الخميس، 28 يوليو 2016

بغداد في رحلة الرحالة البرتغالي بيتر تيكسيرا 3

بغداد في رحلة الرحالة البرتغالي بيتر تيكسيرا 3





ترجمة


انيس عبد الخالق محمود

قسم التاريخ

كلية الاداب ـ جامعة بغداد



تأسيس بغداد من لدن أبي جعفر (763م)
في سنة 145 للهجرة، طبقاً للتقويم الإسلامي، الذي يقابل سنة 763م، جاء أحد الاشخاص، وهو أبو جعفر، الذي كان حينذاك خليفة، من الكوفة، وهي مدينة في شبه الجزيرة([1]) العربية التي كانت حينذاك مقر الخلفاء واقامتهم، إلى هذا الجانب من البلاد؛ وبعد ان استحسن الموقع، فضلاً عن بعض الاعتبارات الأخرى، أسس هذه المدينة على الضفة الغربية من نهر دجلة، إذ يقع الآن ذلك الجانب الذي ذكرته سابقاً الواقع ما بين النهرين؛ وهكذا كانت عظمتها، إذ انك عندما تشاهدها، فانك ترى آثار أبنيتها العظيمة ما تزال قائمة على مسافة خمسة أميال تقريباً. أما على الجانب الشرقي، إذ توجد المدينة الآن الواقعة في كردستان([2])، فلا توجد مدينة تستحق الذكر، باستثناء بعض المزارع والبساتين فقط، التي يبدو إنها اشتقت اسمها منها؛ لأن كلمة "بغداد" باللغة الفارسية([3])، تعني "مكان أشجار البساتين" أو "بساتين الفاكهة"، من كلمة (باغ)، أي البستان. وفي أوج ازدهارها حدثت فيضانات كثيرة جداً في نهر دجلة، إذ تدهور على مراحل، وآلت إلى خراب، حتى جاء إلى الخلافة المستنصر بالله، ابن المقتدي بالله، في سنة 487هـ، التي تقابل سنة 1095م، أي بعد 342 سنة من تأسيسها في ذلك المكان، الذي قرر بأن الجانب الشرقي هو موقع أفضل، كما هو عليه الأمر فعلاً، فنقل المدينة إلى هناك، في الموقع الذي تقع([4]) فيه الآن. وقد كان هذا الموقع في يوم ما أكبر بكثير مما عليه الآن، واليوم، بين البيوت والسور، توجد تلال كبيرة على الرغم من ان الأرض مستوية جداً، وهذه التلال هي تلال لخرائب، وقد أمكن الاهتداء إلى وجود الكثير من الأبنية العظيمة تحتها.



بابل القديمة
هذه هي بغداد الحالية، أو بغدات، كما نسميها نحن تحريفاً، وهكذا كان تأسيسها؛ أما فيما يخص بابل، فقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى وقوعها في مكان يدعى بابل، كما هو مؤكد بين اولئك الناس، وهي واقعة في المكان الذي ذكرته سابقاً، ولم يبق شيء منها على مر العصور سوى الاسم؛ وعلى الرغم من ان بعض الآثار الطفيفة يمكن رؤيتها، إلا إنها ليست بذات قيمة. ولعل هذا يكفي فيما يخص أصل بغداد، وسأختتم حديثي بالقول إنه لابد لي ان أذكر بأنني لم أتذكر بأنني رأيت أبداً مثل تلك الشوارع القذرة في أي مكان، كشوارع هذه المدينة، وشوارع مدينة البصرة؛ وبسبب رخاوة الأرض، وعدم تعبيدها، فإن كل رشقة من الأمطار يملؤها بالطين.


عوائد الباشا
وقد أصبح الباشا مؤخراً حاكماً على البصرة، إذ غادر عن طريق الصحراء، قبل ثلاثة أيام من قدومنا إلى ذلك المكان. وكان اسمه (Issuf)([5]) أو جوزيف باشا، وهو خصي، من أصل شركسي، يدر منصبه سنوياً (20.000) Chequines، أي ما يساوي (250.000) دوقة تقريباً، يصرف منها كحد أقصى ما بين 30-40 ألفاً. وهو يساوي في وقت السلم الكثير جداً؛ لأنه في وقت الحرب يفعل ما يشاء. وعندما كنا بصدد الرحيل، جاء إليه خمسة عشر Capgis من القسطنطينية، وهم بوابو السيد الأعظم، ومنحوه لقب "وزير"، (Wazir) أو (Vizier) كما نسميه نحن، مع أمر حكومي([6]) للاستمرار في سلطته لمدة سبع سنوات، كما منحوه أيضاً صدرية مطرزة، وسيفاً، وسلسلة ذهبية للجام حصانه، هي هي الهدايا التي يستخدمها التركي لارسال اولئك الذين يرقيهم إلى مثل تلك المنزلة الرفيعة. ومن بين الـ(Bassa Ships)([7]) الباشوات والادارات المحلية، "المصري" (Mecere) أي القاهرة الكبرى (Grand Cairo) في مصر، والثاني هو هذا الخاص ببغداد، والثالث لتبريز. وعندما وصلنا إلى المدينة، فإنها كانت تحت سيطرة الفرس الذين قيل انهم كانوا بصدد الزحف نحوها، كما حدث قبل مدة ليست بالطويلة من قبل وزير (Ala Verdi, Wazir)([8])، والقائد العام للشاه عباس، ملك فارس الذي أسر ما يقارب ثلاثمائة جندي في إحدى المعارك الصغيرة، على مرأى من الأسوار، وفي الليلة التالية غادرها بسرعة كبيرة، إذ إنه ترك امتعته وراءه، بيد ان سبب فراره غير معروف. وبعد ذلك قام الفرس بشن بضعة غارات أخرى على كردستان([9])، وهي بلاد قريبة جداً من بغدات، وكانت عاصمتها شوستر، التي قيل إنها سوس أو سوسة، إذ كان يقيم احشويرش، وشق الممر بين اصطر (Esther) وهامان (Haman)([10]). وتلك الأراضي مفصولة عن أراضي بغداد بنهر دجلة، الذي يلتف نحو الاتجاه الجنوبي بحوالى مسافة رحلة يوم واحد عن بغدات، التي يقسمها نهر دجلة على خمسة أو ستة فراسخ في اسفله.


حصار حلب
وفي هذا المكان انتظرنا الفرصة للانطلاق، لأن أي شخص لا يستطيع ان يسافر حتى تأتي الاخبار من حلب التي كانت تحت الحصار لمدة ثلاثة أشهر، لأن الباشا الذي كان موجوداً فيها، لم يسلمها، على الرغم من إنه تلقى اوامر صريحة من السلطان، بوجود خلاف ما بينهما. وخلال الحصار عانى السكان من مجاعة كبيرة ومشاق أخرى، كما قيل لي فيما بعد هناك. ولم نكن نحن فقط نافذي الصبر، بل كانت بغدات كلها كذلك، وذلك بسبب عدم ورود أخبار عن سير الأحوال لمدة شهرين، حتى فرّج الله هذا الكرب، وهو ان في السادس والعشرين من تشرين الثاني وفي ساعات الصباح الأولى، جاء ثلاثة سعاة بريد في وقت واحد، وهم يحملون رسائل عاجلة إلى منزل جيمس فرناندز الالماني الذي كنت معه، والذي تسلم الرسائل التي تفيد بأن السلام قد عاد إلى البلاد. ومن السهل ان نحكم إلى أي مدى كانت بهجتنا عظيمة، فتهيأنا على الفور للقيام برحلتنا، وأعطينا أوامرنا باحضار الجِمال من مشهد معظم([11])، وقد دفعنا نصف ثمن اجرتها، لأنهم كانوا قد ذهبوا بعيداً جداً لجلبها.


مغادرتنا بغداد
بعد ان أعددنا عدتنا وجاءت جمالنا عبرنا النهر من بغداد إلى الجانب الآخر من بلاد ما بين النهرين في يوم الأحد، الثاني عشر من كانون الأول 1604، في الساعة الخامسة مساءً، وبتنا تلك الليلة في العراء بين الخندق والبيوت. وفي الساعة التاسعة صباحاً من يوم الاثنين، الثالث عشر من الشهر نفسه، بدأنا رحلتنا بـ(130) جملاً، و(75) حماراً، وبعد ان قطعنا فرسخاً ونصف الفرسخ، توقفنا لدفع الضرائب التي كانت تجبى لصالح الامير ناصر (Mir Nacer)، وهو امير عربي لقبيلة بدوية هي قبيلة ابن امانة([12])، وهو مساوٍ للزعيم في مشهد علي ومشهد الحسين. وقد تم انجاز ذلك بعد مشكلة واغاظة كبيرتين.


باش دولاب
ان هذا المكان يدعى باش دولاب Bax Dulab، أو مقدمتها، لأن هناك بعض المياه النتنة التي تزود البساتين. وقبل مغادرتي بغداد، كنت قد نُصحت بشيء من قبيل ما كنت قد فكرت ان بمقدوره ان يرشدني، وعن أفضل الأشياء التي يجب ان اختارها للركوب في تلك الرحلة، وعلى الرغم من ان الآراء المقترحة كانت متعددة، بيد ان الرأي الأكثر قبولاً، المتعلق بقدوم الشتاء حينذاك، وترك جميع المشاكل، هو ان أفضل الطرق هو الذهاب في تختروان Cradle([13])


السفر في التختروان
وقد رأيت بأن تلك النصيحة صائبة، فاتبعتها على هذا الأساس، كما فعل جيمس فرناندز وجيمس دي ميلو. ان التختروان (Cradle) هو ما يعنيه اسمه، يبلغ طوله أربع اشبار ونصف الشبر، ويبلغ عرضه شبرين ونصف الشبر، مغطى بقوس، لذا فهو يغطي الشخص الذي يكون في داخله حامياً إياه من البرد والأمطار. وهو يوضع على وسط ظهر الجمل، أي، واحد على كل جانب من جانبيه، كما ذهبت أنا وجيمس فرناندز، أو بعض الأشياء الأخرى التي وضعت للمحافظة على التوازن، مثل الصندوق أو الخزانة التي كان جيمس دي ميلو يملكها. وكثيراً ما كان لتلك التختروانات مكان سري في المقعد، يستخدم عموماً لاخفاء بعض الأشياء الثمينة. وفي تلك التختروانات يسافر الشخص على نحو ادفأ واسرع، من دون أي قلق على حصان، أو على طعامه، اللذين هما معرضان دائماً لغزوات البدو الذين قد يستعيرون حصانك، ويعيدونه لو شاءوا، وان كان الأمر كذلك. فإنهم يطيرون به مع الريح، وهو ما يفعلونه من دون أي احترام للأشخاص، من أي مكان يشاؤون، وقد رايت ذلك بعيني مع الأتراك، الذين لم يكونوا يكنّون لهم أي احترام، إذا ما صادفوهم في العراء وحدهم. وإلى جانب ذلك، فمن المألوف لديهم ان يسلبوك حصانك بالقوة، ليصبح من ممتلكاتهم، لو أرادوا، والذي يعدونه عملاً جيداً مثل قتله، لأن ليس هناك ما يمكن ان يملكوه على الطريق في أية حال من الأحوال. لن أتحدث عن مجازفة حصان خرّ كسيراً، كما حدث لجيمس دي ميلو. وقد تم تجنب ذلك كله بوساطة الذهاب عن طريق التختروان، لأنه إذا ما تعب الجمل، أو كسرت قدمه، فإنهم سيعطونك جملاً آخر، فالمالكون يأخذون دائماً بعض الجِمال الاحتياطية، لحمل الاثقال بالتناوب، أو لسد النقص الذي ينتج عن موت أحدها، أو عجزه؛ وعندما يستأجر أي تاجر مجموعة من الجمال، فإن الجمرك هو الذي يسمح لكل عشرة منها بحمل الاثقال، وواحد مجاناً، لتجهيزه الخاص. لذا، بعد ان أخذنا الموسم بالحسبان، وحللنا المشكلة، اخترنا التختروانات، وتوجهنا نحو حلب.


أطلال عكركوف
في يوم الثلاثاء، الرابع عشر من كانون الأول، وعند شروق الشمس، غادرنا آبار الارواء، وسافرنا باتجاه الغرب عبر اراض مستوية نظيفة، إلا من بعض الفضلات الصغيرة. وبعد ان قطعنا ما يقرب من ثلاثة فراسخ، وصلنا إلى اطلال مدينة عظيمة، ما زالت تنتصب فيها منارة (قرآن) شاهقة، وقطعتان من سور سميك وقوي من الآجر والصخر في مكان يسميه العرب "كركوف"([14]) (Karkuf).




([1]) الكوفة مدينة في العراق، وهذا يعكس جهل تاكسيرا بجغرافية العراق.
([2]) وهذا خطأ ربما يقصد قريبة من طيسفون.

([3]) طبيعي ان هذه التسمية قد فندت وان الدراسات اثبتت ان الكلمة عراقية قديمة .

([4]) ان كان يقصد الخليفة المستنصر بالله فهو المنصور بن الخليفة الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله تولى الخلافة سنة 623هـ وتوفي سنة 641هـ ولكنه ربما يقصد الخليفة المستظهر بالله بن المقتدي بأمر الله الذي تولى الخلافة عام 487هـ وتوفي سنة 512هـ، وفي عهده تم بناء سور بغداد الشرقية. وهو لم يعمل على نقل بغداد إلى الجانب الشرقي انما كان هذا الجزء موجوداً قبله بكثير.

([5]) ربما المقصود آصف باشا.

([6]) ربما يقصد فرمان.

([7]) الباشوات أو ولاة الولايات.

([8]) ربما المقصود الوزير علي افندي.

([9]) ربما يقصد خوزستان/ الاحواز.

([10]) ربما هي همدان.

([11]) أشرنا سابقاً إنه يقصد الإمام الأعظم عندما يذكر Occem ويعتقد إنه باب المعظم إذ كان هناك سوق للدواب.

([12]) المقصود قبيلة بني أمان.

([13]) وهو الهودج.

([14]) ربما يقصد عقرقوف.

انتهى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق