السبت، 30 أبريل 2016

التاريخ في مهب الريح (1)


إِنَّ الْحَـــــــمْدَ لِلهِ تَعَالَى، نَحْمَدُهُ وَ نَسْتَعِينُ بِهِ وَ نَسْتَهْدِيهِ وَ نَسْــتَنْصِرُه
وَ نَــــعُوذُ بِالْلهِ تَعَالَى مِنْ شُــــرُورِ أَنْفُسِنَا وَ مِنْ سَيِّئَــــاتِ أَعْمَالِنَا
مَنْ يَـــهْدِهِ الْلهُ تَعَالَى فَلَا مُضِــــلَّ لَهُ، وَ مَنْ يُـضْلِلْ فَلَا هَــــادِىَ لَه
وَ أَشْــــــــــهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الْلهُ وَحْــــــدَهُ لَا شَــــــرِيكَ لَه
وَ أَشْـــهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، صَلَّى الْلهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَا
أَمَّـــا بَعْــــد:

{{التاريخ في مهب الريح (1)}}
{ للأمانة...الكاتب ::مولاي المصطفى البرجاوي}


التنوع المنهجي وإشكالية قراءة وتفسير التاريخ
في حمأة التردِّي والنكوصيَّة يتم اللجوء إلى التاريخ: إمَّا لصبِّ جامِ الغضب عليه، بأنَّه مرحلة ولَّت، ويجب قطْع الصِّلة بها، والشروع في البدء والانطلاق مِن نقطة الصفر (التاريخانية histocisme)، وإمَّا الاحتماء به كآليَّة للتخفيف من وطْأة الفقر العلمي والتكنولوجي، وإنتاج عقليَّة محنطة تراوح مكانها (التيار الماضوي)، وبين هذا وذاك فريقٌ وَسَطٌ يأخذ الدروس والعِبَر منَ الماضي، يعمل جاهدًا لصهره وتنقيته منَ الشَّوائب؛ للتَّعامُل مع الحاضر بطريقة شرعيَّة، مُعقْلنة لاستِشْراف المستَقْبل، ويتحقَّق ذلك - ولا ريب - بالعضِّ على نواجِذ ما حثَّ عليْه القُرآن الكريم؛ إذِ التَّاريخ في أصولِه القُرآنيَّة يرتكِز على مقوَّميْن أساسيَّين:
أ- الاعتبار منَ التاريخ جزء في التشريع القرآني:
قال - تعالى -: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف: 3]، ممَّا يعطي للحدَث التَّاريخي مفهومًا من خِلال معنَى القصَّة التي يُتوخَّى منها العبرة.
وتَجَلَّى الاعتبار صريحًا في القُرآن الكريم في قولِه - تعالى -: (قُلْ سِيرُوا في الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الأنعام: 11].
ب- البناء الاستِشْرافي للصَّلاح والعدل منهجٌ قرآني:
وذلك باقتِفاء الآثار النبويَّة، وطرْح التَّساؤلات؛ (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحَاسَبوا)، والإجابة عنِ الإشكالات بسرعة مُتناهِية، من خلال استِحْضار مراقبة الله في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ؛ كيْ ترجِع للأمَّة هُويَّتها المفقودة، وعزُّها المنكوص على عقبَيْه، وبالتَّالي يتحقَّق مُراد ربِّنا - عز وجل -: (أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105].
مما يعطي القرآن بُعدًا تاريخيًّا في تتبُّع الوقائع، وإعطاء الأسباب، واستِخْلاص النَّتائج؛ لبناء حضارةٍ قُرْآنيَّة تَجمع بين نعيم الدَّاريْن.
لكن بعدما عجز الإنسان عن توظيف قيَمِ القرآن، بدأت تحوم حوله شكوكٌ، لن يجدَ لها إلاَّ العودة إليه ثانيًا؛ وإلاَّ بقيَ في حلقة مُفرغة، لا يستطيع التَّخَلُّص من قيودها وأغلالها، وهمومها وأحزانها.
من ذلك ما قد يَتَبادر إلى الذِّهن من أسئلةٍ متشابكة: هل ضاع التاريخ بينَ أحضان التجاذُبات؟ هل التَّاريخ لقيط العلوم؟ هل التاريخ مرض العصر لِمَا يُغَلِّفه من تزويرات وتأويلات، مِصداقًا لقوْلِ الشَّاعر:
فَمَا كُتُبُ التَّارِيخِ فِي كُلِّ مَا رَوَتْ *** لِقُرَّائِهَا إِلاَّ حَدِيثٌ مُلَفَّقُ
نَظَرْنَا لأَمْرِ الحَاضِرِينَ فَرَابَنَا*** فَكَيْفَ بِأَمْرِ الغَابِرِينَ نُصَدِّقُ
أو وسيلة وذاكرة يستحيل مَحوُها واقتلاعها؟ ووسيلة إثبات في الوقت نفسه، ولسان حال التَّاريخ الفلسطيني يقول: "لَئِنْ كَسَرُوا جُذُوعِي، فَلَنْ يَقْتَلِعُوا جُذُورِي".
أي: تاريخ فِلَسطين المَتَغَلغل، الذي يُحاول الكيان الصِّهْيَوني الظالم - بكلِّ ما أوتيَ مِن علم ومكيدة وتَجَبُّر - طمْسَ تاريخها، لكن أغلب المحاولات باءتْ بالفشل.
مُساءلة التاريخ مُساءلة للغة في نصاعتِها ومَكْرِها في حيلتها وجُمودها، مساءلة التَّاريخ مساءلة للفكر في يقظتِه واستقامتِه، في غفوته واعْوِجاجه؛ ومِن ثَمَّ فالتَّاريخ فِكر يقِظ، وعين لاقِطة، وحاسَّة واعية، إذا استَلْهَمَتْ ذلك من شرْعِ ربِّها، وما على الإنسان إلاَّ أن يعيشَ وقائعَه بهدْيٍ ربَّانيٍّ ونبويٍّ، باعتِباره المُستفيد منهما بصفةٍ عامَّة، "فالإنسانُ الحي الفاعل صانعُ التاريخ، ليس مستقبليًّا مُطلقًا، سائحًا في الرُّؤَى والأحلام، ولا حاضريًّا مطلقًا، غارقًا فيما حوله مِن مشكلات، ولا تاريخيًّا مطلقًا يحنُّ إلى الماضي، ويبغي أن يرجِعه كما كان، وإنَّما يعيش في توتُّر دائمٍ بين الحاضِر والماضي والمُستَقبل، تتفاعل قُواها وعناصرها في ذاته، بإدراكٍ متَّزنٍ صحيح، وشعور دقيقٍ نافذ، فيكون من أثَر هذا التفاعل العملي تاريخيًّا مبدعًا"؛ (نحن والتاريخ - قسطنطين زريق).
في مُحاولةِ مُعالجة الموضوع من زواياهُ المتعدِّدة، أو مِن خلفيَّاته الأيديولوجيَّة؛ فالتَّاريخ في مُجملِه تَتَحَكَّم فيه آليَّات، تُكَوِّن ما يطلق عليه الدورة الحلزونيَّة المُتَمَثِّلة في الأسئلة الثلاثة التي يستحضرها المُؤَرِّخ في تدوينه التاريخي، وهي: متى؟ أين؟ لماذا؟ وكيف؟
أو كما يقول الدكتور محمود إسماعيل - على الرغم من ماركسيته -: "إنَّ الخلافَ الدَّائر بين المُؤَرِّخينَ ودارسي التاريخ يكمُن في مسألة التفسير؛ أي: معرفة الأسباب والعِلَل الكامِنة وراء أحداث التاريخ ووقائعه، ذلك أنَّ المؤرِّخَ حين يُؤَرِّخ لِموضوعٍ ما، عليه أن يُجيبَ عنْ أسئلة ثلاثة هي: ماذا حَدَث؟ وكيف حَدَث؟ ولماذا حَدَث؟ والإجابةُ عنِ السؤالينِ الأوَّليْن لا تُثير أيَّ خلاف، إنَّما يشجر أي خِلاف أصلاً في الإجابة عنِ السُّؤال الثَّالث، لا لشيءٍ إلاَّ لأنَّها تعكِس منظور أو "مخيال" المؤرِّخ، الذي هو نتاج ثقافتِه وأيديولوجيته.
وهنا أتدخل لأتصرَّف في الثالوث التاريخي، الذي سَيَّطَر ويُسَيطر على فكْر المؤرخين، ودارسي التاريخ، لأُحْدِث تغييرًا طفيفًا في شكل الصيغة التَّالية: ما الحدث التاريخي؟ وكيف وَقَعَ الحدث؟ لِمَن؟ ولصالح مَن أؤرِّخ؟
وبصيغة أخرى، فإنَّ المؤرِّخين يتَّفقون في غالب الأحيان على وقوع حَدَث تاريخي ما، وتاريخ وقوعه، لكن تفسير المعلومات التَّاريخية يختلف مِن مؤرِّخٍ إلى آخَرَ؛ من هنا تَتَدخَّل الذاتيَّة والموضوعيَّة في التاريخ والأيديولوجيَّة، والبُعد الثقافي والتغريب.
قد يخضع المُؤَرِّخ أثناء كتابته التاريخيَّة لشتَّى أنواع الضُّغوط الشخصيَّة، أو الاجتماعيَّة، أو السياسيَّة، وبالتَّالي تكون كتابتُه صورةً مشوَّهة لِمَا حَدَث، فقد تُملي عليه تحيُّزاته أو تعصُّباته الشخصيَّة إغفالَ أشياءَ مُعَيَّنة منَ الحَدَث، لا تتَّفق مع ميوله أو رغباته، أو قد يتصوَّر أشياء وهميَّة لا وجودَ لها، مما يحمله على الزيادة أو النقصان، ظَهَر ذلك جليًّا في الحرْب الأخيرة التي كانتْ بين حزْبِ الله الشِّيعي وإسرائيل، والتي نَظَرَ لَها البعضُ من منطلَق التَّعصُّب العِرْقي وثقافة التَّعاطُف مع المستضعَف على أنَّها انتِصار لِلبنان، رغْم التَّدمير الكبير الذي أتى على الأخضر واليابس فيها، وهو ما يؤثِّر بالطَّبع على دقَّة تسجيله للأحداث، وقد يكون الجوُّ السياسي أو الاجتِماعي العامُّ الذي يعيش فيه حائلاً.
على ضوء ما سَبَقَ يُمكن التَّمييز بين أربعة تَصَوُّرات فكريَّة مُعاصرة، في التَّعامُل مع المشهَد التَّاريخي:
الأولى-الرُّؤية التَّجزيئيَّة للتَّاريخ:
لها مثالبها وإيجابيَّتها؛ فأهمُّ العيوب والثَّغرات التي تعتريها التركيزُ على الجانب السياسي، وكأنَّ التَّاريخ وَضَع بُوقًا دعائيًّا لأصحاب النُّفوذ والسُّلطة، أمَّا الطرف الإيجابيِّ في التاريخ ذي الموضوع الواحد، فيَتَجَلَّى في تَخصُّص كلِّ مؤرخٍ في دراسة ظاهرةٍ معيَّنةٍ، والتفصيل فيها، التي تتوزَّع على المكان أكثر مِن توزُّعها على الزَّمان؛ أي: "الطريقة الأفقيَّة"، في مقابل "الطريقة العموديَّة"، التي يتولَّى فيها المؤرِّخ تدوين الأحداث التاريخيَّة منذ الخليقة حتى ينتهي بِعَصْره، وهي طريقةٌ - كما نرى - لها بدايةٌ ونهايةٌ، يُحاول مِن خلالها المؤرخ طَرْقَ أكبر عددٍ منَ المحطَّات التاريخية، ويكلِّفه ذلك جُهدًا مُضنيًا، دون مُلامَسة جوانب أكثر أهميَّة؛ أي: التَّركيز على الكَمِّ منَ الأحداث، دون مُراعاة مدى صحَّتها وإخضاعها لميزان العدالة التَّاريخيَّة، أو عِلم الجرح والتَّعديل، على تعبير علماء الحديث.
وقد صوَّر ابن خلدون - رحمه الله - ذلك بأسلوب رائع ورقْراق؛ حيث يرى أنَّ: "التَّاريخ في ظاهرِه لا يَزِيد عنْ أخبار الأيَّام، والدُّول، والسوابق منَ القرون الأولى، ولكنَّه في باطنِه: نَظَرٌ وتحقيقٌ وتعليل لكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيَّات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، جديرٌ بأن يُعَدَّ في علومها خَلِيق"؛ (المقدِّمة).
كما زكَّى هذا الطرح المؤرِّخ المغربي المعاصر محمد زنيبر - رحمه الله - بقوله: "إنَّ النصوص التاريخيَّة لها ظاهِر وباطِن، وهذا شيء لا يعرفُه إلاَّ مَن تَمَرَّس بها، وَوَقَفَ عندها ومعها وقفاتٍ طويلة، فالظَّاهر هو تلك المعلومات التي يلتَقِطُها القارئ العجلان الْتِقاطًا يكاد يكون ميكانيكيًّا، وأمَّا الباطن فهو ما تدفع إليه تلك المعلومات من استِنْتاجات وعمليَّات استكشافيَّة؛ أي: من اقتناص المجهول منَ المعلوم، فإذا عَرَفْنا كيف نستخرج بطريقةِ الاستِنْطاق المنهجي ما يَكْمُن في النصِّ من خَبايا، نكون آنذاك قد نفَذْنا إلى باطِنِه"؛ (د. محمد زنيبر: حفريَّات عن شخصية يعقوب المنصور، مجلة كليَّة الآداب والعلوم الإنسانية، ع: 5 - السنة 1982ص: 23).
لذلك يبقى التَّقويم والنَّقد البنَّاء في صناعة التَّاريخ جزءًا لا يَتَجَزَّأ مِن عملية البناء الفكري، والتربوي، والأَدَبي، والثقافي، وإنَّ النَّاقدَ والمنتِج شريكان في العمل.
ومن أهمِّ ما استَحْدَثَ البَيْرُوني في مجال المنهج، بِخُصوص المَرْجِعيَّات، يقول: "فليس الخبر كالعيان؛ لأنَّ العيان هو إدْراك عين النَّاظر المنظور إليه في زمان وُجُودِه، أمَّا الخبر فيكون عنِ الشَّيء الممكن الوُجُود".
وهذه بصفة عامَّة أهمُّ المعايِير والمُؤَشرات التي استعمَلَها المؤرِّخ النَّاقد لِتَوْجيه مسار كتاباته التاريخيَّة؛ نظرًا لطغيان التاريخ التجزيئي (التاريخ السياسي - التاريخ المتعصِّب الإثني..)، سعيًا منه للحُصُول على بعض النُّتَف التي توصِّله إلى القضيَّة والإشكاليَّة الجوهريَّة الغائبة، والتَّائهة بين أحضان الرُّكام الهائل منَ المقاطع السِّياسيَّة التي لا نهاية لها.
الثانية- الرُّؤية الإسْقاطيَّة:
وهي الخطَّة التي يتَّبعها مجموعةٌ منَ المُؤَرِّخين، الذين يُحاوِلون الظُّهور بِمظهر جديدٍ ومقزِّز في نفس الآن - حسب اعتِقادي - من خِلال استِبْدال واستِنْبات مصطلح ميَّزَ ثقافة معيَّنة بِمفاهيمَ لَها ظُروفُها التَّاريخيَّة، (الثَّورة الفَرنسيَّة، النهضة الأوربيَّة، البرجوازية... )، كما يقال: "النخلة العوجاء بطاطُها في حوْضِ غيرِها"، أو تطبيق ما يسمى بـ"عالميَّة التَّاريخ الأوربي"، وكأنَّ العالَم مُختَصَر في قارةٍ واحدة، وهي القارة الأوربيَّة، وما ميَّزها من ضروب الأحداث التاريخية.
وحتَّى تتَّضحَ الصورة أكثر للقارئ الكريم؛ أضْرِبُ لذلك أمثلة ساطِعة وناصِعة، قلَّما تَجد نقدًا وتصويبًا من قِبَل دارسي التَّاريخ والمهتمين بالبحث التاريخي؛ ويتعلق الأمر بما يَجْتَرِه أغلب الباحثينَ في التحقيب التاريخي، من إسقاطِ وإلصاق المحطَّات التاريخيَّة الأوربيَّة على العالَم العربي والإسلامي، وهي:
ونعني مَبدئيًّا توضيح ما يعتبر مُسَلَّمًا به عند الدَّارسينَ للماضي، وهو تقسيم هذا التاريخ إلى عصور وحِقب مُعيَّنة، ونعني بذلك أيضًا نَقْدَ هذا الاتجاه المألوف، وظهور اتجاهات تَسْعى جاهدةً لاصطناع تحقيب جديد، يُواكِب مستجدات العصر.
فالتَّحقيب المُعْتَمَد حاليًّا في الدراسات التاريخية العربيَّة والإسلاميَّة - وإنْ خرجت مِن أسْر التحقيب الأوربي، فقدِ انغمَسَت في الرُّؤية السياسيَّة؛ مثل الذي قسم التاريخ وَفقًا للأسر الحاكمة؛ مثل المؤرخ المكناسي محمد المنوني - اجترار للتحقيب الأوربي.
والغالبُ في التَّقسيم السائد عند أغلب المؤرِّخينَ نلمس فيه النظرة الأوربيَّة الغربيَّة للتاريخ، مثل: سقوط الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة على يد القبائل الجرمانيَّة سنة 476م، ومثل: سقوط عاصمة الإمبراطورية البيزنطيَّة القسطنطينيَّة في يد الأتراك العُثمانيينَ سنة 1453م، أو سقوط غرناطة سنة 1492م، وظهور الثورة الصناعيَّة في القرن 18م، وعلى هذا الأساس فالمُؤَرِّخون يُقَسِّمون التاريخ إلى ثلاثة أقسام كبرى، وهي:
أولاً: حقبة التاريخ القديم:ويعالج فيها ماضي الإنسانية قبل سقوط الإمبراطورية الرُّومانيَّة 476م.
ثانيًا: حقبة التاريخ الوسيط:الذي يمتد مِن سُقُوط الإمبراطورية الرُّومانيَّة (476م)، إلى نهاية القرن الخامس عشر (1453م، أو 1492م).
ثالثًا: حقبة التاريخ الحديث:ويمتد منَ القرن 15 إلى اليوم، وإن تَمَيَّزَت بمرحلتينِ: عصور حديثة، ومرحلة معاصرة، وهذا التقسيم هو السائد والمُتَّبَع في الدراسات التاريخية الأوربيَّة والمقلدة لها، مع العلم أنَّ الانتقال مِن إحدى هذه المراحل الثلاثة إلى القسم الذي يَلِيه، لا يتم بصورةٍ فجائيَّة وتامة؛ لأنَّ التاريخ مستمرُّ الحلقات، لا انفصامَ في أحداثه.
والواقِع أنَّ التاريخ مُتَرابِط ومتَّصل الحلقات، وينتج عن ذلك أنَّ فهم حاضر أمة يستوجب معرفة ماضيها القريب والبعيد، ومِن أجْلِ أن يفهمَ المرء دقائق التاريخ يلزمه أن يأخذَ بعين الاعتبار العلاقات المكانيَّة، والعلاقات الزَّمنيَّة.
فالتقسيم الثلاثي للتاريخ (قديم، وسيط، حديث)، تقسيمٌ أوروبي، اعتَمَدَهُ الأوربيون؛ لأن التقسيم السابق واتخاذ الأعوام 476م، و1453م، أو 1492، تواريخ ضابِطة للفصل بين عصر وعصر، فإنَّ رؤيتَهم كانتْ ملائِمة لِحياتِهمُ الدِّينية والثَّقافيَّة، ويعني هذا أنَّ هذا التقسيم جاءَ من مؤرخينَ غربيينَ نصارى، ومِن ثَمَّ عَدُّوا سقوط روما هزيمةً للنصرانية في الشرق والغرب، وهذا المنظور الذي طَبَّقوه عندما سقطتِ القُسطنطينية في يد العثمانيين المسلمينَ.
من هنا نستخلص أنَّ التحقيب التاريخي المُهيمن في أغلب الدِّراسات التاريخيَّة، هو نتاج تَدَخُّل الكنيسة الغربيَّة في توجيه العقليَّة الغربيَّة.
إذًا يجب في الدراسات التطبيقية التاريخية الاعتمادُ على رؤية علميَّة شرعيَّة في مجال التقسيم التاريخي، بالتركيز على الدراسات القرآنية، والجوانب الحضارية للمجتمع والثقافة، التي أُمِرْنا بالإبداع فيها وتطويرها؛ لِتُواكِبَ مستجدات العصر.
وهناك مَن سعى إلى تحقيق اليوتوبيا الشيوعية، فسَطر المُلحِد "كارل ماركس" تحقيبًا مادِّيًّا يُخالفُ التحقيبَ النصراني السابق، باعتمادِه وحدة العامل الاقتصادي لِدِراسة المراحل التي يمُر منها تطوُّر المجتمع، وهذه المراحل هي:
1- المشاعية البدائية.
2 - نظام الرق (العبودية).
3- النظام الفيودالي.
4- الرأسمالية.
5- الاشتراكيَّة.
هذا التحقيبُ الكرونولوجي جاء نتيجة محطات التَّسَلُّط في التاريخ الغربي: مِن رِقٍّ، واستعبادٍ، ورأسماليةٍ متوحِّشة، هَضَمَتْ حقوق المستضعفينَ في الأرض.
كما يستوقفنا في هذا المجال (التحقيبُ التاريخي)، الذي أنجزه المؤرِّخ الفَرنسي "فرناند بروديل" Braudel، حول تاريخ حوض البحر المتوسط في القرن السادسَ عشرَ، الذي فَكَّر في التَّخَلِّي عن الكرونولجية السابقة المحنطة، والمنمطة، والمستَهلَكة، والتي يتم اتِّباعها في المؤسسات التعليميَّة، وللأسف حتى في المراحل الجامعية، كأنها طريقةٌ مُقَدَّسة، ولا يمكن مُساءَلَتُها، والتَّصَرُّف فيها، حيث أبدع طريقة تخالف المألوف، والتي تَتَمَثَّل في:
- زمن جغرافي ثابت (الجغرافية التاريخية).
- زمن حضاري، اجتماعي، ثقافي بطيء التَّغَيُّر.
- زمن سياسي متقلب وسريع.
هذا عن نقل فكرة التحقيب التاريخي الأوربي إلى البيئة الإسلامية؛ سواء في المؤسسات التعليمية الإعدادية، أم الثانوية، أم الجامعية، أمَّا عمليَّة الإسقاط المُوَالية في التاريخ؛ ما أقدم عليه بعض المؤرخين المعاصِرين العرب، وهذا ربَّما السَّعي لاكتشاف اللامألوف منَ المطروق منَ البحوث التاريخية، مِن تزييف وتطاوُلٍ على الفرسان في الفكر التاريخي العربي والإسلامي، يظهر ذلك جليًّا في كتابات المُفَكِّر والمؤرخ الماركسي المصري محمود إسماعيل - وهذا ليس غريبًا في حقِّه - الذي حاول نفي المجهود الضَّخم الذي أنتجَهُ المؤرخ ابن خلدون، من خلال الضجة الفكرية التي أطلق صيحاتها في كتابه "نهاية الأسطورة.. نظريَّات ابن خلدون مُقتَبَسة من رسائل إخوان الصفا"، الذي أشار فيه إلى ما قام به ابنُ خلدون مِن عملية النقل - وإن شِئتَ السَّرِقة - مِن كتابات إخوان الصفا، دون الإشارة لصاحبها، وهنا على ماذا يدل هذا الإجراء؟ هل هو تعصُّب أو محاولة الانتقاص مِن قيمة الترسانة الفكرية، التي جادَتْ وما زالتْ تجود بها العقليَّة الخلدونيَّة، التي استخلصَتْ أغلب نظريتها - خاصة علم العمران، وفلسفة التاريخ - مِن كتاب الله وسنَّة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه سلم؟ أو هي" ثقافة المُفَرقعات"، والخروج عن المألوف؟ أو هي الأركيولوجية الجديدة؟ أو هو فتح جديد كما قد يُتَوَهَّم[1]؟
بالرُّجوع إلى كتاباته نجدها حبلى بمصطلحات غربيَّة؛ فمثلاً كتابه: "الحركات السِّرية في الإسلام"، حاول عَبَثًا إطلاق تسميات نَبَتَتْ من سُحْت المجتمع الغربي على محطات تاريخية في الفكر الإسلامي، مثال: أرستقراطية إسلامية، تيوقراطية الحكم الفردي في العصر العباسي، أضف إلى ذلك ما يسعى إليه البعض من معالجة الأحداث التاريخية المحلية، من زاوية نظر مركزية، ويَتَعَلَّق الأمر بالمقارَنة التي وضعها المفكر المغربي عبدالله العروي في كتابه: "ثقافتُنا في ضوء التاريخ"، بين ابن خلدون وميكافيللي، وشَتَّان بين الثَّرَى والثُّرَيَّا، وهي حسب اعتقادي أصبح المفكر الغربي وسيلة للحُكم على الأسود في العقيدة الثقافية الإسلاميَّة، لله دَرُّ الشاعر إذ يقول:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُ *** إِذَا قِيلَ أَنَّ السَّيْفَ أَمْضَى مِنَ الْعَصَا
وهنا يُطْرَح سؤال: لماذا الإصرار على"ثقافة الاجترار"، رغم ما تَتَخَبَّط فيه مصداقيَّة البحث التاريخي في أعتى دول العالم المركزي الغربي، مِن تزوير للحقائق، وتشويهٍ للتفاصيل؟!
وهذا يظهر جليًّا في الرؤية المُوَالية، التي تحاول نفض الغبار، وإزالة السِّتار عن عُيُوب المنهج التاريخي المركزي، أم المغلوب مولع بتقليد الغالِب على حد تعبير ابن خلدون، ألَم يكن منَ الأجدى التفكير في رؤية تنطلق منَ الذات، دون نسيان المحيط العالمي، ومِن ثَمَّ الحكم على تجارِبه.
هنا تَحْضرنِي مقولةٌ لابن رشد بقَوْلِه: "إنا أَلْفَيْنا لِمَن تقدمنا مِنَ الأمم السالفة نظرًا في الموجودات واعتبارًا لها، بحسب ما اقْتَضَتْه شرائط البُرهان، أن ننظُرَ في الذي قالُوه مِن ذلك، وما أَثْبتُوه في كُتُبهم، فما كان منها موافِقًا للحقِّ قَبِلْناه منهم، وسررنا به، وشَكَرْناهم عليه، وما كان غير مُوافِق للحق نَبَّهْنا عليه".
وفي نفسه: لماذا لا يتم الأَخْذ بالرؤية اليابانيَّة، التي انطلَقَتْ مِن ثقافتها في تغيير المعالِم الاقتصاديَّة؟ يقول براتراند راسل: "كانتِ اليابان دولةً متَخَلِّفة اقتصاديًّا، إلاَّ أنها لم تكنْ تشعر أبدًا أنها دولة متخلِّفَة ثقافيًّا".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق