السبت، 30 أبريل 2016

تاريخ العرب في الجاهلية: بين التشويه والتنزيه؟


إِنَّ الْحَـــــــمْدَ لِلهِ تَعَالَى، نَحْمَدُهُ وَ نَسْتَعِينُ بِهِ وَ نَسْتَهْدِيهِ وَ نَسْــتَنْصِرُه
وَ نَــــعُوذُ بِالْلهِ تَعَالَى مِنْ شُــــرُورِ أَنْفُسِنَا وَ مِنْ سَيِّئَــــاتِ أَعْمَالِنَا
مَنْ يَـــهْدِهِ الْلهُ تَعَالَى فَلَا مُضِــــلَّ لَهُ، وَ مَنْ يُـضْلِلْ فَلَا هَــــادِىَ لَه
وَ أَشْــــــــــهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الْلهُ وَحْــــــدَهُ لَا شَــــــرِيكَ لَه
وَ أَشْـــهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، صَلَّى الْلهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَا
أَمَّـــا بَعْــــد:

{{تاريخ العرب في الجاهلية: بين التشويه والتنزيه؟}}
{ للأمانة...الكاتب ::عمار المشهداني}
من المعلوم لدى الباحثين والمهتمين بالقضايا التاريخية أن النص التاريخي ما هو إلا معلومة معينة تحمل معها ظاهراً إطارها الزماني والمكاني، وباطناً تخفي ورائها توجهات ونوايا من كتبها، ومن ألزم نفسه أن يدونها وهو يعرف جيدا مدى حقيقتها أو قربها من الحقيقة، أو حتى كذبها وبطلانها.
وبغض النظر عن كيفية وصولها له إلا إن تبعة التدوين، وما يترتب عليها بعد ذلك؛ ستضل عالقة به وبشخصه سواء برأ نفسه علناً، أو المح إلى ذلك، أو دس وأنغص رأسه غير آبه بما صنع؟
من هذه المقدمة البسيطة نريد أن نلج إلى موضوع خطير يتعلق بتاريخ أمة العرب في الجاهلية، وكاتب هذه السطور ليس من دعاة القومية بمفهومها الضيق المعتل؛ بل من كونها مدخلاً أساسياً للدفاع عن الإسلام.
إن تاريخ العرب في الجاهلية تعرض لأبشع محاولة للتشويه، فما وصل إلينا من خلال أكثر المصادر التاريخية يشير بعمومه إلى إن العرب كانوا أمة جاهلة ظالمة، لا أثر فيهم لخلقٍ، أو نزعة خير.
قوم تسيرهم شهواتهم الجامحة، ونزواتهم الطافحة، أعراضهم مباحة، وأنسابهم مستباحة، ويستطيع كل منهم أن ينسب نفسه إلى من شاء، ومتى شاء؟
قوم يقودهم سعار الجشع، ويستولى على عقولهم الطمع، الضعيف منهم حقه مغصوب، وجهده مسلوب، وآدميته سلعة تباع وتشترى عند من ملكوا الجاه والمال والسلطة.
قوم لا أثر فيهم لحمية أو شفقة أو رحمة، يستحلون وأد بناتهم تحت الثرى، وإكراه فتياتهم على الزنا، يخفرون عهودهم ومواثيقهم، ويستحلون قتل ونهب بعضهم ما دعت لذلك حاجة وحتى بدونها.
هذه هي الصورة القاتمة التي تقدمها لنا كتب التاريخ عن العرب في الجاهلية، ومن المعلوم إن تاريخهم لم يدوَّن إلا بعد ظهور الإسلام، ومع هذا فقد تسابق المؤلفون للنيل من قدر العرب، والانتقاص من قيمتهم، والحط من شأنهم.
يقول الدكتور إبراهيم شعوط أستاذ التاريخ الإسلامي في كتابه "أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ" عن أولئك المؤلفين أنهم "كانوا مدفوعين بعوامل من الدين، ودوافع من العصبية الجنسية، أما الذين اندفعوا بعوامل الدين فقد فهموا أن الحط من شأن العرب في الجاهلية يمثل في زعمهم خدمة للإسلام، وبالغوا في ذلك حتى جعلوا الحط من القيم في العصر الجاهلي نوعاً من العبادة التي يتقرب بها العبد إلى ربه، ولم يبالوا بقرب هذه المفاهيم من الحقيقة التاريخية أو بعدها.
وأما الفريق الذي انقاد إلى العصبية الجنسية، وسيطرت عليه العنصرية؛ فقد رأى أن الحط من شأن العرب يرفع من شأن قومه، ويشفي من حقد نفوسهم على هذه الأمة، ويستوي في ذلك الفرس والرومان، والأتراك والهنود؛ حيث ساروا على نفس الطريقة من تسويد صحائف العرب في الجاهلية، وتسفيه عقولهم بأساليب مختلفة، وهكذا امتلأت كتب التاريخ بقبائح العصر الجاهلي دون أن يذكروا شيئاً من محامدهم".
والمؤسف حقاً أن أجيالنا تلقفت دون وعي هذه الصورة الكالحة، ورسخت في مخيلتنا، وغدت جزءاً من أدبياتنا الثقافية، والاجتماعية، مدفوعين أيضاً بإيحاءات الواقع المتخلف الذي نعيشه، والبون الشاسع بيننا وبين أرباب الحضارة المادية الغربية.
ويقيناً لا يمكن أن تكون هذه الصورة هي كل الحقيقة، وحري بنا أن نكون متوازنين وعلميين، وأن لا نأخذ كل ما كتب في كتب التاريخ على أنه قرآن معصوم، وعلينا أن لا ننسى دوافع أولئك الذين سماهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه اقتضاء الصراط المستقيم "بالشعوبيين، وأراذل الموالي الذين لايحبون العرب، ولا يقرون بفضلهم، وأقر بأن كلامهم بدعة وخلاف"، وعقد فصلاً طويلاً في كتابه هذا للرد على ترهاتهم، وبيان فضل العرب على غيرهم.
يقول الشيخ محمد حامد الفقي محقق هذا الكتاب "الذي ينبغي أن لا يشك فيه مسلم أن الله العليم الحكيم ما اختار خاتم رسله من العرب إلا إنهم كانوا أبعد أهل الأرض عن الفساد الشامل، والانحلال التام الذي عم أقطار الأرض، فلقد كان العرب مع شركهم ووثنيتهم أحفظ أهل الأرض لصفات الرجولة لما اقتضته حياتهم من الوضوح والصراحة، والبعد عن الالتواء والعقد النفسية.
ولذلك لم يكن فيهم نفاق بل كانوا أعداء للإسلام معلنين، ثم كانوا بعد أن هداهم الله مؤمنين صادقين، وجنداً للإسلام مخلصين بخلاف غيرهم من الأمم الأخرى التي غرقت في الترف الجسمي، والعقلي، وفي الفلسفة وظلماتها وأوهامها، وخيالاتها التي تجافي بين الناس، وحقائق الكون، وتعميهم عن سنن الله" وهذا القول وصف دقيق لواقع العرب في الجاهلية، ونحن لا نريد أن نثبت هنا أن حالهم كانت مثالية إلى حد بعيد، وإلا ّلم يكن معنى لوجود الإسلام ولا لخاتم الرسل، ولكن المرفوض أساساً أن ترسم تلك الصورة المظلمة المشوهة عن أمة اختارها الله جل جلاله واختار أهلها ليكونوا حملة لواء الدعوة الجديدة التي يراد لها أن تغير وجه الأرض إلى قيام الساعة؟
ولقد تواترت وصحت العديد من الأحاديث النبوية التي يذكر فيها النبي عليه الصلاة والسلام فضل العرب، والثناء عليهم كونهم معدن الرسالة الخاتمة، وإليهم ومنهم ينتهي نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي في دلالتها الضمنية أكبر من كونها تعبيراً عن تفضيل جنس من الناس على آخر بالمعنى الذي نفهمه وفق مقاييس الطبقية الضيقة، والتي جاء الإسلام أصلاً ليحاربها ويجتثها من جذورها، ولكنها تعبير عن الاعتراف بخصوصية وقدرة هذه الأمة على حمل الرسالة، وتحمل أعباء الدعوة، وهم بعد ذلك سواء أمام الله - جل وعلا - في تحمل تبعة التطبيق، بل ربما كانت تبعتهم مضاعفة، ووزرهم إن قصروا أكبر قال تعالى: (ومَنِ أظلم ُمِمنٍ ذًكرّ بآِياتِ ربهِ ثمُ أعرضَ عنَها إنا من المجرمينَ منتقمون).
بقي أن نشير إلى مسألة مهمة وهي ما ورد في وصف أهل الجاهلية في القرآن الكريم بأنهم كانوا في ضلال وجهل، وربما كانت هذه الآيات وغيرها وبعض الأحاديث مدخلاً أو حجة للطعن، ومع إن العصر الجاهلي لم يخلُ أبداً من مظاهر الجهل والضلال والانحراف عن جادة الصواب والفطرة السليمة إلا إن التعميم والأحكام المطلقة فيها كثير من التجني، وإغفال للكثير من الفضائل التي أراد المغرضون طمسها، والتي نقلها لنا المؤرخون والمفسرون وأئمة النقل الذين وقع للكثير منهم كما يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: "من المغالط في الوقائع والحكايات لاعتمادهم على مجرد النقل غثاً، أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الإخبار".
والمؤسف إن هذه الأخبار والتفسيرات وجدت رواجاً كبيراً خاصة مع بدايات القرن المنصرم، وظهور تلك النزعة الانتقائية واللاعلمية، والتي شاعت في الكتابات التاريخية، والتي رمت بظلالها السوداء على مجالات الأدب والفن والثقافة والسياسة وغيرها من مجالات الحياة؛ بل وانسحبت - وهذا أخطر ما في الأمر - إلى العصر الإسلامي بعد الدعوة، وأطرت لفهم أعوج شاذ أصبح فيه المسلمون وتاريخهم وتراثهم كرة تتقاذفها يد المستشرقين خدمة الاستعمار وأشباههم ممن تتلمذوا على أيديهم، وتشربوا أفكارهم وأولئك الذين لازالوا يعيشون وفي قلوبهم غلٌ قديم مستحكم، وإن توارى حيناً خلف حجب الدعاوى العلمية، والحياد وإخوة الإسلام (والله ُيشهد ُإنهم لكاذبون).
إن العلمية والمهنية والحياد تقتضي التخلص من هذه النزعات الضيقة، والانطلاق إلى حيث أفق السماحة والعدالة التي أمرنا إن نتحلى بها حتى مع من نبغضهم فكيف بنا ونحن نتحدث عن من لهم الفضل في هدايتنا، ونتخذ سيرهم غرضاً للتشفي، وطمس الحق؟ وأي علمية تبقى وبعض من ينسبون إلى هذه الأمة يرددون عن عمد أقوال بعض المستشرقين، وهم من هم في عداوتهم للإسلام ونبيه بل الأمة كلها؟
إن الحديث عن تاريخ العرب حديث ذو شجون، حديث عن أمة كانت لها من الفضائل والأخلاق العظيمة ما أهلها لتكون أهلاً لحمل الرسالة الخاتمة، وقد كانت هذه الأخلاق كما يقول الشيخ أبو شهبه في كتابه عن السيرة "رصيداً ضخماً في نفوس العرب، فجاء الإسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الخير والحق فلا عجب إذا كانوا انطلقوا من الصحارى كما تنطلق الملائكة الأطهار، فتحوا الأرض وملئوها إيماناً بعد أن ملئت كفراً، وعدلاً بعد أن ملئت جوراً، وفضائل بعد أن عمتها الرذائل، وخيراً بعد أن طفحت شراً"، وصدق الحق إذ يقول في كتابه العزيز (اللهُ أعلمُ حيَث يجَعل رسالتهُ)، وليس بعد قول الله - تعالى - من قول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق