السبت، 30 أبريل 2016

عهد الدولة العامرية والفتنة (1)

عهد الدولة العامرية والفتنة (1) 
 
{ للأمانة...الكاتب ::راغب السرجاني}
كيف نشأت الدولة العامرية؟ وكيف انتهت؟
يعتبر محمد بن أبي عامر هو مؤسس هذه الدولة، وتبدأ قصته عندما كان أحد الوصايا على هشام بن الحكم، وبدأ في التخلص من باقي مجلس الوصاية، وسيطر على الخليفة صغير السن، وبدأ يقوِّي نفوذه في الدولة، حتى إنه عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور. وتبدأ هذه الدولة فعليًّا منذ سنة 366هـ/ 976م، وظلت حتى سنة 399هـ/ 1009م، ولكنها كانت تابعة للدولة الأموية؛ لأن هشام بن الحكم كان ما زال يحكم ولو بشكل رمزي، وبعد وفاة الحاجب المنصور سنة 392هـ/ 1002م تولى الحجابة بعده عبد الملك بن المنصور، وتوفي عبد الملك بن المنصور سنة 399هـ/ 1009م، وتولى أمر الحجابة من بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور، ولكنه كان ظالمًا فقتله الناس، وعزلوا هشام بن الحكم وتنتهي الدولة العامرية.
انتشار الفتن بعد سقوط الدولة العامرية، ويبدأ عهد يعرف باسم ملوك الطوائف.
تميزت هذه الفترة بكثرة الفتن والصراعات، مثل التي حدثت بين المهدي الذي تولى الحكم بعد هشام بن الحكم وبين سليمان بن الحكم الذي أعلنه البربر خليفة، وتحدث الكثير من النزاعات لتصل إلى الدرجة التي تجعل البعض يستعين بالنصارى، ثم يتدخل البربر ويعلنون خليفة منهم يسمى علي بن حمود، ولكن العامريين يتدخلون محاولين إعادة نفوذهم مرة أخرى، ويعلنون أحد الأمويين ويسمى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله خليفة، ولقبوه بالمرتضى بالله، وتدور الكثير من الصراعات بين البربر والعامريين، ويحاول العلماء التدخل لإصلاح هذه الأوضاع، ويعلنون قيام مجلس شورى لكي يحكم، وبالفعل يتولى الحكم ولكنه كان يسيطر على قرطبة فقط، أما باقي بلاد الأندلس فكانت تعيش في حالة من الفوضى والدمار، ومن ثَمَّ تنقسم الأندلس إلى دويلات متفرقة، ويبدأ عهد جديد يسمى "عهد ملوك الطوائف".
ولكن ما أسباب التحول من القوة إلى الضعف؟ وما مكانة المسلمين اليوم بين القيام والسقوط؟
إن التحول من القوة إلى الضعف سنة من سنن الله - سبحانه وتعالى -، فإن أية دولة تبدأ من مرحلة النمو ثم تنمو هذه الدولة لتصل إلى مرحلة القوة والازدهار، ثم تبدأ الدولة في الانهيار تدريجيًّا حتى تصل إلى مرحلة الشيخوخة.
والأمة الإسلامية تنفرد بأنها أمة لا تموت ودائمًا في قيام، فإذا سقطت أتبع السقوطَ قيامٌ، أما بالنسبة إلى الوضع اليوم في العالم الإسلامي فلا يوجد خلافة إسلامية ولا تطبيق للشرع، ولكن ما نراه اليوم من كثرة عدد المصلين والمحجبات، والصحوة الجهادية في البلدان المحتلة يشير إلى أن إصلاح هذه الأمة سيكون قريبًا بإذن الله - سبحانه وتعالى -.
الحَكَمُ بنُ عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، وكبوة الجواد
بالرغم من أنه كان من أفضل الحكام المسلمين على الأندلس إلا أن الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر في آخر عهده قد أخطأ خطأ جسيمًا، فقد أصيب في آخر أيامه بالفالج (شلل)، فقام باستخلاف أكبر أولاده هشام بن الحكم وعمره آنذاك اثنتا عشرة سنة فقط، استخلفه على بلاد الأندلس وفوقها بلاد النصارى في الشمال، ومن تحتها الدولة الفاطمية في الجنوب، وكل ممالك أوروبا تتشوق إلى الكيد بهذه القوة العظيمة وهزيمتها.
وهي بلا شكٍ زلّة خطيرة من الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر؛ إذ كان عليه أن ينتقي من يستخلفه لهذه المهمة الجسيمة، ويولّي رجلًا آخر من بني أميّة، يستطيع أن يقوم بالأعباء الثقيلة لمهمة حكم دولة قوية، كثيرة الأعداء، متسعة الأطراف، ومترامية الأبعاد كدولة الأندلس.
توفي الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر - رحمه الله - سنة 366 هـ= 976 م، مستخلفًا على الحُكم ابنه الطفل الصغير هشام بن الحكم، وقد جعل عليه مجلس وصاية مكون من ثلاثة أشخاص:
الأول: الحاجب: وهو جعفر بن عثمان المصحفي، والحاجب أي الرجل الثاني في الدولة بعد الخليفة مباشرة، وهو بمثابة رئيس الوزراء حاليًا.
الثاني: قائد الشرطة: وهو محمد بن أبي عامر، وكان من اليمن.
الثالث: أم هشام بن الحكم، وكان اسمها (صُبْح).
محمد بن أبي عامر ت 392 هـ= 1002 م
كان محمد بن أبي عامر يملك طموحات ضخمة وآمال كبيرة أطمعته في أن يكون واليًا على هذه البلاد، ولتحقيق هذا الحلم قام بعدة مكائد غاية في الظلم والقسوة، فعمل على الآتي:
أولًا: فكر في التخلص من الوصيين اللّذَيْن كانا معه على هشام بن الحكم، فدبر مكيدة سجن فيها الحاجب (جعفر بن عثمان المصحفي) ثم قتله بعد ذلك، ثم نظر إلى أمر أم هشام بن الحكم فوجد أن موقفها ضعيف بالنسبة له كقائد شرطة فتركها في قصرها، ثم تقلّد هو الأمور وحده، وبدأ يحكم بلاد الأندلس باسم الخليفة الصغير هشام بن الحكم.
ثانيًا: أراد محمد بن أبي عامر بعد ذلك أن يقوّي جانبه أكثر مما كان عليه، فتزوج من ابنة أمير الجيش غالب بن عبد الرحمن، وبذلك يكون قد حيّد جانب أمير الجيش، وضمن ولاء الجيش الأندلسي له، وحين انتبه غالب بن عبد الرحمن -أمير الجيش ووالد زوجته- له وعلم نيّاته وخطته وأفصح له عن ذلك، دبّر محمد بن أبي عامر له مكيدة أيضًا ثم قتله.
ثالثًا: لم يكتف محمد بن أبي عامر بذلك، فقد قام باستدعاء جعفر بن علي بن حمدون قائد الجيش الأندلسي في المغرب، (كانت المغرب قد ضمت إلى بلاد الأندلس في عهد الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر كما ذكرنا)، استدعاه إليه وقربه منه، واستفاد كثيرًا من قوته، ثم دبّر له مكيدة أيضا وقتله، وكان كلما قتل شخصاً عيّن مكانه مَن يعمل برأيه وبوصاية منه، وبذلك يكون قد تملّك من كل الأمور في الأندلس.
رابعًا: وبنظرة طويلة إلى الأمام بدأ محمد بن أبي عامر يقنع الخليفة الصغير هشام بن الحكم بالاختفاء في قصره بعيدًا عن العيون؛ وذلك - كما يزعم - خوفاً عليه من المؤامرات، وأن على الخلفاء أن يتفرغوا للعبادة، ويتركوا أمور الناس لرئاسة الوزراء، أو لقوة الشرطة، أو غيرهما، وهكذا أقنعه، وقام هو بإدارة دفّة البلاد، ورُبّي ونشأ هشام بن الحكم الطفل الصغير على هذا الفهم.
بروز نجم محمد بن أبي عامر (الحاجب المنصور)
مرت السنوات ومحمد بن أبي عامر يتولى كل شيء في بلاد الأندلس، وهشام بن الحكم يكبر في السن لكنه لم يكن يعرف شيئًا عن الحكم، وتحمُّل المسئولية، وفي 371هـ= 982م وبعد حوالي خمس سنوات من تولي هشام بن الحكم الأمور ووصاية محمد بن أبي عامر عليه، كان الأمر قد استَتَبَّ لمحمد بن أبي عامر، ولقّب نفسه بالحاجب المنصور.
وكان من عادة الخلفاء قبل ذلك أن يطلقوا على أنفسهم ألقابًا تميزهم ويُعرفون بها، وعليها كانوا يؤملون، وذلك مثل: الناصر بالله، الحاكم بأمر الله، المؤيد بالله، لكن هذه هي أول مرة يقوم فيها الوصي أو رئيس الوزراء أو الحاجب بأخذ لقب لنفسه وهو المنصور، الأمر الذي تطور كثيرًا حتى أصبح يُدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم، ثم نقش اسمه على النقود، وعلى الكتب والرسائل.
وإتمامًا لذلك وكما أنشأ عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر - رحمه الله - مدينة الزهراء في الشمال الغربي من مدينة قرطبة؛ لتكون مركزًا لخلافته، قام محمد بن أبي عامر بإنشاء مدينة جديدة في شرق قرطبة سمّاها مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية.
وبدأ محمد بن أبي عامر ينقل الوزارات، ودواوين الحكم إلى مدينة الزاهرة، وأنشأ له قصرًا كبيرًا هناك، وبدأ يجمّل فيها كثيرًا، حتى أصبحت مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية هي المدينة الأساسية في الأندلس، وبها قصر الحكم.
الدولة العامرية 366 - 399هـ= 976 - 1009م
بعد التمهيدات السابقة وفي الطريق نحو عهد جديد من تاريخ الأندلس قام محمد بن أبي عامر بعمل الآتي:
أولًا: في سنة 381هـ= 991م قام بأمر لم يعهد من قبل في تاريخ الأندلس، بل في تاريخ المسلمين، حيث عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور، وكان المشهور والمتعارف عليه أن الخليفة وحده هو الذي يعهد بالخلافة من بعده.
ثانيًا: وتمهيدًا لإقامة مُلْك على أنقاض بني أمية، قام في سنة 386هـ= 996م بتلقيب نفسه بلقب الملك الكريم، كل هذا وهشام بن الحكم الخليفة يكبر في السن، لكن ليس له من الأمر شيء.
ثالثًا: قام محمد بن أبي عامر بعد ذلك بعمل خطير أدى - فيما بعد وعلى ما سنرى - إلى انقساماتٍ كثيرة في بلاد الأندلس، فقد كان محمد بن أبي عامر يمنيًا، واليمنيون في الأندلس ليسوا بكثرة، ولخشيته من الاستعانة بالقبائل المضرية، وقبائل بني أمية معه في الجيش، وبقية الأمور؛ فكّر أن يستعين بعنصر آخر وهم البربر، فبدأ يعظّم من أمرهم، ويرفع من شأنهم؛ حتى يضمن ولاءهم.
بدأ العامريون يكثرون في أماكن الحكم في بلاد الأندلس، وبدأ التاريخ يسجل لهم عهدًا جديدًا سماه: الدولة العامرية، وقد بدأت فترة هذه الدولة فعليًا منذ سنة 366هـ= 976م، ومنذ أن تولى محمد بن أبي عامر أمر الوصاية على هشام بن الحكم، وظلت حتى سنة 399هـ= 1009م أي أنها استمرت ثلاثًا وثلاثين سنة متصلة، لكنها تعتبر داخلة في فترة الخلافة الأموية؛ لأن هشام بن الحكم الأموي لا زال هو الخليفة، حتى وإن كان رمزًا أو بعيدًا عن مجريات الأمور.
جوانب مضيئة في حياة محمد بن أبي عامر:
كما رأينا فقد تولّى محمد بن أبي عامر الحكم منذ سنة 366هـ= 976م وحتى وفاته - رحمه الله - في سنة 392هـ= 1002م، وقد بدأ عهده كما رأينا بمكائد ومؤامرات وقتلٍ - على الأقل - لثلاثة أنفس، حتى وصل إلى تولّي كافة الأمور في الأندلس.
ومن العجيب حقًا أنه - بالرغم من أفعال محمد بن أبي عامر هذه - إلا أنه كانت له محامد وجوانب مضيئة في حياته، جعلت جميع المؤرخين يتعجبون من سيرته، ويقفون في حيرة من أمره، ومن هذه الجوانب ما يلي:
أولا: كان مجاهدًا... كان غريباً حقاً أن يغزو محمد بن أبي عامر في حياته أربعًا وخمسين غزوة لم يُهزم أبدًا في واحدة منها، بل كان الأغرب من ذلك هو أن يصل (الحاجب المنصور أو محمد بن أبي عامر) في فتوحاته إلى أماكن في مملكة ليون وفي بلاد النصارى لم يصل إليها أحد من قبل، بل لم يصل إليها الفاتحون الأوائل مثل موسى بن نصير وطارق بن زياد، فقد وصل الحاجب المنصور إلى منطقة الصخرة، تلك المنطقة التي لم تُفتح من قِبَل المسلمين من قبل، واستطاع - رحمه الله - أن يغزو النصارى في عقر دارهم، وها هو قد وصل إلى خليج بسكاي والمحيط الأطلسي في الشمال.
وكان من المتعارف عليه قبل ذلك أن الجهاد في الصوائف فقط، إلا إن الحاجب المنصور كان له في كل عام مرتان يخرج فيهما للجهاد في سبيل الله، عُرفت هاتان المرتان باسم: الصوائف والشواتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق