكثيرا ما اصطدم الوالدُ والابن مع الولاة خلال حكم عبد الحميد. وقد تعرّض الكواكبيون ً للضغط أيضا خلال تلك المرحلة (كما توحي حالة عبد الرحمن ألكواكبي)، والكيثوديون كذلك.

من جانب أخر، فإن عائلات القدسي والمدرّس، وربما الرفاعي، بدت كما لو إنها كانت متعاطفة مع العناصر المُحافِظة والتقليدية في الحكومة. والعلاقات بينهم تعودُ لسنواتٍ عدّة. فقد جاء مؤسس هذا البيت الحلبي، الشيخ محمد القدسي، في الأصل، من اروفة في أواخر ثمانينات القرن تقريبا، وكان تعيينه مفتيا على حلب عائدا إلى علاقاته مع القصر في إسطنبول. أما عبد الرحمن المدرّس، مفتي الحنفية، وأبو الوفا الرفاعي، فقد تم نفيهُما عن حلب بعد احتلالها من إبراهيم باشا، لاتهما اشتركا في التوقيع على فتوى السلطان محمود ضد الباشا. وخلال سبعينات القرن التاسع عشر لم تكن هذه الصورة قد تغيّرت جذريا، إذ إن كلا من عائلتي المدرّس والقدسي كانت تتخذ جانب السلطان، وربما كانت لهما علاقات مع نامق باشا، احدُ أكثر وزراءُ عبد الحميد مُحافظةً. وكان من بين علامات تأييد القدسي لسياسات السلطان رفضُ عبد القادر قدري قبول منصبه عندما انتُخِبَ لبرلمان سنة 1877م بوصفِهِ ممثلا عن حلب، على الرغم من إنه وافق فيما بعد على أن يشغل هذا المنصب عندما تم إنتخابه في دورة الإنعقاد الثانية للبرلمان في سنة 1878م عندما كان في زيارة لإسطنبول. وثمة إشارة واضحة أخرى على ولاء القُدسي عندما عُلّق البرلمان، فقد دخل عبد القادر في خدمة السلطان، وكان مؤيدا قويا لأبي الهدى.

إن الإنشقاق الذي ظهر في حلب كان في الأصل خلافا في وجهة النظر المتعلقة بنظام الحكم بين المجموعتين من الأعيان. ولكن سياسات السلطان عبد الحميد سببت استقطابا حادا في هذه المدينة، كما فعلت في الدولة ككل. ويبدو إن أنصار المجموعة الثانية كانوا يعانون من سوء معاملة من جانب ولاةٍ عدّة. وبالنتيجة، بما إن الخلافات كانت ضمن إطار السياسة العثمانية، فإن سياسات عبد الحميد سببت رد فعل إلى ابعد من ذلك الإطار كان متعارضا مع واجب الولاء للسلطان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق