الخميس، 28 يوليو 2016

تاريخ ومجتمع 9 الطريق إلى الأقصى - من الحلقات المغيبة في تاريخ القدس

تاريخ ومجتمع 9 الطريق إلى الأقصى - من الحلقات المغيبة في تاريخ القدس




في الثلث الثاني من القرن الرابع الهجري، راحت تنهار الدولة العباسية وتظهر دول هنا وهناك، وكل دولة تحاول السيطرة على بلاد الشام ومصر.

فعندما برزت الدولة الطولونية لم تعرف بلاد الشام الأمن والاستقرار بسبب النشاطات المدمرة للقرامطة، وعلى الرغم من استباحة القرامطة لعدد من المدن الشامية إلا أن حرمة مدينة القدس تمت المحافظة عليها، وانتهى الحكم الطولوني إثر ضربة قاصمة للقرامطة على أيدي الجيوش العباسية، ثم ما لبثت أن ظهرت دولة الإخشيديين، ولم تشهد مدينة القدس ما هو متميز وانتهى حكم الإخشيديين باستيلاء الفاطميين على مصر وقد اضطربت أحوال فلسطين والقدس إلا أن المدينة لم تتعرض لأي انتهاك وانتهت الصراعات في فلسطين في أيام الخليفة الفاطمي العزيز الذي رمم المسجد الأقصى وأعاد إعمار المدينة وتجديدها.

لكن الذي يلفت النظر أن التاريخ لم يركز على دراسة أوضاع القدس وفلسطين في زمن الخليفة المستنصر(427- 487).

ففي هذه الفترة اجتاحت قبائل الغز خراسان ثم العراق فالشام فالجزيرة وقد أثر ذلك على مدينة القدس، في تلك الفترة أقام الإمام الغزالي بعض الوقت في القدس حيث اعتكف في مسجدها ثم انتقل للاعتكاف في جامع دمشق، كما زار القدس في هذه الفترة الرحالة الفارسي ناصر خسرو، كما أن حركة ما يسمى بالحج المسيحي ازدادت بشكل ملحوظ، وقد تزامن تدفق الحجاج على القدس وفلسطين مع اضطراب الأحوال وانعدام الأمن في بلاد الشام حتى شمل القدس نفسها إثر اجتياح أمواج الزحف الغزي وتأسيس دويلات السلاجقة.

عُرفت أول مجموعة غزية دخلت إلى الشام الجنوبي ثم الشمالي باسم الناوكية، وكان السلطان ألب أرسلان قد ترك في الشام الشمالي مجموعات غزية جديدة اشتهرت باسم التركمان وكان أبرز هؤلاء (أتسز بن أوق الخوارزمي) وقد سعى هذا القائد إلى تملك دمشق وسار إلى فلسطين فاستولى على مدينة الرملة ومن الرملة قصد القدس وحاصرها ثم انتزعها من الفاطميين، واستولى أيضاً على طبرية.

وهنا لا بد أن نتوقف قليلاً عند هذه المرحلة:

لاحظ العرب والمسلمون ازدياداً ملحوظاً لسفر المسيحيين الغربيين إلى القدس وفلسطين مما جعل الشكوك تعشش في نفوسهم لهذه الحركة المريبة.

ومما دفع بعض أمراء السلاجقة للاستيلاء على فلسطين والقدس كونها تتمتع بمكانة دينية مهمة لدى المسلمين وكونها تتمتع بموقع استراتيجي، خاصة ساحلها الطويل على المتوسط واحتمالات الغزو الإفرنجي لها.

ولذلك وجدنا أتسز بن أوق الخوارزمي يتخذ من مدينة القدس مركزاً له، حيث حول المجمع الديري الذي عرف باسم برج داود إلى ما يشبه القلعة، وفي القدس ألغى أتز الدعوة للخليفة الفاطمي وأحل محلها الدعوة للخليفة العباسي مع السلطان السلجوقي وبعث إلى بغداد يخبر ما أنجزه.

ومن القدس أخذ يغير أتسز على دمشق حتى أنهكها وفي الوقت نفسه قضى على الفئات الغزية المعارضة له، وثابر على اتخاذ القدس حاضرة له فيها ذخائره وعيالاته وجنده، وفي سنة 468هـ- 1076م تمكن من الاستيلاء على دمشق وأصبح سيد الشام الجنوبي ومن دمشق إلى القدس إلى الرملة وباقي أرض فلسطين.

ودب الصراع الدموي بين أتسز والتركمان من جهة والفاطميين من جهة أخرى، كان أهل القدس ضحايا لهذا الصراع، لكن الأحداث تسارعت حيث تم لـ (تتش بن ألب أرسلان) الاستيلاء على دمشق ثم على فلسطين وتخلص من أتسز وأتباعه.

لم تنعم القدس بالاستقرار، وخاض سلاطين السلاجقة حروباً متواصلة على أرض فلسطين والقدس، في هذا الوقت عين تتش أحد زعماء التركمان على القدس يُدعى أرتق بن أكسب وذلك بسبب قدراته العسكرية، وقد أمضى أرتق معظم وقته في مدينة القدس حتى توفي وتسلم بعده ابناه حكم القدس وهما سكمان وأليغازي وظلا متمسكين بالقدس حتى استيلاء الفاطميين عليها عام 1098 وبذلك شكلت هذه الفترة التمهيد للغزو الصليبي.

ويجدر بنا هنا أن نعيد تقييمنا للأسباب التي دفعت الفرنج لشن حملات الحروب الصليبية واحتلال القدس، فإلى جانب الحس الاستعماري لدى الفرنج وكذلك الطمع الاقتصادي بزرت مجموعة أسباب دينية لم يكن للعرب يدٌ فيها.

وللموضوع صلة بما قدمت به العناصر غير العربية من تركمان وغز عندما دخلت أمواجهم وراء بعضها بلاد الشام وخاصة فلسطين.

عندما احتلت قبائل الغز فلسطين والقدس عسفوا بالمسلمين والمسيحيين، وقاموا بهدم بعض الكنائس في فلسطين والشام، والأقصى من ذلك أنهم أمروا بهدم كنيسة القيامة فأنزلت بأسرها إلى القرار إلا ما تعذر هدمه، وقد انعدم الأمن والاستقرار، وازداد تدفق حركة الحجاج المسيحيين من أوروبا، لكن الأمراء من التركمان أرهقوهم بالضرائب والمعاملة السيئة، مما دفع لازدياد تنامي المشاعر الدينية للإسلام والمسلمين، على الرغم من أن الاضطهاد شل الجميع مسلمين ومسيحيين.

ويورد الدكتور سهيل زكار استناداً على ما أورده المؤرخون كيف خرج التركمان بقيادة أتسز نحو القدس بعد أن طردوا منها على أيدي الفاطميين.

(دخل أتسز من رتق في سور القدس ومعه جماعة من العسكر وخرجوا من المحراب وفتحوا الباب ودخل العسكر فقتلوا ثلاث آلاف إنسان واحتمى قوم بالصخرة والجامع فقرر عليهم الأموال حيث لم يقتلهم لأجل المكان وأخذ من الأموال شيئاً لا يبلغه الحصر، وقتل قاضي القدس).



فهذا ما لحق بالمسلمين على يد الغز فليس للفرنجة حجة بأن المسلمين اضطهدوا المسيحيين في القدس، وتروي الموسوعة الشامية أنه في الوقت الذي عمت فيه الاضطرابات وسيطرة التركمان المتعصبين جداً على القدس تكاثرت قوافل الحجاج الأوروبيين وكان هؤلاء الحجاج لا يصلون إلى القدس إلا بعد عناء في البحر وبعد التعرض لمخاطر كبيرة في أرض الشام وسواها، لقد كان التركمان الغز بعيدين عن التسامح والمدنية والحضارة، وقد شكلت المضايقات التي تعرض لها الحجاج من أوروبا خلفية حكاية بطرس الناسك ثم دوره بالدعوة في أوروبا إلى حمل الصليب والتوجه نحو القدس.

وعندما عاد بطرس الناسك إلى أوروبا أبلغ البابا أوربان الثاني بالرسالة التي حملها وبما شاهده وتذكر الروايات الأوروبية أن البابا تفاعل مع الرسالة التي وصلت ومع الأخبار التي حملها بطرس، ولذلك عاد إلى مؤتمر كلير مونت عام 1ز95 وأعلن عن قيام الحروب الصليبية، وفي الحقيقة تحولت أخبار نشاطات بطرس إلى ما يشبه الأسطورة، فدعوة البابا أوربان الثاني كانت لها خلفيات قديمة ومعاصرة له، دور بطرس هو الأدنى تأثيراً فيها.

ما نريد أن نؤكده هنا أن المسلمين والمسيحيين في القدس لاقوا الويلات على أيدي التركمان ولم يفعل العرب المسلمون ما يشير إلى اضطهاد ضد المسيحيين، ومن الغريب أن بطرس الناسك قد شاهد بأم عينه هذا الاضطهاد الجماعي الذي لا يميز بين المسلمين والمسيحيين، لكن يبدو أن أوربان الثاني وقادة أوربا وجدوها فرصة سانحة لغزو الشرق العربي ونهب خيراته واستعماره قد ما يستطيعون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق