السبت، 30 أبريل 2016

التاريخ في مهب الريح (2)


إِنَّ الْحَـــــــمْدَ لِلهِ تَعَالَى، نَحْمَدُهُ وَ نَسْتَعِينُ بِهِ وَ نَسْتَهْدِيهِ وَ نَسْــتَنْصِرُه
وَ نَــــعُوذُ بِالْلهِ تَعَالَى مِنْ شُــــرُورِ أَنْفُسِنَا وَ مِنْ سَيِّئَــــاتِ أَعْمَالِنَا
مَنْ يَـــهْدِهِ الْلهُ تَعَالَى فَلَا مُضِــــلَّ لَهُ، وَ مَنْ يُـضْلِلْ فَلَا هَــــادِىَ لَه
وَ أَشْــــــــــهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الْلهُ وَحْــــــدَهُ لَا شَــــــرِيكَ لَه
وَ أَشْـــهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، صَلَّى الْلهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَا
أَمَّـــا بَعْــــد:

{{التاريخ في مهب الريح (2)}}
{ للأمانة...الكاتب ::مولاي المصطفى البرجاوي}
الثالثة- الرؤية الذَّاتيَّة "اللُّوبيَّة":
وَيَتَمَثَّل في هذا العصر ما تقدم عليه، وما تُمارسه الدول التي تَتَبَجَّح بالدِّيمقراطية مِن مُضايقات في حقِّ المؤرخينَ الموضوعِيينَ المنصِفينَ.
القائمة طويلة في هذا الباب، لكن سَنُرَكِّز على الحَدَث القريب منَّا جدًّا، ألا وهو محاكَمة المؤرخ البريطاني "دافيد جون تاوديل إيرفينغ"، الذي حكمتْ عليه المحكمة النِّمساويَّة بثلاث سنوات سجنًا؛ إثر تَشْكِيكه في وُجُود غُرَفٍ للغاز، وقضاء ستة ملايين من يهود أوربا فيها (الهولوكست)، بناء على تلك الحقائق الجديدة التي طَفَت على السطح، باعتبار مهنية وتخصُّص هذا المؤرِّخ في تاريخ الحرب العالمية الثانية، يقول روبرت هاريس في حقِّه: "ليس هناك مؤرخ متخصِّص في الحرب العالمية الثانية يُمكنه أن يجهلَ إيرفينغ، فالمعاصرون لا يُضَاهونَه في عِلْمه بدقائق وتفاصيل الحرب العالمية الثانية".
حرية التعبير هاتِه التي أصبح يُفعل بها، ولا يُحتَمى بِلوائها إلاَّ إذا كانت تخدم المصالِح الذَّاتية للدول المنضوية تحت لواء الردع الإسرائيلي، عندئذٍ تطرح أسئلة متقابلة: هل بعد هذه العَنْجَهيَّة والتَّسَلُّط على الفِكْر التاريخي مِن هَرْولةٍ وراء أذناب المركزية الأوربيَّة؟ أو ثقافة الاختراق التي عَبَّرَ عنها المُفَكِّر المغربي محمد الجابري هي التي أَلْقَتْ بِظِلالها، وأمسكتْ بالنواجذ على طرح بعض مُثَقَّفينا؟
الرابع- النَّظْرة الشموليَّة في الدِّراسات التاريخيَّة:
تَتَمَثَّل في مدرسة الحوليَّات، التي حاولت تقزيم ما كان مُضَخَّمًا في مرحلةٍ منَ المراحل؛ أي: إعطاء كل جانبٍ حقه منَ التحليل، وقبل ظهور هذه المدرسة طفا على سطح المصادر التاريخيَّة بأنواعها الأوَّليَّة؛ أي: الكُتُب المعاصِرة للأحداث التاريخية، أو الثانوية، كتب تُؤَرِّخ لمرحلةٍ لم يتم مُعاصرتها، الحوادِث السِّياسيَّة، وأُمِيطَ اللِّثام عن جوانب أخرى أكثر أهميَّة، باستثناء بعض كُتُب الرَّحَّالة والجُغرافِيينَ مِن قبيل ابن بطوطة في كتابه "عجائب الآثار"، وابن حوقل في "وصف الأرض"، وأصحاب "المسالك والممالك" (الإصطخري)، التي تَنَاوَلَتْ بعض هذه النُّتَف التي يعتمد عليها الباحث في دراسة مثلاً موضوع غير مطروق بشكْل موسَّع: (تاريخ العوام بالمغرب، ظاهرة الأوبئة، المشكلة الدِّيمغرافيَّة).
ففي السابق كان جُلُّ تركيز المؤرِّخينَ يُغَطِّي الأُسَر الحاكمة، ويُهَمِّش المجتمع العادي، وما كان يعانِيه، وكأنَّ التاريخ ما وُضِعَ إلا لِيُلَبِّي رغبات وطموحات السلطان، يقول أحدُ المشاركينَ في بروز ولَمَعان مدرسة الحوليَّات، وهو "أرييس": "إن كل ما ننفق فيه الوقت في دراسة الحوادث التاريخية - التاريخ السياسي، تاريخ الأشخاص، الأبطال، النجم... - ربما لا يكون في الواقع إلا الواجهة الظاهرة للتاريخ، وإنَّ التاريخ الحقيقي يقع وراء ذلك في حياة الناس العادِيينَ، وآمالهم وآلامهم، ومخاوفهم... ".
ذلك أن التاريخ إذا انقلب ليصبحَ مجرد حروبٍ، ومعاهداتٍ، وسِيَر أشخاص، ومواريث حُكم، بعيدًا عنِ التاريخ الدِّيني والثقافي والحضاري، واستِكْناه حقائقه وموجهاته، قد لا يستحق المعرفة والجهد؛ لأنَّ ذلك لا يضيف شيئًا يُذْكَر، وقد يكون مضيعةً للأجر والعمر معًا.
فالتَّعامُل مع الأحداث مِن زاويةٍ ضَيِّقةٍ، وتهميش قضايا أكثر وقعًا ودينامكية، يُساهِم في تسطيح وتخدير الوعي البشري، فيصبح عقلاً منَ الدَّرَجة الثالثة، والرابعة، والعاشرة؛ يقول مَن يسمى بـ(فيلسوف عصر الأنوار)، مبتكرُ مصطلح "فلسفة التاريخ " سنة 1756 في كتابه الموسوم بـ"طبائع الأمم وفلسفة التاريخ": "ولكني بعد قراءة وصفِ ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف معركة، وبضع مئات منَ المعاهدات، لم أجدْ نفسي أكثر حكمة مما كنتُ قبلها، حيث لم أتعرف إلاَّ على مجرد حوادث لا تستحق عناء المعرفة"؛ أحمد محمود صبحي: في فلسفة التاريخ، الأسكندرية ص180 و181،.
فلو رَجَعنا إلى تراثنا الإسلامي، لَوَجَدْناه زاخِرًا بما هو أنفع وأقوم من ذلك، يقول الإمام السبكي: "إنَّ أهل التاريخ ربما وَضَعوا من أناس، أو رفعوا أناسًا، إمَّا لتعَصُّب، أو جهل، أو لمجرد اعتماد على نقلِ مَن لا يوثَق به"، وقال: "والجهل في المؤرخين أكثر منه في أهل الجرح والتعديل، وكذلك التَّعَصُّب، قَلَّ أن رأيتَ تاريخًا خاليًا منه"؛ "الإعلان بالتوبيخ لِمن ذم التاريخ"؛ للسخاوي 73 - 76.
ويقول ابن خلدون: "كثيرًا ما وَقَعَ المؤرخون والمفسِّرون وأئمة النَّقل في المغالِط، والحكايات، والوقائع؛ لاعتِمادِهم فيها على مجرد النقل غَثًّا أو سمينًا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسُوها بأشباهها، ولا بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النَّظَر والبصيرة في الأخبار"؛ (مقدمة ابن خلدون).
- الرُّؤية الإسلامية:
بلا شك أنَّ التاريخ الإسلامي ليس تاريخًا معصومًا، ويخطئ مَن يعتقد عكس ذلك؛ إذ تَأَرجَحَ بين الصعود والنزول؛ وذلك تبعًا للتَّمَسُّك بكتاب الله وسنة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - علمًا وعملاً، كما أنَّ تاريخ الأمَّة الإسلاميَّة لا يمكن بتاتًا تجزيئه وتمزيقُه، فهو وَحدة متكاملةٌ، فتشريحه إلى وحدات منفصلة أمرٌ طارئ، إمَّا لظروف عدائيَّة خارجية، أو دعائية داخليَّة.
أمَّا عمليَّة التأريخ الإسلامي، فقدِ اتَّبَعت في غالب الأحيان منهجَ الحوليَّات العمودية؛ التي تعتمد التسلسل الزمني، على عكس الحوليات الأفقيَّة مع المؤرخ الفرنسي "فرناند بروديل"، الذي رَكَّز على المكان أكثر منَ الزمان[2]، وما يُعاب عليه جمع المعلومات دون تَمْحيصها، والتَّثَبُّت في إخباريتها.
مِن أجمل ما قَرَأْت ما ذَكَرَهُ العَلاَّمة عبدالعال الطهطاوي - رحمه الله -: "إنَّ رِواية المؤرخينَ رواية علميَّة، والرواية العلمية هي رواية المحدثين؛ لذلك كان المرجع الأول لتاريخنا ما رواه المحدثون، وكان الجاهل بمصطلحهم لا يُعَدُّ مُؤَرِّخًا، ولو كَتَبَ التاريخ"[3].
لهذا فتاريخنا الإسلامي - كما قال محمد السلمي - بحاجة إلى رجال أمناء، حريصينَ على تاريخ أمتهم، ويعرفون خطط أعدائهم، وكيدهم المستمر، ويتلقون العلم مِن مصادره الصحيحة والمأمونة، ويتبعون في التحقيق منهجًا علميًّا رصينًا، ولا يقبلون قولاً بغير دليل، ويفحصون كل ما يُقَدَّم لهم، حتى لا يقعوا فريسة لِكَيْد أعدائهم.
خلاصة القول:
إنَّ منهجيَّة كتابة وتفسير التاريخ في أزمةٍ خانِقة، وفي نفس الوقت في حالة تأهُّب قصوى، تستنجد بِمَن ينقذها ويخرجها من يَدِ الأصنام الفكريَّة التائِهة البائِدة.
إذًا وكما الطحين بحاجة إلى غربال، يزيل عنه قشوره وشوائبه، فما يُقْرأ ويُدَوَّن منَ الأحداث التاريخية، أيضًا بحاجةٍ إلى عين ناقِدة، تستخلص ذَهَبه مِن نحاسه، (كما هو مُتَّبَع عند علماء الجرح والتعديل في تقبُّل الأخبار والرِّوايات).
والناس يتعاملون مع هذه المطبوعات والرِّوايات - خاصة التاريخية - على ضروب كثيرة كما سطر أحد الباحثين، أبرزها ثلاثة:
- أما الأول: فهو المتَلَقِّي الواعي،الذي يُغَربِل ما يقرأ، ثم يَتَأَنَّى في قَبول أو رَدِّ رأيٍّ يُعْرَض عليه، فيعرف الغَثَّ منَ السمين، ويراعِي قبل ذلك، حال صاحبه، أهو ثقة، أم مجهول لا يعرف منبته؟ وهذا الضَّرب لا يُخاف منه، ولا عليه.
والثاني: هو الذي لا يقبل أي رأي، لا يملك أي دربة في التمحيص، ينظر مَن يجود عليه بمعلومات، ربما الناقل لها أخْطَرُ مِن مصدرها، فيتعرض المتلقِّي للاضطراب الفكري والجهل المتنامِي.
أما الأخير: فهو المستَهدَف، وإليه تُوَجَّه السِّهام، فهو الذي يقبل ما هبَّ ودبَّ، ليس له رأي معينٌ، وليس عنده مُسلمات، ولا يعرف الثوابت، فهو طَوْع لكل فَصِيح، فهذا مصدر الداء، وأُسُّ البلاء، وعَوْنُ الأعداء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] [تعليق الألوكة]: بِغَضِّ النظر عن دوافع الدكتور محمود إسماعيل الأيدولوجية التي تدفعه إلى وَسْم ابن خلدون بما وسمه به، فإنَّ الحقيقة التي لا يُمكن تَجَاهلها أنَّ الذين رفعوا ابن خلدون إلى تلك المنزلة العالية فيما يَتَعَلَّق بكثيرٍ منَ النظريَّات السياسية والاجتماعية وغيرها، لم يكونوا على صلة وثيقة بالتُّراث الإسلامي على مدارِ العصور، وإلاَّ فإن ما سطره ابن خلدون مسبوق في أغلبِه من علماء مسلمينَ، بعضُهم قد تَقَدَّمه بقرونٍ طوال.
[2] [تعليق الألوكة]: المصنفات في التاريخ الإسلامي كثيرةُ المناهج، فمنها التواريخ المرتَّبَة على السنين بذكر أهم الأحداث، وأهم الوَفَيات، ومنها التواريخ المرتبة على الحروف، ومنها التواريخ الموضوعية التي تهتم بظاهرة معينة عبر التاريخ، ومنها التواريخ التي تُعْنى بطوائف معينةٍ منَ المجتمع: كالأدباء، والأطباء، والأذكياء، والمعمرين، وأصحاب العاهات... إلى غير ذلك من التواريخ الموضوعية، ومنها التواريخ الجغرافية - إن صَحَّ التعبير - وهي التي صُنِّفَت في البلدان، والمدن، والقرى، وهي تَعْرِض لتاريخ تلك المدن، وطبائع أهلها، وتقلباتها عبر الزمن، وأحوال أهلها الاقتصادية، وأنشطتهم المهنية، وغيرها، ومنها ما صُنِّفَ في التأريخ لأصحاب التصانيف العلميَّة، بِغَضِّ النَّظَر عن طبيعة ما سطروه من علوم، وعما يعتقدونه من عقائد، ومنها ما صَنَّفَهُ العلماء في تاريخ الفِرَق، والمذاهب، والمِلَل والنِّحَل، وما طرأ عليها مِن تطورات عبر العصور، سواء كانت التطورات الفكرية، أم المكانية، أم غيرها، ومنها ما كان من تأريخ لظواهر اجتماعية معينة، كالبخل، أو كوارث ونكبات لها مردودها على حال المجتمع في كافة جوانبه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدِّينية وغيرها، كالطاعون، إلى غير ذلك مما يطول تَتَبُّعه من مناهج المؤرخين، الذين لا يمكن حَصْرهم في أولئك الذين صنفوا كمؤرخين فحسب؛ فإن عِلْم التاريخ كان عِلمًا مُشتبكًا بغيره منَ العلوم على مدار التاريخ الإسلامي، مما جعل أغلب المُشتغلينَ بالعلوم لهم مشاركة في التاريخ، كل حسب فنه، وموسوعيته.
ومِن ثَمَّ، فإن ما ذهب إليه الكاتب من كون التاريخ الإسلامي كان في أغلبه تأريخًا حوليًّا، وإن تركيز المؤرخين كان يغطي الأُسَر الحاكِمة ويهمش غيرها من طوائف المجتمع ليس صحيحًا، وإن صَحَّ وصف نتاج مؤرخي أوروبا قبل عصر النهضة بذلك، فلا يَصِح تعميم هذا الوصف على كلِّ المؤرخين.
[3] [تعليق الألوكة]: مناهج المحدثين صمام أمان للبحث العلمي التاريخي الدقيق؛ لكنها وحدها لا تكفي لتكوين المَلَكَة التاريخيَّة، فَفَرْق بين رواية الحَدَث بإسناد صحيح، ومتن سليم، وبين تحليل الحدث، والنظر في الأسباب والنتائج، ودراسة الظواهر الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وغيرها، فلا بدَّ من عوامل أخرى تكتنف المَلَكَة الحديثية، وقد اجتمعت تلك العوامل لدى العديد من علماء الإسلام، الذين جمعوا بين عِلْمي الحديث، والتاريخ، وأضافوا إلى ذلك موسوعيتهم في علوم الشريعة، كالحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر - رحمهما الله - تعالى -.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق