الخميس، 28 يوليو 2016

السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي 1

السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ ابو الهدى الصيادي 1




السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ أبو الهدى ألصيادي

ترجمة

الدكتور أنيس القيسي




ملاحظة مهمة: البحث وما فيه من افكار يمثل وجهة نظر المؤلف فقط، وقد حذفت التعليقات لأغراض نشر البحث في مجلة علمية.

أولا - الحياة المبكرة للشيخ أبي الهدى الصيّادي

إن تسميةُ ”أبي الهدى“ هي كنية لـ ”محمد بن حسن وادي“ المولود في خان شيخون، إحدى قرى سورية الوسطى. أما لقبُ ”الصيّادي“ فقد إتخذهُ تيمنا بأحد الأولياء المحليين ( مدفون في مشارف قريته ) الذي إدّعى إنه متحدِّرٌ منه، وإن سلسلته الروحية في الطريقة الرفاعية تمتد إليه، وفيما بعد سمّى طريقتهُ ”الرفاعية“. ومعرفتنا بالحياة المبكرة للشيخ أبي الهدى ضئيلة، فمصادر معلوماتنا عنه هي” سيرته الرسمية“، وما كتبه هو بنفسه في كتبه الخاصة وكراريسه. أما كتب السير المعروفة والمتوافرة الأخرى فكلها كُتبت من أصدقائه والمعجبين به الذين لم يستخدموا على مايبدو مصادر أخرى. وثمّة إشارات لوجود كتب سيرة أخرى ذات صلة بحياته المتأخرة. وبالنتيجة، فإن عملية إعادة ترتيب الأحداث منذ حياته المبكرة حتى أصبح” نقيب أشراف حلب“ تُعد صعبة.

وطبقا لهذه السيرة، وُلد أبو الهدى في شهر رمضان سنة 1266هـ / تموز 1850م في خان شيخون بمنطقة ”المعرّة“ (جنوبي حلب). وكانت هذه المنطقة جزءا من سنجق حماه في ولاية سورية، ولكنها اُلحقت بحلب في منتصف سبعينات القرن التاسع عشر. وطبقا لما ذكره أبو الهدى فإن عائلته كانت تتمتع بمكانةٍ بارزة في المناطق المجاورة؛ إذ كان جدّه الأكبر علي خزام ( المولود سنة 1177هـ / 1763- 4176م ) يمتلك، كما كان الصيّادي يدّعي، قوىً خارقة، وكان قبرهُ مزارا، وبإضافةٍ من الصيّادي فإنه ”هو من أسس بيتنا“. ويُقال إن حسن وادي، والدُ أبي الهدى، كان تاجرا، يتنقل ما بين حلب وقريته، لكنه ترك هذه المهنة ليصبح مزارعا. ونحن على علمٍ بأنه كان أميّا لم يدرس سوى القرآن في منتصف عمره). ولكنه، على الرغم من ذلك، كان مهتما بإرسال ولده إلى أحد المشايخ المحليين في المعرّة لتعليمه القرآن والقراءة والكتابة والمواضيع الإسلامية الأخرى.
على أية حال، فلم يكن طريق التعلُّم إختيارُ أبي الهدى، وإنما ”التصّوف“، إذ قرر الإنتساب إلى الطريقة الرفاعية، التي إدّعى إن والده والشيخ علي خير الله من حلب وأحد مشايخ بغداد غير المعروفين، وهو محمد مهدي الرّواس، قد أدخلوه اليها. والمعروف إن هذه الطريقة كانت تروق للفئات الشعبية والريفية). ويبدو إنه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت هناك نزعةٌ لإتباعها في المناطق الريفية في حلب. ولكن مع ذلك ثمة دليلٌ ما على ان الطريقة الرفاعية في مدينة حلب نفسها كانت في طريقها نحو النمو وكانت تتمتع بتأييد السلطات. أما الشيخ علي، رئيس أبي الهدى في الطريقة، فلم يكن من مواليد حلب وإنما من مواليد قريةٍ قريبة منها، ولم يستقر في المدينة إلا في وقتٍ متأخر. ويبدو إن أتباعه تزايدوا، لذا أسس زاوية في ”بنقوصة“. إلا إن هذه الزاوية لم تكن هي الزاوية الرفاعية الأولى في المدينة، فقبل مدّة قصيرة قام الشيخ أبو الوفا، أحدُ المشايخ الآخرين من مشايخ الطريقة الرفاعية الخلوتية، بإعادة ترتيب زاويته بعد تسلّمه مِنحه سخية من علي رضا باشا، مندوب الوالي ووالي حلب ما بين سنتي ( 12 42- 12 46هـ / 1827- 1831م).

وربما كانت شعبيه الطريقه الرفاعية مسوّغا كافيا لكلٍ من أبي الهدى ووالده لإتباعها؛ إلا إن لهما أسبابا أخرى لإتباع تلكمُ الطريقة. ففي حلب ورث إبنُ أبي الوفا، الشيخ بهاء الدين، منصب والده، وأصبحت زاويتهما مصدر قوةٍ له بحيث بزّ والده في الشهرة. وربما كانت تلك الشهرة عائدة إلى تمرد سنة 1850، فبعد قمع هذا التمرد ضَعُفَ بعض الأعيان البارزين في المدينة، أو إختفوا من الساحة تماما، فتعززت الهيمنة العثمانية على المدينة وتوابعها. فلربما نال الشيخ بهاء، بناءً على ذلك، فرصة لتعزيز سلطته ونفوذه. فخلال منتصف ستينات القرن التاسع عشر أصبح مفتي الحنفية في حلب، على الرغم من إنه” لم يكن متعلما بما يكفي ليكون أهلا لذلك... [ المنصب ]“.



والحقيقة إن الشيخ بهاء صاحب الطريقة الرفاعية، الذي كان من أعيان حلب البارزين، هو الذي أسهم في إختيار حسن وادي وولده أبي الهدى للإنضمام إلى تلك الطريقة. أما هدفهما من ذلك فلربما كان نيل عطف الشيخ بهاء وحمايته. ويبدو إنهما كانا مُجبرين على طلب الحماية بسبب خلافهما مع الأعيان البارزين في حماه، الذي إضطرا بسببه إلى ترك قريتهما، هذا من جانب. ومن جانب آخر قد يكون الشيخ غيرُ ذي أهمية بسبب تطبيق إصلاحات التنظيمات التي تركت الريف تابعا على المدينة ومعتمدا عليها أكثر من أي وقتٍ مضى، في حين أصبح نفوذ الأعيان أعظم في الريف. على أية حال، فقد نجح حسن وادي وولده في إقامة إتصالاتٍ مع الشيخ.

تحدّث أبو الهدى عن قيامه (عندما كان شابا) ووالده بزيارات لهذا الشيخ وعن قيام الشيخ بتعليمه بعض القصائد الصوفية ( الأوراد ). وفيما بعد أخذ يدّعي إن الشيخ بهاء منتسبٌ إلى الجماعة الرفاعية، وهو مثلهُ متحدرٌ من أحمد الرفاعي.

وربما كان لأبي الهدى ووالده هدفٌ محددٌ من إقامة هذه الإتصالات مع الشيخ بهاء. ففي منطقة مجاورة من خان شيخون ثمة مزارٌ مشيدٌ على ضريح أحد الإولياء المحليين، هو أحمد الصيّاد، وإلى جوار هذا المزار قرية مهجورة تدعى ماتكين، التي كانت قد مُنحت وقفا للمزار قبل سنواتٍ عِدّة. وطبقا لوثيقةٍ صادرة من المحكمة الشرعية في ”معرّة النعمان“ سنة 1327هـ / 1909م، كان شيخ المزار هو المشرفُ على أوقافه أيضا. وكان شرطُ المانح، كما أكدّت وثيقتنا، أن يكون الشيخ أحد المتحدّرين من أحمد الصيّاد (المولود في سنة 670هـ) أحدُ مشايخ الطريقة الرفاعية من ذوي الشهرة البارزة. وعلى ما يبدو فإن هذه المسألة لم تظهر قبل هذا الوقت لأن قرية ماتكين كانت مهجورة ربما بسبب غارات البدويين في تلك المرحلة. ولكن، ومع تحسّن الحالة الأمنية في أواخر عصر التنظيمات، والتوسع في الأراضي المزروعة، أصبح المزار وأوقافه شيئا في متناول اليد.

في ضوء ذلك يمكننا أن نفهم لماذا كان أبو الهدى منذ البداية يدّعي بأنه متحدرٌ من أحمد الصيّاد، وإن الصيّاد هو حفيد الشيخ أحمد الرفاعي (عن طريق إبنته زينب، والدةُ صيّاد). وعلى الرغم من إن بعض المصادر الموثوقة تعارض ذلك، إلا إن أبا الهدى كان يدّعي إن الرفاعي متحدرٌ من النبي (?) وبذلك فهو ينسب إلى نفسه النسب نفسه ـ وربما يكون ذلك وسيلة لتعزيز إدعائه بالمزار، وليكسب هو وعائلته مركزا مرموقا ضمن محيطهم.

إلا إن إثبات هذا الإدعاء مستحيل؛ فليس من الواضح لنا إلى أي مدى كان المدّعي مُعترفا به على إنه سيدٌ أو شريفٌ في الإمبراطورية العثمانية. إلا إن هناك دليلٌ ما إنه إكتسب هذه الصفة بشهادة بعض الأشراف المعروفين. ففي حالة أبي الهدى كان عددٌ من أعيان حلب ودمشق البارزين (من سادةٍ وسواهم) يُلصقون أختامهم بنسبهِ الذي يتزعمه كلٌ من أبي الوفا وولده بهاء الدين الرفاعي. ومن الواضح إن أبا الهدى كان بحاجةٍ لمثل هذه الوثيقة لدعم إدعائه بمزار صيّاد وأوقافه.

وقد طالَبَ أبو الهدى، متسلحا بهذا النسب، المسؤولين في دمشق، الذين لاتزال لهم السلطة على منطقته، بحق المشيخة على المزار. لكنه لم ينجح في هذه المرحلة وإنما تقلّد منصبا مختلفا؛ إذ عاد من دمشق سنة 1285 هـ / 1868 – 1869 م بصفته مسؤولا عن الخان في قريته. وعلى الرغم من إن هذه الوظيفة كانت وظيفةً قرويةً ثانوية، إلا إنه ظلّ يحتفظ بها طوال حياته، وكان يُعيّنُ وكيلا عنه عندما كان يغادر المدينة.

وبعد نحو سنتين سافر أبو الهدى إلى إسطنبول ليجرّب حظهُ هناك بخصوص مزار الصيّاد. ومن المفترض إن حُماتَهُ الحلبيين كانوا قد زوّدوه بتزكياتهم. لكنه، فضلا عن ذلك، كان يتمتع بمزايا شخصية كثيرة، مثل الجاذبية وملامح التقوى والذكاء والفصاحة والذاكرة الجيدة. وكان يحفظ عن ظهر قلب الكثير من القصائد الصوفية التي كان مستعدا لإنشادها في مناسبات خاصة، وذلك كله جعلهُ مقبولا لدى علماء الدين الأتراك وفتح الأبواب أمامه. ولكنه مع ذلك فشل في تحقيق هدفه، إلا إنه في المُقابل عُيّن نقيبا للأشراف في منطقة ”جسر الشغور“، وهي إحدى النواحي الغربية في حلب. وبما إن هذه الناحية كانت مأهولة بالعلويين ( النصيرية ) فإن مثل هذا المنصب لم يكن موجودا قبل هذا التاريخ بل كان مُستحدثا. ولكن من الواضح إن وجود أبي الهدى هناك كان يخدم مصالح الحكومة المحلية في حلب، أو بعض أعيانها، فضلا عن إنه صقلَهُ ليصبح نقيب حلب بعد أربع سنوات.

في الوقت نفسه، كان أبو الهدى لايزال يتمتع يتأييد السلطات. على هذا الأساس مُُنحَ في سنة 1289 هـ / 1872 م شرف الإنتساب إلى هيأة العلماء في أزمير وعُيّنَ نائبا عن منطقة جسر الشغور فضلا عن منصبه نقيبا. إلا إن هذا التعيين كان غريبا لأنه لم يكن معروفا عنه إنه تلقى تدريبا نظاميا، على الرغم من إدعائه فيما بعد بأنه كان قد تلقى مثل هذا التدريب تحت أشراف الروّاس عندما كان يزوره في بغداد سنة 1283 هـ.

وفي سنة 1290هـ /1873م توفي الشيخ بهاء الدين الرفاعي مُفتي الحنفية في حلب، عند ذاك سافر أبو الهدى مرة ثانية إلى إسطنبول وعاد من هناك بإسم ”نقيب أشراف حلب“. السؤال الذي يطرح نفسه: بأية أحقية تمكن شيخٌ متصوفٌ شاب من نيل مثل هذه الوظيفة التي حافظ عليها على نحوٍ مستمر في تلك المدينة البارزة الشهيرة؟ في الوقت نفسه، مُنحَ منصبُ ”المُفتي“ الشاغر إلى بكري الزوباري، الذي لم يُعد إلى حلب إلا قبل بضعة أشهُر، بعد إقامة أمدها ثلاثين سنة في مصر. ولم يكن الشيخ الزوباري، مثلُ أبي الهدى، من عائلةٍ حلبيةٍ بارزة، وإنما كان في الأغلب غريبا عن المدينة.

وبصفته ”نقيبا للأشراف“ تمتع أبو الهدى بدعم وحماية بعض الولاة مثل أسعد مخلص وآخرين. وفي سنة 1262 هـ / 1875 م منح السلطان عبد العزيز أبا الهدى راتبا خاصا فضلا عن راتبه من نقابة الأشراف. وبعد مدّه، وكما تذهبُ إلى ذلك سيرته الرسمية، عُيّن للإشراف على نقباء كلٍ من سورية، ديار بكر، بغداد، والبصرة. وفي الوقت نفسه تقريبا عينهُ الوالي رئيسا للجنةٍ خاصة تشكلّت لحل الخلافات الناشئة بشأن الأراضي مابين أصحاب الشأن وأعيان المدينة من جانب وبين الفلاحين من جانب آخر. فلو كان كل ذلك صحيحا، لايمكننا أن نخفق في ملاحظة إن أبا الهدى، حتى السنوات الأخيرة من حكم السلطان عبد العزيز، كان يتمتع بحماية الدوائر المقرّبة من السلطان وإسنادها، وإنه كان مُهيّأً لملء الدور القيادي في حلب وما ورائها.

يتبع................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق