السبت، 30 أبريل 2016

عهد الدولة العامرية والفتنة (3)

عهد الدولة العامرية والفتنة (3) 
 
{ للأمانة...الكاتب ::راغب السرجاني}
سقوط الخلافة الأموية وانتهاء الدولة العامرية.
كأن مقتل عبد الرحمن بن المنصور واشتعال الفتن والثورات في الأندلس كانا بميعاد، فمنذ أن قتل عبد الرحمن بن المنصور العامري انفرط العقد تمامًا في البلاد، وبدأت الثورات تكثر والمكائد تتوالى، وبدأت البلاد تُقسّم.
كان رأي بعض الباحثين أن سبب سقوط الدولة العامرية ومن ثَمّ سقوط الخلافة الأموية هو تولّي عبد الرحمن بن المنصور الحكم -ذلك الفاسق الماجن الذي أسقط بني أميّة وأحدَث هذه الاضطرابات الكثيرة في البلاد-.
وحقيقة الأمر أنه ليس من سنن الله - سبحانه وتعالى - أن تهلك الأمم لمجرد ولاية رجل فاسق لشهور معدودات، فلم يمكث عبد الرحمن بن المنصور في الحكم إلا أقلّ من عام واحد، ومهما بلغ أمره من الفحش والمجون فلا يمكن بحال أن يؤدي إلى مثل هذا الفشل الذريع والسقوط المدوي للبلاد، فلا بدّ إذن أن يكون هناك أسباب وجذور أخرى كانت قد نمت من قبل، وتزايدت مع مرور الزمن حتى وصلت أوجّها في فترة عبد الرحمن بن المنصور؛ ومن ثَمّ كان هذا التفتت وذلك الانهيار.
وكما رأينا سابقًا في تحليلنا لأسباب ضعف الإمارة الأموية، وكيف كان لهذا الضعف أسباب وجذور تمتدّ إلى عهد قوة الإمارة الأموية ذاتها، فإن هناك ثلاثة أسباب رئيسية لسقوط الدولة الأموية، ومن ثَمّ الدولة العامرية نذكرها فيما يلي:
السبب الأول: يرجع إلى زمن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر ذاته، ذلك الرجل الفذ الذي اتّسم عصره بالبذخ والترف الشديد، وكثرة إنفاق الأموال في زخرفة الدنيا، ومن ثَمّ انشغال الناس بتوافه الأمور، وكانت الدنيا هي المهلكة، وليس أدلّ على ذلك من قصر الزهراء الذي أنشأه عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، وكان آية في الروعة والجمال، وأعجوبة من أعاجيب الزمان في ذلك الوقت؛ فقد كان على اتساعه وكبر حجمه مبطنًا من الداخل بالذهب، بل كان سقفه أيضاً مبطنًا بخليط من الذهب والفضة، بأشكال تخطف الأبصار وتبهر العقول، ومع أن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر لم يكن مُقَصّرًا في الإنفاق في أي ناحية من النواحي، مثل: الإنفاق على التعليم أو الجيش أو غيره، إلا أن فعله هذا يعد نوعًا من البذخ والترف المبالغ فيه، أدّى في النهاية إلى أن تتعلق القلوب بالدنيا وزخرفها.
ومما جاء في ذلك أن القاضي المنذر بن سعيد - رحمه الله - دخل على عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر في قصره -وكان على هذا الوصف السابق-، فقال له عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر: ما تقول في هذا يا منذر (يريد الافتخار)؟ فأجابه المنذر، ودموعه تقطر على لحيته قائلاً: ما ظننت أن الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ على ما آتاك الله من النعمة، وفضلك على كثير من عباده تفضيلًا، حتى ينزلك منازل الكافرين.
فقال عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر: انظر ما تقول، كيف أنزلني الشيطان منازل الكافرين؟! فردّ عليه المنذر: أليس الله - تعالى -يقول في كتابه الكريم: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ) [الزُّخرف: 33].
فقد ذكر الله - سبحانه وتعالى - السُّقُف التي من فضة في هذه الآية على سبيل التعجيز، يعني لولا أن يكفر الناس جميعًا بسبب ميلهم إلى الدنيا، وتركهم الآخرة، لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عند الله - عز وجل -، لكنّا لم نجعله، إلا أن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر فعله وجعل لقصره سقفًا من فضة.
وهنا وجم عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر بعدما سقطت عليه تلك الكلمات كالصخر، ثم بدأت دموعه - رحمه الله - تنساب على وجهه، وقام على الفور ونقض ذلك السقف وأزال ما به من الذهب والفضة، وبناه كما كانت تبنى السُّقُف في ذلك الزمن، إلا أنه ولكثرة الأموال ومع مرور الوقت، كان مظهر الترف يعود ويبرز من جديد حتى أصبح الإنفاق في لا شيء، وقد قال الله - سبحانه وتعالى -: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16].
السبب الثاني: توسيد الأمر لغير أهله: إضافة إلى الترف والإسراف فقد كان توسيد الأمر لغير أهله من أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط الدولة العامرية، والخلافة الأموية، ولقد تجسد هذا العامل واضحًا جليًا حين ولّى الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر ابنه أمور الحكم في البلاد، وهو ما زال طفلًا لم يتجاوز الثانية عشرة سنة بعد، فتحكم فيه الأوصياء، وحدثت المكائد والمؤامرات، رغم ما كان من حياة الحَكَم الحافلة بالجهاد، ونشر العلم والدين في البلاد.
وقد حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك حين أجاب السائلَ عن أمارات الساعة بقوله - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل عن أماراتها: ((أَنْ تُضَيَّعَ الْأَمَانَةُ))، فقال السائل: وكيف إضاعتها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)).
وهكذا إذا تولّى من لا يستحق منصب من المناصب، فلا بد وأن تحدث الهزة في البلاد، ويحدث الانهيار، فما البال وما الخطب إذا كان هذا المنصب هو منصب الخليفة أعلى مناصب الدولة؟ فقد ضيعت الأمانة، ووسد الأمر لغير أهله، فكان لا بدّ أن تقع الأندلس والخلافة الأموية والدولة العامرية.
السبب الثالث: انتفاء روح الجهاد الحقيقية ليصبح مجردًا للمادة وجمع الغنائم.
كان أيضاً من أهم أسباب سقوط الدولة العامرية الملحقة بالخلافة الأموية؛ أن الدولة العامرية اعتمدت في جهادها على الناحية المادية من جند وعدد وعدة ومال ومعمار، ولم تصرف نواياها إلى رب العالمين - سبحانه وتعالى -، ولم يجددوا تربية الشعب على الجهاد في سبيل الله؛ طلبًا للجنة أو الموت في سبيل الله، فافتقد الشعب روح الجهاد الحقيقي ومعناه، وأصبح جلّ همّه جمع المال وعَدّ الغنائم.
المهدي وبداية الفتنة وعهد ملوك الطوائف.
من قريب كنا نتحدث عن الجهاد والفتوحات، وعصر القوة والنفوذ، وها هو التاريخ يدير لنا ظهره، ويبدأ دورة جديدة من دوراته في الأندلس، اتُّفق على تسميتها بعهد ملوك الطوائف، فكان من سنن الله - عز وجل - في كونه ألا تقوم أمة إلا ويكون لها سقوط كما كان لها قيام، يطول عهدها أو يقصر، بحسب قربها أو بعدها من منهج من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
بعد خلع هشام بن عبد الملك بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، وولاية محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر الذي تلقب بالمهدي انفرط العقد تمامًا في الأندلس، فلم يكن يملك المهدي من لقبه إلا رسمه، فكان فتى لا يحسن قيادة الأمور، وليس له من فن الإدارة شيء، فكان من أول أعماله في الحكم ما يلي:
أولًا: ألقى القبض على كثير من العامريين ثم قتلهم، وثانيًا: بدأ ينتقم من البربر الذين كانوا العون الرئيس لمحمد بن أبي عامر -الرجل الأول في الدولة العامرية-، ولمن خلفه في الحكم من أولاده، فبدأ يقتّل أيضًا فيهم، ويقيم عليهم الأحكام حبسًا وتشريدًا.
أثار هذا الفعل غير الحصيف من قبل المهدي غضبًا عارمًا لدى البربر والعامريين، بل وعند الأمويين أنفسهم الذين لم يعجبهم هذا القتل وذاك التشريد، وهذه الرعونة في التصرف، فبدأ يحدث سخط كبير من جميع الطوائف على المهدي.
لم يكن ليقف الأمر عند هذا الحد، فقد تجمع البربر وانطلقوا إلى الشمال، وهناك أتوا بسليمان بن الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر، وهو أخو هشام بن الحكم بن عَبْد الرَّحْمَن النَّاصِر الخليفة المخلوع منذ شهور قليلة، فنصّبوه عليهم، ولقبوه بخليفة المؤمنين، وبدأ يحدث صراع بين سليمان بن الحكم هذا ومن ورائه البربر وبين المهدي في قرطبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق