الأربعاء، 31 أغسطس 2016

البيئة العربية التي بُعِث فيها الرسول وجاء فيها الإسلام[1]


البيئة العربية التي بُعِث فيها الرسول وجاء فيها الإسلام[1]

للأستاذ محب الدين الخطيب

بلدة لا كالبلاد، لجيل لا كالأجيال، من أمة لا كالأمم..

بلدة اختارها الله – في الدهر الأول – لأول بيت قام في الأرض لتوحيد الله والعبادة الخالصة والنسك السليم: «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين. فيه آيات بينات مقامُ إبراهيم، ومن دخله كان آمناً، ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً، ومن كفر فإن اللهَ غني عن العالمين» آل عمران: 96-97.



قال الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله: كان الرجل قبل الإسلام يقتِل، فيضع في عنقه صوفة ويدخل أرض الحرم، فيلقاه ابن المقتول فلا يهيّجه حتى يخرج من حدود الحرم.

وقد وصف الله في سورة العنكبوت (الآية 67) هذه الميزة لبيت الله الحرام، ومنّ بها على أهله فقال: «أوَلَم يروا أنّا جعلناه حرماً آمناً ويُتَخطَّف الناسُ من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون». وفي سورة القصص (57-59) – وهي مكية – نعى الله على الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف وأمثاله من رجالات قريش وشبابهم أنهم تخوفوا من إقامة الحق بالدخول في الإسلام يوم كانت مكة هي بيئة الإسلام الأولى ومشرق دعوته: «وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا، أولم نمكّن لهم حرماً آمنا يُجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون. وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً، وكنا نحن الوارثين. وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمّها رسولاً يتلو عليهم آياتنا، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون».

ومما خاطب الله به قريشاً – فيما أنزله من القرآن بمكة – ومنّ عليهم بهذه الميزة الكبرى لبلدتهم دون بلاد الأرض كلها قوله جل ثناؤه: «فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف».

إن حرم مكة الآمن لا ينحصر في حرم الكعبة، ولا يقتصر على البلدة كلها، بل يعمّ أرض الحرم إلى مسافات بعيدة أقيمت لها أعلام في كل ناحية من نواحيها، فما كان خارج هذه الأعلام يسمى «الحلّ»، وما هو في داخل نطاقها يسمى «الحرم»، وفي الحرم تأمن الطير أيضاً – كما يأمن الإنسان – فلا تنفر عن أوكارها، ويأمن فيه حتى الوحش فلا يحل اصطياده. بل من جملة تحريمها تحريم قطع شجرها وقلع حشيشها، وقد خطب رسول الإنسانية الأعظم صلوات الله عليه يوم فتحَ اللهُ عليه مكة، فقام على باب الكعبة يقول لقريش ومَن وراءها من جماهير الناس، ولكتائب الفتح من المهاجرين والأنصار:

«إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلا في ساعة من نهار. فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه»، فقال عمه العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر – وهو نبات طيب الرائحة ينتفعون به - فقال صلى الله عيه وسلم: «إلا الإذخر».

وقد حيل بين من يلجأ إلى الحرم من المجرمين وبين حقوق الله والناس بما رواه سعيد من جبير عن عبد الله بن عباس أن القاتل إذا عاذ ببيت الله في مكة أعاذه البيت، ولكن ليس على أحد من ساكني الحرم أن يؤويه، أو يطعمه ويسقيه، حتى يضطر إلى الخروج من حدود الحرم، فإذا خرج أخِذ بذنبه.

ومن أعجب ما امتازت به مكة عن بلاد الله جميعاً بين زمن مولد حامل أكمل رسالات الله وزمن هجرته، أنها بلدة لم يشعر أهلها بحاجتهم إلى حكومة، ولم تمس حاجتهم إلى إقامة شرطة تحمي أهل العافية فيهم من أهل البغي والشر، لأنهم قلما عرفوا فيهم مواطناً من أهل مكة تنزع نفسه إلى البغي والشر، وأكثر ما كان يقع فيهم الباطل أن يمطل المدين دائنه في وفاء ما في ذمته، فكان يستعين عليه بأهل العافية فيحصل منه على حقه بلا حاجة إلى قضية أو محكمة. ولأجل هذا وأمثاله انعقد في بيت وجيه من وجهاء مكة وشريف من أشرافها وهو عبد الله بن جُدعان التيمي – من أسرة أبي بكر الصديق – حلْفٌ اشترك فيه طائفة من أهل الفتوّة والمروءة من قريش، وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها – أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس – إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه، حتى تردّ عليه مظلمته. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يومئذ فتى. روى طلحة الندى وهو طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري قاضي مكة في القرن الأول للإسلام أن رسول الله صلى الله قال: «لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبتُ».

إن الناس هم الناس، وفيهم الطيب والوسط والخبيث، تشترك في ذلك الأمم كلها، غير أنها تتفاضل بنسبة أهل هذه الأصناف الثلاثة بعضهم إلى بعض: فمن الأمم من تطغى نسبة الخبيث من أهلها على من فيها من الطيبين والعنصر الوسط، فهي من شر الأمم. ومنها من يكثر فيها العنصر الطيب وتكون له الكلمة النافذة والتوجيه المطاع في المجتمع فهي من أكرم الأمم معدنا. ومنها من تعظم فيها نسبة الطبقة الوسطى فيعم فيها الخير ويستتب الاستقرار.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما قرره من حقائق: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارُهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا».

وقد علق شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الحديث في كتابه منهاج السنة (2/260-261) بقوله:

«فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب ومعدن فضة كان معدن الذهب خيراً، لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين منه. فالعرب في الأجناس – وقريش فيها، ثم هاشم في قريش – مظنة أن يكون فيهم الخير أعظم مما يوجد في غيرهم. ولهذا كان في بني هاشم النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يماثله أحد في قريش، فضلاً عن وجوده في سائر العرب وغير العرب. وكان في قريش الخلفاء الراشدون وسائر العشرة وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب. وكان في العرب من السابقين الأولين من لا يوجد له نظير في سائر الأجناس، فلا بد أن يوجد في الجنس الأفضل ما لا يوجد مثله في المفضول. وقد يوجد في المفضول ما يكون أفضل من كثير مما يوجد في الفاضل، كما أن الأنبياء الذين ليسوا من العرب أفضل من العرب الذي ليسوا بأنبياء، والمؤمنون المتقون من غير قريش أفضل من القرشيين الذين ليسوا مثلهم في الإيمان والتقوى. وكذلك المؤمنون المتقون من قريش وغيرهم أفضل ممن ليس مثلهم في الإيمان والتقوى من بني هاشم. فهذا هو الأصل المعتبر في هذا الباب، دون مَن ألغى فضيلة الأنساب مطلقاً، ودون من ظن أن الله تعالى يفضّل الإنسان بنسبه على من أعظم إيماناً وتقوى منه، فكلا القولين خطأ، وهما متقابلان، بل الفضيلة بالنسب فضيلة جملة، وفضيلة لأجل المظنة والسبب. والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيله تعيين وتحقيق وغاية. فالأول يفضل به لأنه سبب وعلامة، ولأن الجملة منه أفضل من جملة تساويها في العدد. والثاني يفضل به لأنه الحقيقة والغاية، ولأن من كان أتقى لله كان أكرم عند الله، والثواب من الله يقع على هذا، لأن الحقيقة قد وجدت فلم يعلق الحكم بالمظنة، ولأن الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فلا يستدل بالأسباب والعلامات».

بهذا فسر شيخ الإسلام ابن تيمية حديث معادن الناس، وكان ينظر – وهو يعالج هذا الموضوع الدقيق – إلى آية الحجرات (13): «إنّ أكرمَكم عند الله أتقاكم»، كما كان ينظر إلى حديث عبد الله بن عمر قال: إنا لقعود بفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت به امرأة، فقال بعض القوم: هذه ابنة محمد صلى الله عليه وسلم (والحقيقة أنها كانت درة بنت أبي لهب، وكانت زوجة للحارث بن نوفل، ثم تزوجها دحية الكلبي)، فقال رجل: إن مثل محمد صلى الله عليه وسلم في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن. فانطلقت المرأة فأخبرت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فجاء عليه السلام يعرَف في وجهه الغضب، ثم قال على القوم فقال: «ما بال أقوال تبلغني عن أقوام! إن الله عز وجل خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم. فأنا خيار من خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضني أبغضهم».[2]

قال الحافظ العراقي: وهو حديث حسن، أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، ورواه من غير هذا الإسناد أيضاً؛ وروى نحوه من حديث أبي هريرة، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط وقال: حديث صحيح.

فالتفاضل بالتقوى هو الأصل، وهو الحقيقة والغاية. وكرم المعدن فضيلة جملة، ومظنة أن يوجد فيه الخير أكثر مما يوجد في غيره.

إن البيئة التي ولِد فيها خاتم رسل الله، وهي قريش سكان شعاب مكة وبطاحها، قد تفاوت رجالها ونساؤها في سرعة الاستجابة لدعوة الإسلام. فهذا عمر بن الخطاب كان من مشركي قريش يوم كان أبو بكر أول رجل من قريش استجاب لهذه الدعوة، وأخذ يحببها بحكمته ورجاحة عقله ودماثة خلفه إلى طائفة من أعز شباب قريش في بطحاء مكة، من أمثال عثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من مسلمي الرعيل الأول. فهل أزرى بعمر أن تأخر إسلامه عن إسلام هؤلاء وعن إسلام أخته وصهره؟

وهذا خالد بن الوليد كان – في وقعة أحد – قائد خيل المشركين، وكان المفروض فيه لما عاد من غزوة أحد إلى مكة أن يكون ثملاً بخمرة ما اتفق له من فوز، فيكون ذلك أبعد له عن الاستجابة لنداء الحق، لكننا رأيناه في أوائل السنة الثامنة للهجرة يزهد في عظيم الجاه الذي كان لأبيه وبيته في أم القرى، ويخرج متوجهاً إلى المدينة ليلتحق بدعوة الحق، فيلتقي في الطريق بين مكة والمدينة بعمرو بن العاص السهمي وعثمان بن طلحة أحد بني عبد الدار سدنة الكعبة. قال عمرو:

فقلت لخالد: إلى أين يا أبا سليمان؟

قال خالد: والله لقد استقام المنسم، وإن الرجل لنبيّ. إني أذهب واللهِ لأسلم، فحتى متى؟

قال عمرو: وأنا والله ما جئت إلا لأسلم.

وقال صاحب مفتاح بيت الله الحرام مثل مقالتهما.

فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إليهم من بعيد قال لأصحابه:

«لقد رمتكم مكة بأفلاذ كبدها».

قال عمرو: فتقدم خالد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، أنا أبايعك على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي.

فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمرو، بايع، فإن الإسلام يجبّ ما قبله، وإن الهجرة تجبّ ما قبلها.

ونقل الحافظ ابن حجر في الإصابة عن الزبير بن بكار أن رجلاً سأل عمرو بن العاص: ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت أنت في عقلك؟

فأجابه: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدّم، وكانوا ممن توازن حلومهم الجبال. فلما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم فأنكروا، فقلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا، فإذا حق بيّن، فوقع في قلبي الإسلام، فعرفت قريش ذلك من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه، فبعثوا إلي فتى منهم فناظرني في ذلك، فقلت:

-أنشدك الله ربك ورب آبائك من قبلك ومن بعدك: أنحن أهدى أم فارس والروم؟

قال: بل نحن أهدى (أي أعقل وأعظم بصيرة وإدراكاً لحقائق الأمور).

قلت: فنحن أوسع عيشاً أم هم؟

قال: هم.

قلت: فما ينفعنا فضلنا عليهم في الهدى إن لم تكن إلا هذه الدنيا وهم أعظم منا فيها؟ وقد وقع في نفسي أن الذي يقوله محمد من أن البعث بعد الموت – ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته – حق، ولا خير في التمادي في الباطل.

هذا نموذج للذين أبطأوا في إسلامهم، وإن الذي حمله أمثالُ عمرو وخالد من أعباء الإسلام قد عجز التاريخ عن أن يحيط بحسناته، وإن لهما ولأمثالهما من ثواب الذين دخلوا في الإسلام بسببهما، ومن نشأ على الإسلام من سلالتهم وذرياتهم، ما لا تحصيه ملائكة الرحمة.

ومما يدلّ على كرم معدن البيئة المعاصرة لظهور الإسلام في مكة أن الذين ماتوا على غير الإسلام من قريش كانوا قلة قليلة جداً، يعرفهم علماء الأنساب بأسمائهم، فإن كل من ولدتهم قريش من معاصري النبي صلى الله عليه وسلم مدونة أسماؤهم في كتاب نسب قريش لأبي عبد الله المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري، وكلهم ولله الحمد قد تشرفوا بالإسلام قبل أن ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ما خلا ذلك النذر القليل جداً ممن غلبت عليهم الشقوة، وهم بضآلة عددهم لا يستحقون الذكر، ولا يعرف التاريخ نبياً من أنبياء الله ولا صاحب دعوة إلى الحق والخير استجاب له من أمته رجال بستحقون أن يعدوا من أولياء الله الصادقين المجاهدين كما استجابت قريش والأنصار وسائر العرب للدعوة المحمدية، وكان لكرم معدن هذه الأمة الأثر العظيم في هذا الامتياز الذي كان لبيئة الإسلام الأولى التي رأيت أن أتحدث عنها في هذه الكلمة، وأن أعالج عرض الحقائق عن موقفها عن الإسلام فيما بين بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته إلى أن اختاره الله إليه.

ترى هل كانت دعوة الإسلام تحفَظ بمبادئها وكتابها وسنتها كما حفظت حتى الآن بلا إفراط ولا تفريط، وهل كانت تنتشر في أقطار الأرض بالقوة والسرعة والحكمة والرحمة التي انتشرت بها في القرن الأول الهجري، لو أن بيئة الإسلام الأولى لم تكن هي البيئة التي اختارها الله لها؟

أنا أعتقد أنه كما اختار اللهُ رسوله محمداً صلى الله صلى الله عليه وسلم لأكملِ رسالاته، اختار لها كذلك اللغة التي أنزل بها كتابه، والأمةَ التي حملت هذه الرسالة إلى أمم الأرض، والأرض التي تبلج هذا النور من آفاقها. والذي أشرتُ إليه في هذه المقالة لمحات خاطفة تستحق من أهل العلم دراسات أخرى أعمق وأوسع وأشمل.

[1] مجلة حضارة الإسلام، المجلد (1)، العددان 1-2 (ص53-61)، تموز 1960
[2] قال الذهبي –رحمه الله- عن هذا الحديث أنه منكر كما في كتابه (العلو: ص22) [الفسطاط].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق