الاثنين، 29 أغسطس 2016

تاريخ حضارة أجدادنا الصالحين 58


تاريخ حضارة أجدادنا الصالحين 58


الشيخ محمد أبو زهرة


ثم يأتي عَلَمٌ آخر من إعلام الفقه وهو الشيخ الجليل محمد أحمد أبو زهرة (1898- 1974م)، فهو يأتي على رأس الفقهاء المجدِّدين في العصر الحديث، وقد اتَّجه الشيخ محمد أبو زهرة إلى التدريس في كلية الحقوق، لكنه لم يَكْتُب مؤلَّفاته في الفقه الإسلامي إلا بعد أن وضح له الطريق، فقد اتجه في تأليفه التشريعي -تاريخًا وفقهًا- وجهتين محدَّدتين، تعرَّض للحديث عنهما في مقدِّمة كتابه عن الشافعي؛ إذ أشار إلى أن دراسة تاريخ علم من العلوم ذات شُعْبَتَيْن؛ شعبة تدرس الأطوار التي مرَّت عليها نظريَّات العلم، فتأتي بالقواعد والأحكام متسلسلة في تطوُّرها الزمني، مصوِّرة معرفة البيئات التي احتضنت هذه النظريات، وحاجات العصر التي دَفَعَت إليها مِن تجدُّد أحداث، واختلاف أمكنة ومُلابَسَات.
أما الشُّعبة الثانية فهي دراسة أصحاب النظريات الفقهية دراسة تحليلية، يُبَيِّن فيها الدَّارس وجهة نظر الفقيه المدروس، وما ابتكره من آراء قائمة على الأصول المعتمدة، ومقدار الأثر الذي تركه في ذلك العلم، والمناهج التي سلكها، والغايات التي يرمي إليها، والنتائج التي وصل إليها، وأثرها فيمن تلاه من تلاميذه، وأعيان مذهبه ومقلديه.
هاتان الوجهتان في دراسة التشريع تاريخًا كانتا موضع اهتمام الأستاذ، فهو في بَدْءِ تدريسه بكلية الحقوق، رَاعَى المنهج حيث تحدَّث عن الملكية، ونظرية العقد، وعن الوقف وأحكامه في المذاهب الفقهية، وعن الوصية وقوانينها، وعن التركات والتزاماتها، ثم عن الأحوال الشخصية في المواريث ومسائل الأسرة من زواج وطلاق ونفقة، ولكل عنوان منها كتاب مستقلٌّ.
وقد كان هذا حسبه لو سلم سبيل الكثيرين في الاكتفاء بموادِّ الدراسة الجامعية، ولكن الأستاذ جعل هذه الدراسات الأولى مسحًا مبدئيًّا لقضايا التشريع المدني والجنائي، ليتفرغ إلى دراسات مستقلَّة تنتمي إلى الشعبتين المحدَّدتين، فهو في تطبيق الشعبة الأولى يتحدَّث عن العقوبة في الفقه الإسلامي، وعن الجريمة، وعن عقد الزواج وآثاره، وعن الولاية على النفس، وعن تنظيم الأسرة، وتنظيم النسل، وقد يندرج في هذه الشعبة ما سبق أن كتبه للطلاب، ولكن طريقة التأليف في كتبه الأخيرة قد اتَّسعت نظرًا، وعمقت غوصًا، ونضحت عليها القراءة المتَّصلة، والتجرِبة الدائبة، وما ينضح الغيث على الزرع في أرضه الجيدة فآتت أكلها المنشود في دسامة وقوَّة وإبداع.
أما الشعبة الثانية، فقد وجدت تطبيقها فيما كتبه أبو زهرة عن أئمة الإسلام وأعلامه في مضمار التشريع، وقد اختصَّ منهم أبا حنيفة، والشافعي، ومالكًا وابن حنبل، وابن تيمية، وابن حزم، وزيد بن علي، وجعفرًا الصادق بثمانية مجلدات كبار، كانت المكتبة الإسلامية في مزيد الحاجة إليها، وقد جاءت سابقة رائدة في أكثر ما اتجهت إليه من آراء، وما برحت سابقة متقدمة على أكثر ما وليها من مؤلَّفات في موضوعاتها؛ لأن أكثر ما صدر عن هؤلاء الأئمة قد قام به مؤرِّخون وأدباء، لا فقهاء متخصِّصون، وطبيعي أنهم لم يتعرَّضوا للمسائل التشريعية في حسم واعٍ كما فعل أبو زهرة؛ لأن مؤرِّخ الفقهاء الأصيل لا بُدَّ أن يكون فقيهًا مارس الفروع، وعرف الأصول قبل أن يتصدَّى لتاريخ إمام جُلَّ عَمَلِهِ التشريع، وكأني بالأستاذ أبي زهرة، وقد قرأ ما كتبه هؤلاء، ولمس نقاط الضعف فيه، فقال مرشدًا إلى الصواب، دون أن يُعَيِّنَ الأسماء.
ولم يشأْ أبو زهرة أن يقصر بحوثه الفقهية -تاريخًا وتشريعًا- على المتخصِّصين وحدهم، إذ وجد في الشبيبة الإسلامية حبًّا دافعًا لدراسة مسائل الفقه، ومعرفة تواريخ الأئمة من الفقهاء، كما وجد بعضهم قد وقع تحت تأثير كتب ضعيفة أُلِّفَت في عصور الانحطاط، بغرائب الأحاديث، وشواذِّ الأحكام، ومستحيلات القصص والأخبار، وكل هذه لا تُعطي الصورة الإسلامية، في وضعها الصحيح، فرأى أن يُفرد كتبًا مستقلَّة بأحكام سهلة التناول عن الأسرة، والحدود والعقيدة الإسلامية، والقانون الدُّولي، تُقَرِّب المراد في يُسْرٍ سهل[51].


 

يارب الموضوع يعجبكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق