السبت، 30 أبريل 2016

حياة الزعيم إبراهيم هنانو - 2-

 حياة الزعيم إبراهيم هنانو - 2-

كان وضع الثورة قد أصبح حرجاً، فقد خسرت العديد من مجاهديها الأبطال، ونفذت الذخيرة من أسلحة المقاتلين، فيما كانت القوات الفرنسية تلاحقهم في كل قرية وناحية. على إثر ذلك، دعا الزعيم إبراهيم هنانو لمؤتمر عام حضره جميع قادة الثورة وشرح لهم وضع الثورة وتباحث معهم في أفضل ما يمكن فعله. وقد انقسم المجاهدون في آرائهم، فمنهم من رأى الالتجاء للأراضي التركية المتاخمة حتى يتمكن من شن الغارات على المستعمرين كلما سنحت الفرصة، وكان المجاهد نجيب عويد من أنصار هذا الرأي، فيما رأى الزعيم هنانو الذهاب إلى الأردن إلى كنف الهاشميين ووافقه في ذلك جمع من المجاهدين، أما الفريق الثالث فكان معظمه من كبار السن، وممن تقعده مسؤولياته العائلية عن السفر والرحيل فآثر البقاء على أن يبقى رهن إشارة قائد الثورة للعودة إلى الجهاد في أي وقت. وعلى ذلك سارت كل فئة إلى سبيلها. 

وفي ليلة 11-12 تموز 1921 توجه هنانو ورفاقه إلى شرق الأردن عن طريق بادية الشام، ولكنهم تعرضوا للعديد من المتاعب والمعارك، وجرت معركة كبيرة بالقرب من مدينة حماة سميت معركة مكسر الحصان بين الثوار والفرنسيين، استشهد فيها العديد من الثوار، وكانت القوات الفرنسية تسعى لأسر إبراهيم هنانو حياً ومحاكمته. وأخيراً، وصل هنانو وحده إلى جبل العرب، ومنه تمكن من المغادرة إلى عمان. ولم يطل المقام كثيراً بهنانو في الأردن، إذ لم يرحب الأمير عبد الله بمساعدته، فتوجه إلى فلسطين، وهناك قبضت عليه السلطات البريطانية في القدس وسلمته للفرنسيين الذين وضعوه في السجن المركزي في حلب تمهيداً لمحاكمته. 

قدم "إبراهيم هنانو" إلى المحاكمة، وقد طالب المدعي العام الفرنسي بمرافعته الطويلة إعدام "هنانو" ومما جاء في معرض مرافعته:

«لو كان "لإبراهيم هنانو" سبعة رؤوس، بعدد جرائمه، لطلبت إعدام رؤوسه السبعة، ولكنه لا يملك إلا رأساً واحداً».

لكن المحكمة خوفاً من تصاعد الثورة وخوفاً من غضب الشعب وهي تدرك حب الشعب "لهنانو" واحترامهم لتوجهاته الوطنية والثورية قررت براءته.


محاكمة الزعيم هنانو


تم تقديم إبراهيم هنانو إلى المحاكمة، حيث طالب المدعي العام الفرنسي في مرافعة طويلة بإعدام هنانو قائلاً: «لو كان لإبراهيم هنانو سبعة رؤوس بعدد جرائمه، لطلبت إعدام رؤوسه السبعة، ولكنه لا يملك إلا رأساً واحداً». إلا أن المحكمة خافت من غضب الشعب وحبه لهنانو فقررت براءته. وفيما يلي إحدى أكثر القصص شيوعاً عن هذه المحاكمة: 

غلاف كتاب ندوة تكريمية لإبراهيم هنانو

«في منتصف شهر آب 1921 شاع في المدينة أن ابراهيم هنانو وصل إلى حلب موقوفاً وأودع السجن العسكري الذي كان يومئذٍ في الخان المعروف باسم خان استانبول في محلة السويقة بحلب .كان هنانو مسجوناً في سجن انفرادي عندما زاره المحامي الشاب فتح الله صقال .سأله المحامي : أشكر لك ثقتك بي، ولكن لم أفهم لتصرف النائب العام الفرنسي معنى وهو الخصم الأكبر في قضيتك، ما الذي دفعه إلى إرسال كتاب بالسماح لي بزيارتك في السجن وأنا لا علم لدي بأنك قد وكلتني أصلاً بالدفاع عنك؟
أجاب هنانو: لقد عرض علي كثيرون من زملائك أن يدافعوا عني، وفجأة، خطر لي أن أستحلف النائب العام بشرفه العسكري أن يدلني على المحامي الذي يختاره هو فيما لو كان متهماً مثلي.
وقد رفض النائب العام في بادئ الأمر أن يجيب على سؤالي هذا ولكنه ما لبث ان أسرّ في أذني، أنه لو كان متهماً لاختارك أنت للدفاع عنه.
يقول فتح الله صقال في مذكراته: لقد كان هنانو رجلاً ذكي النفس، صلب العقيدة قوي الإرادة، وكانت عيناه تشعان بنور غريب وتكادان تقذفان شرراً.
استغرقت الزيارة ساعتين متواصلتين تبادل فيها الطرفان الأحاديث، وبعدها، صعد المحامي إلى مكتب النائب العام وشكره على ثقته فقال له هذا الأخير :إذا وفقك الله وانتصرت عليّ فسأكون أول من يهنئك.
ثم وضع ملف الدعوى بين يدي المحامي الذي أخذ بمطالعتها بإسهاب، ثم اتضح له ما يلي :
- أن حرباً قد دارت بين الجيش الفرنسي من جهة وبين هنانو ورجاله من جهة أخرى.
- أن هنانو قابل الجنرال غوبو قائد الحملة الفرنسية ضد الثورة السورية ليتفق معه على شروط الهدنة.
- أن هدنة قد عقدت بين الطرفين مرتين متواليتين.
- أن الفريقين تبادلا الأسرى.

ونتيجة لهذا الكلام فإنه لا يمكن اعتبار هنانو مجرماً عادياً ولا حتى مجرماً سياسياً وهذه النظرية لا تحتمل الشك، إلا أن الخطير في الأمر هو أن الخصم في القضية سيكون هو نفسه الحاكم فيها، والمعروف أن المحاكم العسكرية تتأثر بالعاطفة أكثر مما تتأثر بأحكام القانون.
ولهذا، رأى المحامي أن يسعى لدى الجنرال غورو – المفوض السامي والقائد العام للجيش الفرنسي والرئيس الأعلى للقضاء العسكري – ليوقف سير تلك الدعوى المحفوفة بالمخاطر، فأرسل له كتاباً بيّن فيه نظريته لأسباب جمة ومنها :
- أن هنانو قام بثورته مطالباً بحرية بلاده، والمطالبة بالحرية لا تعد جرماً، بل حقاً طبيعياً اعترفت به الدول الكبرى ومنها أميركا بلسان رئيسها ولسن الذي اشتهر ببنوده الأربعة عشر.
- أن السلطة العسكرية الفرنسية نفسها اعترفت بأن هنانو ورجاله يشكلون طرفاً محارباً.
- اللقاءات التي تمت بين هنانو والقادة العسكريين الفرنسيين والاتفاقيات التي عقدت بين الطرفين.
ثم أشار المحامي إلى أن إلقاء القبض على هنانو في فلسطين وتسليمه إلى السلطة الفرنسية في سورية يخالف قواعد القانون الدولي.
ولهذه الأسباب الوجيهة، طلب المحامي أن يعاد هنانو إلى فلسطين أو أن يطلق سراحه في الأراضي السورية.
جاء الرد من القيادة الفرنسية بأن هنانو متهم بجرائم عادية لا بجرائم سياسية، وأنه لا بد من السير في الدعوى وانتظار نتيجة التحقيقات.

استمرت التحقيقات حوالي الستة أشهر، وكان كل طرف يستعين بالوثائق والشهود دفاعاً عن وجهة نظره في القضية. وفي محاولة أخيرة من المحامي، بعث الأخير كتاباً ثانياً إلى الجنرال غورو يطلب فيه اعتبار هنانو تابعاً من الناحية العسكرية للجيش النظامي التركي الذي كان يمده بالسلاح والعتاد وبالتالي شموله بالعفو العام عن الجرائم السياسية التي ارتكبت أثناء العمليات العسكرية بين الفرنسيين والأتراك. فكان جواب المفوض السامي بأن القضية قد أصبحت بين يدي السلطة القضائية العسكرية وأنه لا بد من انتظار قرارها.

تبلغ المحامي أن المحاكمة ستبدأ في الخامس عشر من آذار 1922 في دار الحكومة (السراي القديمة) وفي الغرفة المعدة لمحكمة الجنايات الأهلية.
وفي اليوم المعين للمحاكمة، اصطف الجنود السنغاليون على جانبي الطريق الممتد من بناية البريد القديمة (في باب الفرج) إلى مدخل دار الحكومة (جانب المبنى القديم للهجرة والجوازات) فقاعة محكمة الجنايات، وغصت جميع الطرقات بالألوف من المواطنين، وقاعة المحكمة بالمحامين والمستمعين.
وفي تمام الثامنة صباحاً، خرجت الهيئة الحاكمة بألبستها الرسمية وسيوفها اللامعة وكفوفها البيض، وكانت مؤلفة من خمسة أعضاء وكانت النيابة العامة ممثلة أيضاً وكانوا جميعاً من الفرنسيين.

ساد القاعة سكوت رهيب، واستهلت الجلسة أعمالها بتكليف المحامي بإلقاء دفاعه الأول الذي استمر ساعة كاملة، وكانت اللغة الفرنسية هي المعتمدة بلا شك في الدفاع.
بدأ المحامي بالكلام: «في هذه الساعة الخطيرة التي تتأرجح فيها حياة رجل، يجب أن يتلاشى من هذا المكان كل ميل وهوى، لأنكم بجلوسكم منذ برهة على هذه المنصة قد فقدتم صفتكم العسكرية الفرنسية، ولم تحتفظوا إلا بصفة القضاة الحياديين.عليكم أن تسكتوا جميع الأصوات ما عدا صوت الضمير الذي يجب أن يسود هنا لأنه وحده يستطيع أن يحكم بدون حقد ولا وجل. إن الرجل الماثل أمامكم ليس بالرجل الذي وصفه النائب العام، لأن من يناضل من أجل حرية بلاده ومن يعمل في سبيل هدف سام دون أن يخشى التضحية بحياته وبأمواله ليقينه أنه على حق وسداد لا يستحق أن يلقى على هذا المقعد. لقد اقتنع هنانو أن سورية جديرة بإدارة شؤون أبنائها بنفسها، وإذا كانت قد تخلصت من نير، فليس معنى ذلك أن تقع تحت نير ثان. الوطن كلمة يهتز لها كل إنسان لأنها تختلج في أعماق كيانه، هو الأرض التي يثوي تحت أديمها الآباء والأجداد والتي يرغب كل مواطن في أن يرقد بين طياتها رقاده الأخير. هل لكم الصفة التي تخولكم حق محاكمة هنانو؟ لا يجوز لكم محاكمته بحسب قانونكم، فما سنت القوانين إلا لتطبق، وقانونكم لا يعطي المحاكم العسكرية الحق في النظر في هذه القضية، وأطلب أن تعلنوا عدم صلاحيتكم في مقاضاة ابراهيم هنانو».

اختلت المحكمة نحو نصف ساعة وعادت وأعلنت بإجماع الآراء صلاحيتها للنظر في قضية هنانو. بهذا خسر المحامي جولته الأولى في عدم صلاحية المحكمة للنظر في الدعوى، فلجأ إلى معركته الثانية بشأن عدم قانونية إخراج هنانو من فلسطين. كان واضحاً أن الاتفاق المعقود بين المفوض السامي الفرنسي وبين المفوض السامي الإنكليزي بشأن تبادل المجرمين جاء فقط لتسليم هنانو على الرغم من عدم شرعية هذا الاتفاق نظراً لتجاوزه أحكام الدستور الفرنسي من حيث وجوب تصديق مثل هذه الاتفاقات من قبل البرلمان الفرنسي. عادت الهيئة إلى غرفة المداولة بعد هذا، لتخرج وترد الدفاع الذي تلاه المحامي وبأغلبية أربعة أصوات من أصل خمسة، أي أن قاضياً عسكرياً فرنسياً واحداً اقتنع بوجهة نظره، فشعر المحامي بنفحة من الأمل، وأصبح يتوق إلى معرفة الضابط الذي تبنى نظريته.

عقدت جلسة ثانية بعد الظهر، بدأت بتلاوة لائحة الاتهام من قبل كاتب الضبط، وعزي فيها إلى هنانو سبعة أنواع من الجرائم، ثم بدأ الرئيس باستجواب هنانو عن كل جريمة من الجرائم المنسوبة إليه. كان هنانو يمتاز بالنباهة والذكاء، والثقافة والجرأة، وهي صفات سهلت مهمة المحامي كثيراً.
وراح هنانو يرد الاتهامات التي كان يوجهها له الرئيس أثناء استجوابه :«إنني متهم سياسي فقط، ولو كنت مجرماً عادياً لما فاوضني ممثلكم الجنرال غوبو بشأن عقد هدنة ومبادلة الأسرى، ولما عقدت معي حكومة أنقرة التي تعترفون بها اتفاقاُ، لأن الحكومتين الفرنسية والتركية أسمى وأجلّ من أن تتنازلا لمفاوضة مجرم شقي. أنا ثائر سياسي أدافع عن وطني، وقد جاهرت وسأجاهر بأنني أتبرأ من كل مجرم سفّاك».
سأله الرئيس: من اضطرك إلى أن تحارب؟
أجابه: عندما أهاجم، أغدو مضطراً لأن أدافع عن نفسي.
فقال له: لو بقيت آمناً مطمئناً في منزلك لما حدث ما حدث، ولما وقفت هذا الموقف.
أجابه هنانو على الفور: هذا اجتهاد خاص، ولا يلام المرء على اجتهاده.

استأنفت المحكمة أعمالها في اليوم التالي وبدأت بسماع شهود الإثبات وكان عددهم يربو على السبعين، وقد استغرق سماعهم أربعة أيام متوالية حدث خلالها جدال عنيف بين النيابة والدفاع في تفنيد الشهادات. ثم جاء دور شهود الدفاع، وكان من بينهم السادة: فاخر الجابري، سعد الله الجابري، الدكتور عبد الرحمن الكيالي، شاكر نعمت الشعباني ، أحمد المدرس ، الشيخ عبد الوهاب طلس ، الشيخ كامل الغزي، عبد الوهاب ميسر، والأستاذ راشد المرعشي وغيرهم. كانت شهاداتهم كلها تؤيد ما يتحلى به إبراهيم هنانو من وطنية صادقة ومبادئ عالية وتجرد تام.

وفي اليوم السابع من المحاكمة طلب الرئيس من النائب العام الفرنسي أن يبدي مطالعته، فتحدث حوالي ثلاث ساعات وختم المطالعة بالقول: لو كان لإبراهيم هنانو سبعة رؤوس بعدد جرائمه السبعة لطلبت إعدام رؤوسه السبعة، ولكنه لا يملك إلا رأساً واحداً. ولما طلب الرئيس من المحامي إلقاء دفاعه شعر الأخير برعشة قوية اهتز لها كيانه لأنه أدرك خطورة الموقف وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه في ذلك اليوم المشهود، لأنه إما أن يخرج من موقفه الخطير مخذولاً وإما أن يفوز وينقذ حياة أحد زعماء الأمة.

وهكذا، بدأ المحامي بالحديث عن التهم الموجهة لهنانو تهمة تهمة ويبدي دفاعه فيها، وكان أولها وأهمها تهمة تشكيل عصابة من الأشقياء، وترمي هذه التهمة إلى أن هناك اتفاقاً جنائياً تم بين هنانو ورفاقه في الثورة. وكرر المحامي الدفاعات التي تعلقت بالمفاوضات مع القوات الفرنسية وكيف أن هنانو كان مدعوماً من القوات النظامية التركية وكيف تم تبادل الأسرى، ومن الجدير بالذكر هنا هو أنه عندما عرض الكولونيل الفرنسي فوان على هنانو أن يبقى رهينة عند رجال الأخير كنوع من الضمانة ريثما ينتهي لقاءه مع الجنرال غوبو، فإن نبل أخلاق هنانو وسعة مروءته دفعته إلى رفض هذا العرض قائلاً أنه واثق بالشرف العسكري الفرنسي.
واشتدت لهجة المحامي شيئاً فشيئاً موحياً إلى المحكمة أن الجزء الأهم من المرافعة على وشك السرد فقال الأستاذ فتح الله صقال :«إن هنانو قام بثورته مدفوعاً بعاطفة وطنية نبيلة تماثل العاطفة التي هزت فرنسا من أقصاها إلى أقصاها حينما احتلت ألمانيا عام 1914 بعض البلاد الفرنسية، فأبى الفرنسيون أن تداس أرض الوطن، وهبّوا يقاتلون ويستبسلون في الكفاح، حتى خرجت فرنسا من حومة النضال منتصرة ظافرة بعد أن ضحت بمليونين من شبابها، وبعد أن أمست كثير من مدنها الزاهرة أطلالاً دوارس. إن الوطنية ليست وقفاً على فرنسا وأبنائها، وإنما هي عاطفة طبيعية متغلغلة في أعماق النفوس، تشعر بها كل أمة من أمم الأرض ومنها الأمة السورية».

كان لتلك الكلمات وقع مغاير على أسماع من كان حاضراً وعلى رأسهم الهيئة الحاكمة. ثم أنهى المحامي دفاعه عن التهمة الأولى وأتبعه بالدفاع عن التهم الست الباقية المتفرعة عن التهمة، ثم ختم المحامي ساعات من المرافعة فقال :«نتقدم إليكم برجاء أخير وهو أن تنسوا للحظة واحدة أنكم ضباط فرنسيون وأن تتجردوا لحظة واحدة عن بزاتكم العسكرية الأنيقة، وأن تعودوا رجالاً عاديين وأن تقدروا المسؤولية الثقيلة الملقاة على كواهلكم، وأن تخوضوا إلى أعماق ضمائركم، ثم تصدروا قراركم الذي لن يكون إلا قرار براءة، إنكم ستبرؤون هنانو لأن الوطنية ليست جريمة، ولأن الوطن السوري ليس كلمة باطلة جوفاء، وباسم العدالة أعيدوا الحرية إلى هنانو».

وبعد كل ذلك ختم رئيس المحكمة المرافعات، ثم دخل ورفاقه القضاة إلى غرفة المذاكرة للتداول في هذه القضية الكبرى ولإعلان القرار النهائي. وبعد انقضاء ساعتين في غرفة المذاكرة عادت الهيئة الحاكمة إلى منصة القضاء لتلفظ حكمها، فنهض المستمعون نهضة واحدة، وظل القضاة واقفين، وقد خيم على الجميع جو من الرهبة والخشوع. كانت الأنظار كلها متجهة إلى الرئيس الذي بدأ بتلاوة الأسئلة والإجابة عليها بكلمتي نعم أو لا.
وكان السؤال الأول: هل هنانو مذنب بتشكيل عصابة من الأشقياء للنهب والسلب؟
وما كاد الرئيس يجيب على السؤال الأول بكلمة «لا» حتى علم المحامي وكل من كان حاضراً بأن البراءة من نصيب هنانو من جميع التهم المنسوبة إليه.
وهذا ما تم في تلك الساعة المهيبة، فكلما طرح الرئيس سؤالاً كان الجواب «لا» بأكثرية ثلاثة أصوات ضد صوتين من أصوات القضاة .
ولما انتهى الرئيس وأعلن براءة هنانو دوت قاعة المحكمة بالتصفيق الحاد، وسرت الهتافات كتيار الكهرباء في أرجاء دار العدل وباحة السراي والشوارع المجاورة مرددة: فليحيى العدل، فليحيى هنانو.

كانت الساعة قد قاربت التاسعة مساءاً وكانت الجماهير المحتشدة داخل دار الحكومة وخارجها تقدر بثلاثين ألفاً ونيف. وقد تعذر على المحامي الخروج من قاعة المحكمة فحمله الشيخ رضا الرفاعي على ذراعيه القويتين، وتمكن من المرور بين الكتل البشرية المتراصة، وأوصله إلى النائب العام الذي كان ينتظره في السيارة أمام باب السراي ليذهبوا إلى السجن العسكري ويبلغوا هنانو قرار المحكمة.

يبدو في الصورة الزعماء: إبراهيم هنانو - الدكتور عبد الرحمن الكيالي - السيد رشدي الكيخيا - الشيخ نجيب باقي
في زيارة لآل زيتوني بغية تأسيس الكتلة الوطنية لمقارعة الاستعمار الفرنسي

لكن لماذا لم يحضر هنانو جلسة النطق بالحكم؟ لقد ارتأت السلطة الفرنسية العسكرية أن تعيد هنانو إلى السجن قبل إصدار الحكم تحاشياً لأي حادث مفاجئ يمكن أن يقع. وكان هتافات الجماهير التي علت خارج السجن كفيلة بتفهيم هنانو أن براءته قد أعلنت. وأطلق سراح هنانو على الفور، وكان بانتظار هنانو ومحاميه فتح الله صقال على باب السجن عربة ذات حصانين، وما كادا يركبانها حتى تدفقت الجماهير كالسيل الجارف، فحلت الحصانين وراحت تجر العربة بدلاً منهما، حتى وصلوا إلى دار هنانو.

وتبعت يوم البراءة أيام مشهودة، لبست فيها الشهباء حلل الزينة، ونعمت خلالها بالأفراح والمسرات، وهرعت إليها من البلدان السورية ومن كثير من الأقضية والضواحي جموع المهنئين وجماهير الوطنيين، وساروا إلى دار الزعيم إبراهيم هنانو الذي لم يذق للنوم طعماً مدة ثلاثة أيام متوالية.

وفي صبيحة يوم الأحد الذي تلا يوم صدور البراءة، جاءت إلى دار المحامي أربعون عربة تحمل وجوه القوم وأقطاب الحركة الوطنية يتقدمهم الزعيم إبراهيم هنانو، وما كاد يرى والدة المحامي ترحب به وبصحبه حتى قبّل الزعيم يدها، ثم صافح والده، وراح يعبر بكلامه العذب البليغ عن شعوره الفياض بما أبداه ولدهما في سبيل الدفاع عنه. ثم شكر الشيخ رضا الرفاعي - وكان الفدائي الأول بين فدائيي هنانو- بدوره المحامي باسم الوفد ما بذله من مساع وجهود شاء الله أن تكلل بالنجاح وأن ينقذ ذلك الزعيم الكريم المحبوب.


استمرار الثورة


رغم وضع إبراهيم حتى الرقابة في منزله بعد إطلاق سراحه، إلا أن عدداً من رفاقه بقيادة الشيخ يوسف السعدون ومصطفى الحاج حسين وعقيل السقاطي ونجيب البيطار عادوا فاجتازوا الحدود إلى سورية قادمين من تركيا ليستأنفوا جهادهم ضد المستعمر الفرنسي. وكان أول عمل قاموا به بعد دخولهم إلى سورية مهاجمتهم لقافلة نقل البريد بين أنطاكية ودركوش في قرية الدركية يوم 26 آب 1922، حيث قضوا على الجنود الفرنسيين في القافلة والضابط الذي كان يقودهم. وفي عام 1923 استشهد المجاهد نجيب البيطار مع رفاقه بعد أن طوقته سرية فرنسية في نواحي إدلب، فظل يقاتل حتى استشهد مع رفاقه العشرين. وفي أواخر عام 1924 قام المجاهد عقيل السقاطي بمهاجمة دار الحكومة في السفيرة وقتل بعض الجنود الفرنسيين. ولما نشبت ثورات الجنوب وحماة سنة 1925، اتصل الزعيم هنانو بالثوار من أجل إعداد سرية مجاهدين لدعم الثورة، لكن هذه السرية تم تطويقها في كفر تخاريم من قبل الفرنسيين، وفكت الحصار بعد معركة شرسة. 

وقد دامت أعمال المجاهدين في المنطقة الشمالية في تلك الفترة من 20 كانون الأول 1925 وحتى 15 نيسان 1926 قاموا خلالها بأعمال مجيدة في مواقع عدة منها: الفندق، خير جاموس، القصير الوسطاني، بستقول، حربنوس، بياطس، كلة الثانية، كوتي بيوك، العلاني، عز مارين، تل عمار، وغيرها. وكانوا ينزلون بالعدو أفدح الخسائر، فيما كان الكثير يستشهد في سبيل وطنه وشعبه. 

ومن أهم المعارك التي جرت في تلك الفترة معركة تل عمار، والتي كانت آخر معارك الثورة في المنطقة الشمالية، وجرت في أوائل شهر نيسان 1925. في هذه المعركة فاجأت كتيبة فرنسية مدعومة بالطائرات مجموعة من المجاهدين وأحكمت الطوق حولهم، ولكن المجاهدين تمكنوا من الإفلات بعد أن خسروا 13 شهيداً منهم الشهيد عقيل السقاطي أحد قادة الثورة، أما الفرنسيون فقد خسروا طائرة من طائراتهم و27 قتيلاً بينهم ضابط. 


نهاية الثورة في المنطقة الشمالية


بعد هذه المعركة كانت ذخيرة المجاهدين قد نفذت، فيما هددت السلطات التركية المجاهدين بتسليم عائلاتهم التي لجأت إليها إلى الفرنسيين إن لم يوقفوا عملياتهم العسكرية، فلم يجدوا مناصاً من العودة إلى تركيا، واضعين بذلك نهاية لثورة وقفوا فيها أمام جيوش الاحتلال لمدة ناهزت سبع سنوات، خاضوا خلالها 117 معركة، سقط فيها مئات الشهداء. 


من نتائج ثورة الزعيم إبراهيم هنانو في المنطقة الشمالية


كانت أهم نتائج الثورة إجبار الفرنسيين على الاعتراف بشرعية الثورة كبقايا لحكومة فيصل، ما دعاهم إلى مفاوضة الزعيم مفاوضة الند للند، وجاء ذلك بعد أن تكبد الفرنسيون خسائر فادحة في الرجال والمال والسلاح. أما النتيجة الأهم للثورة، فكانت إعادة دمج دولة حلب بدولة دمشق بعد فصلهما. عندما أدرك الفرنسيون أن لا سبيل إلى فصم وحدة التلاحم الوطني بين سكان هاتين المنطقتين. 

 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق