الخميس، 28 يوليو 2016

تاريخ ومجتمع 8 الطريق إلى الأقصى - بيت المقدس والعلاقات بين الدولة العباسية والإفرنج

تاريخ ومجتمع 8 الطريق إلى الأقصى - بيت المقدس والعلاقات بين الدولة العباسية والإفرنج



تزعم بعض المصادر الغربية أن هارون الرشيد- من خلال علاقاته بشارلمان والإفرنج- تعهد للملك الإفرنجي بوضع وصاية ما على بيت المقدس والأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين وحماية النصارى في هذا البلد، وقد أثيرت شبهات كثيرة حول موقف الخليفة العباسي هارون الرشيد من هذه المسألة، حتى تسببت في التشكيك بإيمان رجل وإخلاصه لحقوق المسلمين، فدرءاً لهذه الشبهات وقف كثير من الباحثين والدارسين موقف المحلل الموضوعي لهذه العلاقات ومن ثم نفى الشبهات التي يثيرها الإفرنج لتشويه الخليفة العباسي في نظر أبناء الإسلام.

الواقع أن أرض فلسطين وبيت المقدس هي أرض عربية منذ القدم وجاء الفتح الإسلامي زمن الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما تحريراً لهذه البقعة المقدسة من دنس الاستعمار والغزو الروماني البيزنطي.

ومع ذلك، فقد ترك المسلمون لمسيحيي أرض فلسطين حرية العبادة والحفاظ على الأماكن المقدسة المسيحية مثل كنيسة القيامة وكنيسة المهد وذلك بدءاً من عصر الخليفة الثاني عمر رضي الله عنه وحتى الآن.

وكان واضحاً أن العهدة العمرية قد حددت في بنودها خروج الرومان من القدس وأرض فلسطين وعدم سكن اليهود فيها وتركها لأصحابها الحقيقيين، وظل هذا التقليد سائراً في زمن الأمويين والعباسيين.

وكان طبيعياً أن تنصب الدولة والياً على فلسطين باعتبارها جزءاً من الدولة ومنحت الكنيسة في بيت المقدس صلاحيات دينية لا تتعداها إلى الشؤون السياسية والعلاقات الخارجية.

ولما كان المشرفون على الكنيسة في القدس هم من اليونان وليسوا من العرب تجاوزوا الصلاحيات الممنوحة لهم وأخذوا يقيمون علاقات مع دولة الإفرنج دون الرجوع إلى السيادة العباسية وسلطتها في بغداد، وأخذت هذه العلاقات منحى خطراً إذ افترضت أن شارلمان هو المكلف دينياً بالهيمنة على الأماكن المقدسة للمسحيين في القدس والشرق وهذا ما يخالف أبسط قواعد السيادة العباسية على أراضيها.

وقد ذكر بعض المؤرخين قيام سفارات يبن بطريركية بيت المقدس، وشارلمان ملك الإفرنج، وذكروا أن أربع بعثات زارت شارلمان متوجهة من فلسطين، وذكروا أن البعثتين بعثهما ملك الإفرنج إلى بيت المقدس، ولا يهمنا في هذا السياق سوى ما ذكر عن دور للرشيد في منح صلاحيات دينية وسياسية لشارلمان في الأرض المقدسة، وقد تأول الباحثون حول أهداف هذه العلاقات، فمنهم من قال إن هذه العلاقات وعلاقات الرشيد بشارلمان أدت إلى حصول شارلمان على صلاحية حماية الأماكن المقدسة في فلسطين، ومن هؤلاء برييه المؤرخ المعاصر المختص بالتاريخ الكنسي وفاسيلييف وبكلر مع توسع بكلر في هذا التأويل.

ويرى برييه أن بطريرك القدس بعث مبعوثاً للفرنج ليقنع شارلمان بقبول مهمة حماية النصارى في فلسطين، ويبني افتراضه على ما كان عليه النصارى هناك في ذلك الوقت من حال غير مرضية.

والواقع أن النصارى في فلسطين لم يكونوا في حال غير مرضية آنذاك حتى يطلب البطريرك من شارلمان حمايتهم، ثم إن الدولة العباسية لم تكن لتسمح بمثل هذا الطلب، والبطريرك كان يدرك أن مثل هذه الاتصالات في مثل هذا الموضوع كانت ستؤدي إلى غضب الدولة العباسية عليه كما غضبت على سابقه البطريرك إيليا الثاني الذي اتهم بأنه جاسوس لبيزنطة فنفي إلى بلاد فارس وظل هناك زمناً طويلا[1].

ونعيد على الأذهان والآذان أن البطاركة الذين كانوا يشرفون على الكنائس في فلسطين ليسوا من العرب بل جميعهم من الغربيين وظلوا كذلك إلى يومنا هذا.

والواقع أن بعثة البطريرك الذي يشرف على كنيسة القيامة كان هدفها التأكيد للبابا في روما أن نصارى الشرق العربي يؤيدون تقديس الأيقونات وهو ما تؤيده كنيسة روما ويذكر برييه أن بطريرك القدس قد بعث بمفاتيح كنيسة القيامة مع بعثته إلى شارلمان وذلك لتقديم البركة، ووضع البطريرك، ووضع البطريرك نفسه تحت حماية الملك الإفرنجي مباشرة.

ويرى غير برييه أن المصادر الأصلية لا تورد كلمة حماية في هذا المجال وتتفق أن المفاتيح وغيرها من الهدايا كانت بمثابة منح البركة المقدسة ليس أكثر.

أما ما قيل عن علاقة الرشيد بشارلمان وأنها أدت إلى اتفاق بينهما يجيز لشارلمان بسط حمايته على بيت المقدس، فإن المصادر العربية لا تشير إلى ذلك لا من قريب ولا من بعيد ولا لأي اتفاق، مثلما لا تشير إلى أي تبادل للعلاقات وينفرد المؤرخ أينهارد دون سواه بذكر منح الرشيد لشارلمان حماية بيت المقدس أو الوصاية عليه.

وتذكر بعض المصادر أن شارلمان قد قدم المساعدات المالية لبطريركية بيت المقدس مثلما قدم المساعدات لكثير من الكنائس المنتشرة في البلاد العربية، وهذا لا يعني بحال من الأحوال حماية بيت المقدس أو الوصاية عليه.

إن ادعاء الغربيين بأن علاقات ما كانت قائمة بين الرشيد والإفرنج وأن الرشيد منح شارلمان حق الوصاية أو الحماية على بيت المقدس يُقصد من ورائها عدة أهداف:



1- اعتبار تلك العلاقة وتلك المنحة تقليداً جرى عليه الخلفاء المسلمون، وهم رأس السلطة الدنيوية والدينية، فلذلك من حق ملوك أوروبا وزعمائها وراثة هذا التقليد حتى وقتنا الحاضر.

2- تبرير الهجمات الصليبية التي جاءت في خلال تسع حملات على بيت المقدس وبلاد الشام ومصر بدءاً من القرن الحادي عشر والتي استمرت قرنين من الزمن وتثبيت أن للإفرنج الحق في حماية النصارى في فلسطين والشرق العربي، ولهذا وجدنا البابا أوربان الثاني يحمس الفرنسيين وغيرهم على غزو بلاد الكفار!! من العرب الذين يضطهدون المسيحية وقبر المسيح حسب زعمه.

3- تشويه صورة الخليفة العباسي هارون الرشيد لأن هذا الخليفة حافظ على قوة الدولة العربية المسلمة أمام الفرنجة والبيزنطيين والطامعين بالقضاء على دار الخلافة الإسلامية.

4- إظهار عصر شارلمان وكأنه لا يقل حضارة وقوة عن حضارة الشرق الإسلامي وقوته بينما الحقيقة تقول إن أوروبا كانت تعيش فترة ظلام وهمجية تخيم على جميع مجالاتها الحضارية.

إضافة لذلك، فإن الإفرنج والبيزنطيين لم يرق لهم أن يكون العنصر الإسلامي الأقوى عالمياً، فلذلك حاولوا اختراع علاقات بين الرشيد وشارلمان ليقولوا إن دولة أوروبية كانت تنافس دولة الخلافة الإسلامية على مستوى العالم.

لقد ذهب الخيال ببعض المصادر الغربية إلى الإدعاء بقيام شارلمان متخفياً بالحج إلى القدس وجعل بعضهم حجه حملة عسكرية أوصلته إلى القدس، وبدأت الحكاية بعبارة تبجحية عارضة لدى إينهارد مؤرخ شارلمان وصديقه (ت سنة 840م) قال فيها : (كانت علاقاته مع هارون ملك الفرس الذي حكم الشرق كله تقريباً باستثناء الهند ودية جداً فقد آثر هذا الأمير مودته على مودة جميع ملوك الأرض وحكامها الأقوياء وعدّه وحده يستحق علامات التكريم والتشريف، وبناء عليه عندما مثل السفراء الذين أرسلهم شارلمان لزيارة الضريح الأعظم قداسة ووضع قيامة ربنا ومخلصنا بين يديه مع هدايا أعلنوا عن رغبات سيدهم، هو لم يمنحهم الذي سأله فقط بل أعطى ملكية تلك البقعة المباركة والمقدسة، وعندما عادوا بعث بسفرائه معهم، وبهدايا فخمة إضافة إلى كميات من العطور ومنتجات ثمينة أخرى من الأراضي الشرقية، وكان قبل عدة سنوات من هذا طلب شارلمان منه إرسال فيل فأرسل له الفيل الوحيد الذي امتلكه)[2].

وتعرض المؤرخ وليم الصوري إلى هذا الموضوع، فتحدث عن إبرام معاهدة ما بين الرشيد وشارلمان من خلال عمل الرسل الذين ترددوا بينهما جيئة وذهاباً لعدة مرات ثم أورد كلام إينهارد الذي تقدم، وذكر بأن شارلمان كان يرسل المساعدات إلى جميع المسيحيين الفقراء في سورية ومصر وأفريقيا والإسكندرية وقرطاج[3].

ومع ذلك يبدو أن مالاً قد أرسله شارلمان جرى استغلاله في بناء دار ضيافة للزوار والحجاج[4]على كل حال، فإن الدولة العباسية، كما حال الدولة الأموية وحال دولة صدر الإسلام لم تفرط بالأرض المقدسية، بل كانت أكثر حرصاً على المستوى الرسمي، وإذا كان السلاطين المماليك والأيوبيون لم يفرطوا بشبر من أرض الأقصى وهم على ما هم عليه من الانقسام والضعف فكيف بهارون الرشيد وهو الذي كانت الدولة الإسلامية في عهده على قدر هائل من القوة والتفرد على الصعيد العالمي وليس هناك دولة تضاهيها كيف به يفرط بالقدس ويتركها تحت وصاية شارلمان الإفرنجي؟ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق