السبت، 30 أبريل 2016

الحجر الأسود ( 2 )

الحجر الأسود ( 2 )
 




يورد الشيخ محمد سائد بكداش وهو مؤرخ معاصر يعيش في المدينة المنورة في مصنفه الشامل (فضل الحجر الأسود) قصة القرامطة المشهورة عن الحجر الأسود من أمهات كتب التاريخ بعد تحقيقها فيقول " في يوم الاثنين الثامن من شهر ذي الحجة (يوم التروية) لم يشعر الناس إلا وقد وافاهم عدو الله أبو طاهر القرمطي في تسعمائة رجل من أصحابه، فدخلوا المسجد الحرام وأسرف هو وأصحابه في قتل الحجاج في الحرم، وردم بهم (بئر) زمزم، كما قتل غيرهم في سكك مكة وما حولها زهاء 30ألفاً، وفعل أفعالاً منكرة، ثم جاء إلى الحجر الأسود فضربه بدبوس (مطرقة مدببة الأطراف) فكسره ثم قلعه بعد صلاة العصر من يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، وانصرف إلى بلده هجر (البحرين والمنطقة الشرقية للسعودية الآن) وحمله معه، قيل أنه هلك تحت الحجر الأسود عند نقله 40 حملاً ـ يريد أن يجعل الحج عنده، لكنه خاب وخسر كما خاب قبله أبرهة الأشرم ". واحتفظ القرامطة بالحجر الأسود بعد أن بنو له كعبة جديدة في دولتهم طوال 22 سنة. ورفضوا أن يردوه لمكة وقد بذلت في سبيل إرجاعه 50 ألف دينار فلم يستجيبوا، وبقى مكان الحجر خالياً يلتمس الحجاج والمعتمرين فجوته بأيديهم وهم يبكون ويتوسلون إلى الله أن يعيد لهم الركن إلى مكانه. وبعد أن هلك أبو طاهر القرمطي سنة 332هـ فوجيء المسلمون في يوم النحر (عيد الأضحى) الموافق ليوم الثلاثاء من سنة 339هـ بزعيم القرامطة سنبر بن الحسن القرمطي يوافي مكة بالحجر الأسود ـ قيل أن الحجر الأسود عاد على ظهر قعود ضعيف فسمن! ـ فأظهره بفناء الكعبة ومعه أمير مكة. وكان على الحجر ضبات فضة قد عملت عليه من طوله وعرضه، تضبط شقوقاً حدثت عليه بعد قلعه، وأحضر معه جصاً يشد به، فوضع سنبر القرمطي الحجر بيده، وشد الصانع بالجص، وقال سنبر لما رده " أخذناه بقدرة الله، ورددناه بمشيئة الله " ونظر الناس إلى الحجر الأسود فتبينوه وقبلوه وحمدوا الله - تعالى -. ويقال أن القرامطة حاولوا غش المسلمين فيه، فجاءوا بحجر مماثل له، إلا أن المفاجأة كانت لهم حين قبل رئيس وفد مكة اختبار مادة أصل الحجر. وطلب إحضار ماء لكون الحجر الأسود يطفو على الماء وهو ليس كبقية الحجار المعروفة، مما جعل رئيسهم يظهر تعجبه البالغ وهو يردد " هذا دين مضبوط "!.

ولم تكن حادثة القرامطة هي الوحيدة، فقد جرت عدت أحداث تاريخية للحجر الأسود خلال الأزمنة التي سبقت الإسلام وبعده، خلفت آثاراً فيه بتصدع أو تكسر نتيجة لها، فقد أصاب البيت الحرام حريقان، الأول في عهد قريش قبل الإسلام، فاحترق الحجر الأسود، واشتد سواده.

والثاني: في الإسلام في عصر عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما -، حين حاصره الحصين بن نمير الكندي، فاحترقت الكعبة المشرفة واحترق الحجر الأسود، فتفلق ثلاث فلق، حتى شد شعبه ابن الزبير بالفضة فكان أول من ربط الركن الأسود، وفي عهد أمير المؤمنين هارون الرشيد، كانت الفضة التي على الحجر الأسود قد رقت وتزعزعت عن محلها، حتى خافوا على الركن أن ينقض، فلما اعتمر هارون عمرته سنة 188هـ أمر بإصلاحه، وأمر بالحجارة التي بينها الحجر الأسود، فثقبت بالماس من فوقها وتحتها، ثم أفرغ فيها الفضة.

وفي حوادث عام 363هـ ذكر ابن فهد المكي في كتابه " إتحاف الورى بأخبار أم القرى " قصة رجل رومي جاء من بلاد الروم، وقد جعل هل مالاً كثيراً على ذهاب الركن، فضرب الركن بمعول ضربة شديدة، فلما هم بضربه ثانية بادره رجل من اليمن كان يطوف في البيت فطعنه بخنجر حتى أرداه قتيلاً.

وفي حوادث سنة 413هـ سد ابن فهد المكي حادث اعتداء آخر على الحجر من مجموعة من عشرة فرسان، استغواهم الحاكم العبيدي في مصر يقودهم رجل تام القامة جسيم طويل بإحدى يديه سيف مسلول، وبالأخرى دبوس، يقول: " وبعدما فرغ الإمام من صلاة الجمعة ليوم النفر الأول، وقبل عودة الحجيج من منى، قام قاصداً الحجر وكأنه يستلمه، فضرب وجه الحجر ثلاث ضربات متوالية بالدبوس ". وهو يقول: " إلا متى يعبد الحجر الأسود؟ ولا محمد (- صلى الله عليه وسلم -)، ولا علي (كرم الله وجهه) يمنعانني عما أفعله، فإنني أريد اليوم أن أهدم هذا الييت وأرفعه، وكان على أبواب المسجد عشرة فرسان لنصرته، فاحتسب رجلا وثار به فوجأه (طعنه) بخنجر واحتوشه الناس فقتلوه وقطعوه وأحرقوه بالنار. وأقام الحجر علىحاله ذلك يومين، وكان قد تنخش وجهه في وسطه، وصارت فيه شقوق يميناً ويساراً، وتقشر من تلك الضربات، وتساقطت منه شظايا مثل الأظفار، وخرج مسكره أسمر يضرب غلى صفرة، ثم أن بعض بني شيبة جمعوا ما وجدوا مما سقط منه، وعجنوه بالمسك والًلك ـ صبغ أحمر ـ وحشيت به الشقوق.

وذكر الإمام ابن علان في كتابه (فضل الحجر الأسود) أنه في سنة 990هـ: " جاء رجل عراقي أعجمي، وكان منجذباً، فضرب الحجر الأسود بدبوس في يده، وكان عند البيت الأمير ناصر جاوش حاضراً، فوجيء ذلك العجمي بالخنجر يقتله ". وآخر حادثة على الحجر الأسود وقعت في عام 1351هـ أوردها الشيخ حسين با سلامة في كتابه (تاريخ الكعبة المشرفة) يقول " في آخر شهر محرم سنة 1315هـ جاء رجل فارسي من بلاد الأفغان، فاقتلع قطعة من الحجر الأسود، وسرق قطعة من ستارة الكعبة، وقطعة من فضة من مدرج الكعبة الذي هو بين بئر زمزم وباب بني شيبة، فشعر به حرس المسجد فاعتقلوه، ثم أعدم عقوبة له ". وزاد با سلامة من مصنفه النادر " ثم لما كان يوم 28 من ربيع الثاني حضر الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله -، من مصيفه بالطائف قبل توجهه إلى الرياض، وحضر بعض الأعيان، وعمل الأخصائيون مركباً كيميائياً مضافاً إليه المسك والعنبر، لتثبيت تلك القطعة، وأعادوها إلى محلها".

وذكر سائد بكداش في كتابه " أنه قد عمل عدة أطواق حول الحجر الأسود خلال الأزمنة السابقة، كان آخرها في يوم الأربعاء 22 من شهر شعبان سنة 1375هـ قبيل صلاة المغرب حيث وضع الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - طوقاً جديداً من الفضة الخالصة على الحجر الأسود، وكان الشيخ محمد طاهر كردي واقفاً بجواره ممسكاً بالطوق الجديد لتثبيته على الركن الأسود، بعد أن قلع الطوق الفضي القديم الذي كان قد وضعه السلطان محمد رشاد خان سنة 1331هـ.

وتحفظ متعلقات الكعبة المعظمة والحرم المكي الشريف في متحف " معرض عمارة الحرمين الشريفين القريب من مصنع كسوة الكعبة المشرفة بطريق جدة القديم، ويميل أهل مكة القدماء إلى تسميته بالحجر "الأسعد" لكراهة نعت مصادر تفاخرهم في البيت العتيق بلون السواد الذي يتطيرون منه. وتنتشر في الثقافة التقليدية لسكانها رغبة متزايدة في التبرع بسكب العطور ودهن الطيب عليه تقرباً إلى الله في يمينه على الأرض.

وتوصي الجدات وكبار السن أحفادهم الصغار على ضرورة اختلاسهم رشفة بطرف اللسان عند استلام الحجر، بعد مسحه بطرف ردائه رجاء بركته وعائدته المجربة في علاج النسيان، وزيادة الحفظ وتوسيع الذاكرة! كما تتجلى صور من إنكار الذات وإيثار الآخرين بين الطائفين عندما يتراجع بعضهم فسحا للمجال أمام العجزة وكبار السن خصوصاً للنساء والصغار لمنحهم الفرصة بتقبيل ولثم الحجر الأسعد.

وفي الأثر الشريف أن عند الحجر الأسود تسكب العبرات وتذهب الحسرات، وتجاب الدعوات، فقد روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال " استقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطاب يبكي فقال: يا عمر هاهنا تسكب العبرات ".

وهو موطن من مواطن إجابة الدعاء، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعاً أنه قال: " إن الركن يمين الله - عز وجل - في الأرض، يصافح بها خلقه، والذي نفس ابن عباس بيده، ما من امريء مسلم يسأل الله - عز وجل - شيئاً عنده إلا أعطاه إياه ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق