الاثنين، 29 أغسطس 2016

تاريخ حضارة أجدادنا الصالحين 49


تاريخ حضارة أجدادنا الصالحين 49


أسباب الاختلاف الفقهي




وإذا ما جئنا إلى موضوع الاختلاف الفقهي؛ فإن له أسبابًا متعددة ما بين مُجْمَل ومفصَّل، لكنها تعود في حقيقة الأمر إلى أربعة أسباب إجماليَّة هي[28]:
الأوَّل: الاختلاف في ثبوت النصِّ وعدم ثبوته: فالنصُّ الشرعيُّ هو المرجع الأوَّل للمجتهدين جميعًا، وعليه يدور استنباط الأحكام الشرعية، فإذا صحَّ ثبوته وكانت دلالته صريحة، وكان سالمًا من المعارض، كان عليه الاعتماد في الحكم، وهذا معنى قول الأئمة المجتهدين: "إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي".
الثاني: اختلاف العلماء في فَهم النصوص الشرعية: فالعلماء يختلفون في فَهم النصِّ الثابت والاستنباط منه، وهذا يرجع إلى جانبين: جانب يعود إلى النصِّ نفسه، وجانب يعود إلى المجتهد في فَهم ذلك النصِّ؛ فمن أمثلة الجانب الأول، ما ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال عنه: رجاله موثوقون عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله r: "لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ"[29]، قال الصنعاني: "فإن لفظة طاهر لفظ مشتَرَك يُطلق على الطاهر من الحدث الأكبر، والطاهر من الحدث الأصغر، ويُطلق على المؤمن وعلى مَن ليس على بدنه نجاسة، ولا بُدَّ لحمله على مُعَيَّن من قرينة"[30]، فالاختلاف في معنى "طاهر" أدَّى إلى اختلاف الحكم الفقهي. ومن الأمثلة على الجانب الثاني اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في صلاة العصر في بني قريظة.
الثالث: الاختلاف في الجمع والترجيح بين النصوص: فقد تتعارض ظواهر بعض النصوص الشرعية؛ فيختلف العلماء في الجمع بين ظواهرها والتوفيق بين معانيها، أو في توضيح بعضها على بعض؛ مما ينتج عنه اختلاف في الأحكام الشرعية، ومن أمثلة التعارض بين النصوص الشرعية التي استتبعت اختلاف العلماء في الأحكام: اختلافهم في صفة صلاة الكسوف والقراءة فيها، واختلافهم في استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة.
الرابع: الاختلاف في القواعد الأصولية وبعض مصادر الاستنباط: فمن المعروف عن أهل العلم أن العلماء المجتهدين اختلفوا فيما بينهم في حجية بعض المصادر والأصول الاجتهادية؛ كاعتماد الإمام مالك -رحمه الله تعالى- على حجية عمل أهل المدينة دون غيره من الأئمة، وكَتَرْكِ الحنفية العمل بمفهوم المخالفة، وعمل الجمهور به؛ ومخالفة الحنفية في إمكان حمل العامِّ على الخاصِّ، وحمل المُطْلَق على المقَيَّد، وقولهم بالأخذ بعمل الراوي إذا عمل خلاف ما رواه[31].
والواقع أن مسألة اختلاف الفقهاء رحمة وتوسعة على الأُمَّة الإسلامية، وهي خصيصة لهذه الأُمَّة, وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة، فوق أنها تثبت صلاح الشريعة الإسلاميَّة لكلِّ عصرٍ وأوان، واستيعابها لكلِّ أصناف البشر واختلافاتهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق