العمل الإسلامي ومعركة التحدي الحضاري
د. أحمد العسال
خطر التحدي الحضاري الغربي
تخطو الأمة الإسلامية إلى القرن الخامس عشر الهجري مواجهة تحديات كثيرة قابلَتْها في مسيرتها، والتحديات في طبيعتها وجوهرها تظهر قوة الأمة وقدرتها على الاستجابة للتحدي والانتصار عليه وتجاوزه، مما لا شك فيه أن أكبر تحد واجه الأمة في تاريخها الطويل هو التحدي الحضاري الغربي الذي دخل إليها في عقر دارها والذي أتى إليها في صور متعددة وأفانين متنوعة، من الجيش المنظم والتدريب المتقدم إلى المعمل العلمي المجهّز إلى مدرسة الروضة الرائقة الموفقة الحالفة بشتى ألوان النشاط والألعاب فضلاً عن العمل السياسي المزدهر ومناخه الحر الذي يتيح اختلاف الرأي دون إرهاب أو خوف أو انتقاص إلى آخر المؤسسات في المجتمع الغربي.
وياليت هذه الحضارة جاءت والأمة عندها قدرة الاختيار والفحص والتقويم، إذاً لاستطاعت الاستجابة للتحدي ولأمكنها عند ذلك أن تفرز وتأخذ لنفسها ما يوافق روحها وفكرها ولطرحت الجوانب الأخرى وراءها ظِهرياً، لكن القضية أنها جاءت والأمة في حالة ضياع وانهيار والأيام دول يوم لك ويوم عليك، ولم تكن هذه الحضارة في موقف المعطي الذي يعرض ما عنده مثلما فعل الإسلام عندما دخل بلاد الروم وفارس، كلا.. بل جاءت غازية مستعمرة كل همها أن تحول بلاد الإسلام إلى أسواق للمنتجات ومصادر للمواد الخام، وأن تعمل لتعطيل وتعويق قوى النهوض والاصلاح ولتبقى هذه البلاد في مركز التابع الذليل، ولتحُول دون يقظة إسلامية جديدة تعيد للأمة دورها الرائد في أن تقدم للجماعات البشرية النورَ والهدى والصراط المستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات والأرض.
طبيعة المواجهة
وفي هذه النقطة وهي نقطة المواجهة بين الحضارة الغربي الغازية المستعمرة المؤهلة والمقتدرة.. والأمة الإسلامية بظروفها وأحوالها وما صارت إليه كانت الملحمة التي تعيشها هذه الأمة، وكان السؤال الذي يطرح نفسه: هل تستطيع أمة أو حضارة غازية مثل الحضارة الغربية أن تعيق الأمة وتمنعها من أن تأخذ طريقها بين الأمم وتصنع لها المتاهات التي تجعلها تضرب في بيداء وتجري وراء السراب؟
والأجابة على السؤال المطروح ليس بسيطاً ولا سهلاً، وذلك لأن ما في هذا الصراع وواقعه بل وحاضره يقول ببساطة: نعم، والأدلة أكثر من أن تحصى وتعد، ولكن للمسألة وجهاً آخر يجب أن ننظر إليها من زاويته وهو الأجدر والأحق، ويفضل في مثل هذه القضية الكبيرة والخطيرة أن نعمد إلى التوضيح والتفصيل بدلاً من الكلمة الموجزة والاشارة العابرة فنقول: إن الله تبارك أقام هذه الحياة على التدافع وعلى الصراع بين الحق والباطل، يقول سبحانه: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامعُ وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً) (الحج: 40)، (ولو شاء الله لانتصرَ منهم ولكن ليبلوَ بعضَكم ببعض) (محمد: 4)، (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويلُ مما تصفون) (الأنبياء: 18)، (كذلك يضربُ اللهُ الحق والباطل، فأما الزبدُ فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب اللهُ الأمثال) (الرعد: 17).
الأمة الإسلامية بين مرحلتين
ولقد حدث الصراع بين أمتنا وغيرها في مرحلتين واضحتين، إحداهما وهي تملك من أسباب الغلبة وسنن الحق وقوى النهوض ما جعلها تسود غيرها وتمنع نفسها وتقيم حضارة باسقة وارفة الظلال يانعة الثمار، والثانية حينما دارت عليها دورة الحياة والزمان فنسيت نفسها ووهنت عزيمتها، فضعفت عن إقامة الحق في حياتها وتسرب إليها الوهن والضعف، فشاع فيها الفساط والظلم فانحلت عرى الإيمان بين أبنائها واضمحل العمل الصالح فحق عليها القول فحدث التدمير والخراب: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القولُ فدمّرناها تدميراً. وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً) (الإسراء: 16-17).
ونحن نعيش المرحلة الثانية ونرى آثار التفسخ ومظاهر الانحلال، نرى تيار التبعية والانحياز على حد قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سَنن مَن قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. فقالوا: اليهود النصارى؟ قال: فمن؟ والحديث واضح كل الوضوح في نسيان الأمة لمصالحها وسيادة تيار التبعية حتى يركب هؤلاء المتبعون الصعب والذلول ويلجوا جحر الضب الخر على ضيقة وسوئه، وعدم ملاءمته ولكن كما يقولون: حبُّك الشيء يعمي ويصمّ.
ولقد استساغ أبناء المسلمين كثيراً من سنن الغربيين، في الحياة وآداب الاجتماع وأنماط السلوك وطرائق التفكير، ولعل أخطرها شأناً وأكثرها وبالاً استصغار أنفسهم واحتقار أمتهم والركون إلى كل ما تأتي به الحضارة الغربية فأصبحوا والعياذ بالله كالقردة التي تجيد التقليد والمحاكاة ولكنها أبعد ما تكون عن الابداع والاختيار الحر الذي يميز بين الخبيث والطيب.
أمران هامّان
على أنه يجب أن ننتبه هنا إلى أمرين هامين:
أولهما: أن الاحتكاك الحضاري الذي تمّ بيننا وبين الحضارة الغربية لم يكن كله شراً، بل كانت له فوائد كثيرة مثل الاستفادة من المنجزات العلمية والأساليب الحضارية الخيرة في خدمة المجتمع والبيئة وفي تطوير الزراعة والصناعة.
وثانيهما: أن هناك طبائع للأشياء لا بد من تقديرها ووزنها حتى يمكن اتخاذ موقف سليم وصحيح من غير انفعال هائج ولا حماس طائش، فكلاهما مضيع للطاقة مبدد للوقت والإمكانيات، ومن هذه الأمور التي يجب أن نفهمها تماماً، ألا وهي الروح الاستعمارية التي جاءت بها إلينا الحضارة الغربية روح الغلبة والسيطرة والسيادة وعنصر التفوق والريادة، وأنه لا يمكن تعادل الكفة بيننا وبينها ولا الوقوف منها موقف الند إلا إذا ملكنا وسائل هذه الحضارة وألبسناها روحنا وقدمنا منجزاتها من جديد بعبقرية الإسلام وأخلاقه وآدابه.. وهذه النقطة الأخيرة هي نقطة المواجهة بين العمل الإسلامي الذي تضطرم روحه في نفوس الشباب هذه الأيام وتغلى به دماؤهم، وبين عمل الحضارة الغربية بمفاهيمها وأخلاقها على أرض الإسلام وفي مجتمعاته.
هذه المواجهة التي قام من أجلها المجددون والمصلحون، والذي سال من أجلها مداد العلماء والأدباء والمفكرين في كيفية مواجهتها، وسطر الشهداءُ بدمائهم الزكية حروفها، يجب أن يكون طريقها معروفاً وسهلاً وسبيلها مفهوماً، ويجب أن نُنَحّي الغبش عن رؤيتنا للواقع وما يعتمل فيه من عوامل وما تؤثر فيه من قوى وأن نعمد إلى طريق البناء بوعي ويقظة وبدأب وثبات.
منهج في التفكير
إن أول ما نحتاجه في هذه المواجهة هو منهج في التفكير يعصمنا من الزلل ويجنبنا العثار ويؤمننا غوائل الطريق ويمدنا بمعايير التقويم والاصلاح، ومن فضل الله عز وجل أن رزقنا من لدنه الرزق الحسن فحفظ لنا كتابه المبين وجعل تفسيره في هدي خاتم النبيين والمرسلين، وجعل سبيلنا إلى فهم الكتاب والسنة العقل الرشيد، الذي يفهم لغة الكتاب وأسباب النزول ومراحل الوحي والتنزيل وحكمة الشرع فيما شرع وتقديره لجلب المنافع للناس ودفع المضار عنهم وتقديره لظروفهم وأوضاعهم (لا يكلف اللهُ نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (البقرة: 286).
هذا المنهج يعتمد الفطرة ويهتم بخطابها، إذ أنها الدين، ويكره الاعتساف والغلو. كما أنه أمر بالعلم وفرضه وجعله مطلباً أولياً لا يقبل العمل الصالح إلا على أساسه. ومن هنا قال البخاري في صحيحه: باب العلم قبل القول والعمل، واستشهد بتقديم الله عز وجل في قوله سبحانه: (فاعلمْ أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (محمد: 9)، (شهدَ اللهُ أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط) (آل عمران: 18)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. وقد تعلم الصحابة العلم وهم كبار، وقال عمر بن عبد العزيز: من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح. وقال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك.
قاعدة المنهج الإسلامي
وقاعدة المنهج العلمي في الإسلام هي الفقه: أي فهم الشيء على أصله وإدراكه من جميع جوانبه وذلك لا يكون إلا بفقه النص وفقه الواقع، وتلك، وأيم الله، ميزة الإسلام الفريدة في تقديره الواقع وأخذه بأسباب المعالجة الناجعة وتوصيته الفريدة بأن يكون المسلم حكيماً في قوله ونصحه. وقد قال سلفنا الصالح من أن المراد بالحكمة في قوله تعالى: (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) (النحل: 125) وفي قوله عز من قائل: (يؤتِ الحكمة من يشاء ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) (البقرة:269): هي الفقه. وفي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأدبه في الدعوة وطريقة معالجته للأمور والقضايا بالحكمة والبصيرة النافذة لم ينهر البدوي الذي بال في المسجد وإنما تركه ثم علّمه وأمر بإصلاح من فعل، ولم يغضب من البدوي الي سأله باسمه المجرد وإنما أجابه، ولم يوافق على ضرب غلام المشركين يوم بدر وإنما وجه السؤال الحكيم –ليصل إلى معرفة عدد القوم- كم يذبح القوم كل يوم؟ ولم يطلب من معاذ حين أرسله إلى اليمن أن يبدأ من السنن وإنما بدأ بالأصول الأولى فقال له: إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه... الخ.. وقد كان هديه وسمته، أليس هو القائل: بعثت بالحنيفية السمحة. والحنيفية هي الفطرة، والسماحة هي أخذ الأمور بيسر وعدم اعتساف..
وإذا كان الفقه هو فهم النص وإدراك الواقع بيسر وسماحة، فهو أيضاً العمل بما نعلم ولا يكون الإنسان فقيها إلا إذا عمل بما علم ودخل التجربة وذاق لذة المجاهدة فكان فقهه عم ملامسة للواقع وإدراك لمشكلاته ليس من الجانب النظري فحسب ولكن من المعاناة العملية، والعمل المطلوب هنا ليس مجرد إدائه بل هو إجادته وإحسانه وإتقانه، يقول الله سبحانه وتعالى: (الذي خلق الموتَ والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) (الملك: 2)، ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليُرح ذبيحته.
وإذا كان الإسلام قد طلب الفقه من أصغر شيء في أحكامه وهو الوضوء إلى أكبر شيء وهي الإمامة والحكم، فإن الفقه مطلوب في الحياة كلها ومواجهة القضايا كلها، وإذا كان الصحابة عرفوا لكل شيء وزنه ولكل تخصص حقه، وقال عمر رضي الله عنه: من أراد الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد المال فليأتني. وتخصص في الحديث وحفظه أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وغيرها.
وإذا أردنا أن يطّرد هذا المنهج فيما نواجه من قضايا وفيما نطرح من مشكلات فلا بد من فقه للمواجهات وإعداد لها وأخذ السبل الصحيحة لغلبتها. والواضح في مواجهتنا الحضارية أن قدراً كبيراً من الفراغ الفكري والعلمي لا زال شاغراً، وإننا نقابل هذه الحضارة بحماسات هائجة وبأماني معسولة، وأن الأصالة الأخلاقية والمثابرة الجادة لا زال كثير منا لم يتعودها ولم يدخل تجربتها، فلنعد إلى أنفسنا وإلى واقعنا ولنتسلح بالفقه المبصر وسنجد السبيل الصحيح من خلاله. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
د. أحمد العسال
خطر التحدي الحضاري الغربي
تخطو الأمة الإسلامية إلى القرن الخامس عشر الهجري مواجهة تحديات كثيرة قابلَتْها في مسيرتها، والتحديات في طبيعتها وجوهرها تظهر قوة الأمة وقدرتها على الاستجابة للتحدي والانتصار عليه وتجاوزه، مما لا شك فيه أن أكبر تحد واجه الأمة في تاريخها الطويل هو التحدي الحضاري الغربي الذي دخل إليها في عقر دارها والذي أتى إليها في صور متعددة وأفانين متنوعة، من الجيش المنظم والتدريب المتقدم إلى المعمل العلمي المجهّز إلى مدرسة الروضة الرائقة الموفقة الحالفة بشتى ألوان النشاط والألعاب فضلاً عن العمل السياسي المزدهر ومناخه الحر الذي يتيح اختلاف الرأي دون إرهاب أو خوف أو انتقاص إلى آخر المؤسسات في المجتمع الغربي.
وياليت هذه الحضارة جاءت والأمة عندها قدرة الاختيار والفحص والتقويم، إذاً لاستطاعت الاستجابة للتحدي ولأمكنها عند ذلك أن تفرز وتأخذ لنفسها ما يوافق روحها وفكرها ولطرحت الجوانب الأخرى وراءها ظِهرياً، لكن القضية أنها جاءت والأمة في حالة ضياع وانهيار والأيام دول يوم لك ويوم عليك، ولم تكن هذه الحضارة في موقف المعطي الذي يعرض ما عنده مثلما فعل الإسلام عندما دخل بلاد الروم وفارس، كلا.. بل جاءت غازية مستعمرة كل همها أن تحول بلاد الإسلام إلى أسواق للمنتجات ومصادر للمواد الخام، وأن تعمل لتعطيل وتعويق قوى النهوض والاصلاح ولتبقى هذه البلاد في مركز التابع الذليل، ولتحُول دون يقظة إسلامية جديدة تعيد للأمة دورها الرائد في أن تقدم للجماعات البشرية النورَ والهدى والصراط المستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات والأرض.
طبيعة المواجهة
وفي هذه النقطة وهي نقطة المواجهة بين الحضارة الغربي الغازية المستعمرة المؤهلة والمقتدرة.. والأمة الإسلامية بظروفها وأحوالها وما صارت إليه كانت الملحمة التي تعيشها هذه الأمة، وكان السؤال الذي يطرح نفسه: هل تستطيع أمة أو حضارة غازية مثل الحضارة الغربية أن تعيق الأمة وتمنعها من أن تأخذ طريقها بين الأمم وتصنع لها المتاهات التي تجعلها تضرب في بيداء وتجري وراء السراب؟
والأجابة على السؤال المطروح ليس بسيطاً ولا سهلاً، وذلك لأن ما في هذا الصراع وواقعه بل وحاضره يقول ببساطة: نعم، والأدلة أكثر من أن تحصى وتعد، ولكن للمسألة وجهاً آخر يجب أن ننظر إليها من زاويته وهو الأجدر والأحق، ويفضل في مثل هذه القضية الكبيرة والخطيرة أن نعمد إلى التوضيح والتفصيل بدلاً من الكلمة الموجزة والاشارة العابرة فنقول: إن الله تبارك أقام هذه الحياة على التدافع وعلى الصراع بين الحق والباطل، يقول سبحانه: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدّمت صوامعُ وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً) (الحج: 40)، (ولو شاء الله لانتصرَ منهم ولكن ليبلوَ بعضَكم ببعض) (محمد: 4)، (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويلُ مما تصفون) (الأنبياء: 18)، (كذلك يضربُ اللهُ الحق والباطل، فأما الزبدُ فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب اللهُ الأمثال) (الرعد: 17).
الأمة الإسلامية بين مرحلتين
ولقد حدث الصراع بين أمتنا وغيرها في مرحلتين واضحتين، إحداهما وهي تملك من أسباب الغلبة وسنن الحق وقوى النهوض ما جعلها تسود غيرها وتمنع نفسها وتقيم حضارة باسقة وارفة الظلال يانعة الثمار، والثانية حينما دارت عليها دورة الحياة والزمان فنسيت نفسها ووهنت عزيمتها، فضعفت عن إقامة الحق في حياتها وتسرب إليها الوهن والضعف، فشاع فيها الفساط والظلم فانحلت عرى الإيمان بين أبنائها واضمحل العمل الصالح فحق عليها القول فحدث التدمير والخراب: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القولُ فدمّرناها تدميراً. وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً) (الإسراء: 16-17).
ونحن نعيش المرحلة الثانية ونرى آثار التفسخ ومظاهر الانحلال، نرى تيار التبعية والانحياز على حد قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سَنن مَن قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. فقالوا: اليهود النصارى؟ قال: فمن؟ والحديث واضح كل الوضوح في نسيان الأمة لمصالحها وسيادة تيار التبعية حتى يركب هؤلاء المتبعون الصعب والذلول ويلجوا جحر الضب الخر على ضيقة وسوئه، وعدم ملاءمته ولكن كما يقولون: حبُّك الشيء يعمي ويصمّ.
ولقد استساغ أبناء المسلمين كثيراً من سنن الغربيين، في الحياة وآداب الاجتماع وأنماط السلوك وطرائق التفكير، ولعل أخطرها شأناً وأكثرها وبالاً استصغار أنفسهم واحتقار أمتهم والركون إلى كل ما تأتي به الحضارة الغربية فأصبحوا والعياذ بالله كالقردة التي تجيد التقليد والمحاكاة ولكنها أبعد ما تكون عن الابداع والاختيار الحر الذي يميز بين الخبيث والطيب.
أمران هامّان
على أنه يجب أن ننتبه هنا إلى أمرين هامين:
أولهما: أن الاحتكاك الحضاري الذي تمّ بيننا وبين الحضارة الغربية لم يكن كله شراً، بل كانت له فوائد كثيرة مثل الاستفادة من المنجزات العلمية والأساليب الحضارية الخيرة في خدمة المجتمع والبيئة وفي تطوير الزراعة والصناعة.
وثانيهما: أن هناك طبائع للأشياء لا بد من تقديرها ووزنها حتى يمكن اتخاذ موقف سليم وصحيح من غير انفعال هائج ولا حماس طائش، فكلاهما مضيع للطاقة مبدد للوقت والإمكانيات، ومن هذه الأمور التي يجب أن نفهمها تماماً، ألا وهي الروح الاستعمارية التي جاءت بها إلينا الحضارة الغربية روح الغلبة والسيطرة والسيادة وعنصر التفوق والريادة، وأنه لا يمكن تعادل الكفة بيننا وبينها ولا الوقوف منها موقف الند إلا إذا ملكنا وسائل هذه الحضارة وألبسناها روحنا وقدمنا منجزاتها من جديد بعبقرية الإسلام وأخلاقه وآدابه.. وهذه النقطة الأخيرة هي نقطة المواجهة بين العمل الإسلامي الذي تضطرم روحه في نفوس الشباب هذه الأيام وتغلى به دماؤهم، وبين عمل الحضارة الغربية بمفاهيمها وأخلاقها على أرض الإسلام وفي مجتمعاته.
هذه المواجهة التي قام من أجلها المجددون والمصلحون، والذي سال من أجلها مداد العلماء والأدباء والمفكرين في كيفية مواجهتها، وسطر الشهداءُ بدمائهم الزكية حروفها، يجب أن يكون طريقها معروفاً وسهلاً وسبيلها مفهوماً، ويجب أن نُنَحّي الغبش عن رؤيتنا للواقع وما يعتمل فيه من عوامل وما تؤثر فيه من قوى وأن نعمد إلى طريق البناء بوعي ويقظة وبدأب وثبات.
منهج في التفكير
إن أول ما نحتاجه في هذه المواجهة هو منهج في التفكير يعصمنا من الزلل ويجنبنا العثار ويؤمننا غوائل الطريق ويمدنا بمعايير التقويم والاصلاح، ومن فضل الله عز وجل أن رزقنا من لدنه الرزق الحسن فحفظ لنا كتابه المبين وجعل تفسيره في هدي خاتم النبيين والمرسلين، وجعل سبيلنا إلى فهم الكتاب والسنة العقل الرشيد، الذي يفهم لغة الكتاب وأسباب النزول ومراحل الوحي والتنزيل وحكمة الشرع فيما شرع وتقديره لجلب المنافع للناس ودفع المضار عنهم وتقديره لظروفهم وأوضاعهم (لا يكلف اللهُ نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (البقرة: 286).
هذا المنهج يعتمد الفطرة ويهتم بخطابها، إذ أنها الدين، ويكره الاعتساف والغلو. كما أنه أمر بالعلم وفرضه وجعله مطلباً أولياً لا يقبل العمل الصالح إلا على أساسه. ومن هنا قال البخاري في صحيحه: باب العلم قبل القول والعمل، واستشهد بتقديم الله عز وجل في قوله سبحانه: (فاعلمْ أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (محمد: 9)، (شهدَ اللهُ أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط) (آل عمران: 18)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. وقد تعلم الصحابة العلم وهم كبار، وقال عمر بن عبد العزيز: من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح. وقال علي رضي الله عنه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك.
قاعدة المنهج الإسلامي
وقاعدة المنهج العلمي في الإسلام هي الفقه: أي فهم الشيء على أصله وإدراكه من جميع جوانبه وذلك لا يكون إلا بفقه النص وفقه الواقع، وتلك، وأيم الله، ميزة الإسلام الفريدة في تقديره الواقع وأخذه بأسباب المعالجة الناجعة وتوصيته الفريدة بأن يكون المسلم حكيماً في قوله ونصحه. وقد قال سلفنا الصالح من أن المراد بالحكمة في قوله تعالى: (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) (النحل: 125) وفي قوله عز من قائل: (يؤتِ الحكمة من يشاء ومن يُؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) (البقرة:269): هي الفقه. وفي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأدبه في الدعوة وطريقة معالجته للأمور والقضايا بالحكمة والبصيرة النافذة لم ينهر البدوي الذي بال في المسجد وإنما تركه ثم علّمه وأمر بإصلاح من فعل، ولم يغضب من البدوي الي سأله باسمه المجرد وإنما أجابه، ولم يوافق على ضرب غلام المشركين يوم بدر وإنما وجه السؤال الحكيم –ليصل إلى معرفة عدد القوم- كم يذبح القوم كل يوم؟ ولم يطلب من معاذ حين أرسله إلى اليمن أن يبدأ من السنن وإنما بدأ بالأصول الأولى فقال له: إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه... الخ.. وقد كان هديه وسمته، أليس هو القائل: بعثت بالحنيفية السمحة. والحنيفية هي الفطرة، والسماحة هي أخذ الأمور بيسر وعدم اعتساف..
وإذا كان الفقه هو فهم النص وإدراك الواقع بيسر وسماحة، فهو أيضاً العمل بما نعلم ولا يكون الإنسان فقيها إلا إذا عمل بما علم ودخل التجربة وذاق لذة المجاهدة فكان فقهه عم ملامسة للواقع وإدراك لمشكلاته ليس من الجانب النظري فحسب ولكن من المعاناة العملية، والعمل المطلوب هنا ليس مجرد إدائه بل هو إجادته وإحسانه وإتقانه، يقول الله سبحانه وتعالى: (الذي خلق الموتَ والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) (الملك: 2)، ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليُرح ذبيحته.
وإذا كان الإسلام قد طلب الفقه من أصغر شيء في أحكامه وهو الوضوء إلى أكبر شيء وهي الإمامة والحكم، فإن الفقه مطلوب في الحياة كلها ومواجهة القضايا كلها، وإذا كان الصحابة عرفوا لكل شيء وزنه ولكل تخصص حقه، وقال عمر رضي الله عنه: من أراد الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد المال فليأتني. وتخصص في الحديث وحفظه أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وغيرها.
وإذا أردنا أن يطّرد هذا المنهج فيما نواجه من قضايا وفيما نطرح من مشكلات فلا بد من فقه للمواجهات وإعداد لها وأخذ السبل الصحيحة لغلبتها. والواضح في مواجهتنا الحضارية أن قدراً كبيراً من الفراغ الفكري والعلمي لا زال شاغراً، وإننا نقابل هذه الحضارة بحماسات هائجة وبأماني معسولة، وأن الأصالة الأخلاقية والمثابرة الجادة لا زال كثير منا لم يتعودها ولم يدخل تجربتها، فلنعد إلى أنفسنا وإلى واقعنا ولنتسلح بالفقه المبصر وسنجد السبيل الصحيح من خلاله. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق