الاثنين، 29 أغسطس 2016

تاريخ حضارة أجدادنا الصالحين 17


تاريخ حضارة أجدادنا الصالحين 17


العمارة في الإسلام


لا نكون مبتدعين إذا قلنا بأن الحضارة بساط نسجته وتنسجه أيدي أمم كثيرة؛ إذ أنها متواصلة العطاء، وإن قيمة كل أمة في ميزانها يساوي ما قدمته مطروحًا منه ما أخذته من الحضارات التي سبقتها، وإذا لم ينكر عاقل أن الحضارة العربية الإسلامية أخذت من حضارات سبقتها، فإنه أيضا لا ينكر أنها واصلت العطاء، ووشّت بساط الحضارة الإنسانية بكل ما هو راقٍ وجميل.


http://www.islamstory.com/images/Art...02_alAzhar.jpg


وفي هذا المضمار فإنه إذا كان المسلمون قد أقاموا صرحهم المعماري بالاعتماد في البدايات على المهندسين والبنائين والصناع الإغريق والبيزنطيين والفرس والقبط وغيرهم، فإنهم قد استطاعوا بعد ذلك أن يقدموا للبشرية فنا متفردا أصيلا ينطق ببراعتهم المتميزة وعبقريتهم الفريدة، وفي العناصر التالية تتضح معالم هذا الفن عندهم (3):

مواد البناء:


استعمل المعماريون المسلمون في مبانيهم كل أنواع مواد البناء كالحجارة والطوب المحروق والرخام والخزف، واستعملوا الخشب والحديد والنحاس، وكانت الخلطة اللاصقة من الجبس، أما الجير فكان يستعمل في المباني التي تحتاج إلى مقاومة الماء، كالأسقف والقنوات والمصارف، وكذلك في لصق الرخام.

وكانوا يستعملون خلطة من الجبس والجير في صناعة الطوب المحروق، ويختلف عمق الأساس في الأرض حسب المبنى، ففي بعض المباني الضخمة كانوا يصلون إلى عمق عشرة أو أَحَدَ عَشَرَ متراً تحت مستوى سطح الأرض، وكانوا يستعملون أنواعاً من الحجارة الصلبة كالجرانيت أو البازلت في الأساس.


http://www.islamstory.com/images/Art..._03_Maazen.JPG


وقد استفاد المعماريون من شتى العلوم والمعارف المعروفة في عصرهم وطبقوها في مبانيهم، ومن أهم هذه العلوم علم الحيل (علم الميكانيكا) وعلم الكيمياء وعلوم الطبيعة مثل: الصوت والضوء والتهوية.

وقد ابتكروا أنواعا من الآلات الميكانيكية لرفع الثقل الكبير بالجهد اليسير أو لجره، منها أنواع من الكران، وآلات مثل المكحال والبيرم والمنخل والسفين واللولب والقرطسون، وكانت الحجارة الكبيرة ترفع إلى أعلى المبنى بحبال معلقة على مجموعة من البكرات بحيث يجرها ثور واحد فيرفعها بسهولة إلى أعلى.

كذلك استفاد المعماريون من علم الكيمياء الذي تفوق فيه المسلمون وطوروه، فصنعوا أنواعا من الدهانات والأصباغ التي تتميز بالثبات والبريق، ومن المعروف أن المسلمين أول من استعمل الزجاج الكريستال الذي ابتكره العالم الأندلسي عباس بن فرناس سنة 887م، كما استعملوا في النوافذ الزجاج الملون والمعشق في أشكال هندسية.

المساجد:


المساجد أول شيء بناه المسلمون من العمارة، فقد بنوا المساجد قبل أن يبنوا القصور أو القلاع أو المدارس، ومن هنا كان المسجد الدعامة الأولى لنشأة فن العمارة الإسلامية، ورسالة المسجد في الإسلام لا تقتصر على الصلاة والعبادة فحسب، فمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم رغم بساطة البناء كان بمثابة مدرسة للعلم والتربية وبرلمان للأمة تعقد فيه الانتخابات (البيعة) للخليفة، وتدار فيه الاجتماعات السياسية والعسكرية، وكان فيه أيضا عيادة للتمريض هي (خيمة رفيدة)، وفي ساحته كان نساء الصحابة يتركن أطفالهن في أمان بعد الصلاة ريثما يقضين حاجتهن من الأسواق، فكان أيضاً دار حضانة وكان الرسول صلى الله عله وسلم يطلق على هؤلاء الأطفال "حمام المسجد".


http://www.islamstory.com/images/Art..._04_Hosoon.jpg


وقد بنى المسلمون جوامع ضخمة بنفس الأهداف، تشمل مسجداً مستقلاً للصلاة ويلحق به المدرسة أو الجامعة، وأيضا المستشفي ومكاتب الإدارة، ومن ذلك جامع القيروان سنة 670م وجامع الزيتونة سنة 734م وجامع الأزهر 972م.

وتصميم المسجد عبارة عن ساحة كبيرة فيها منبر خشبي للخطبة، ثم أدخل المحراب المجوف للدلالة على اتجاه القبلة، ثم ظهرت الإيوانات وهي أروقة تحيط بصحن المسجد ولها أقواس مقامة على أعمدة، وملحق بالمسجد غرفة للإمام ومكتبة، وعادة يكون للمسجد ساحة داخلية مكشوفة بها نافورة لتلطيف الهواء وميضأة للوضوء، هذا علاوة على القباب والمآذن.



ويعتبر المسجد الأموي في دمشق سنة 710م أول نجاح معماري في الإسلام بناه الخليفة الوليد بن عبد الملك، فقد كان بناءً جديداً في تصميمه، له طابعه الخاص وشخصيته المستقلة عن المعمار في الحضارات السابقة للإسلام.

وفي أنحاء العالم اليوم الكثير من المساجد الأثرية الشهيرة التي تنوعت، فهناك المساجد الأموية في الشام والعباسية في العراق والأندلسية في الأندلس والفاطمية في الشمال الإفريقي ومصر، وفي إيران هناك المغولية والصفوية، ثم هناك مساجد الهند والمساجد العثمانية في تركيا.

وهذا الاختلاف في المظهر يزيد العمارة الإسلامية ثراءً وعمقًا، ولكنه لا يشمل اختلافًا في الجوهر، وقد راعى المعماريون في بناء المساجد الفخمة مسألة الصوت لتوصيل الخطبة إلى آلاف المصلين والضوء والتدفئة والتبريد كل ذلك بالوسائل الطبيعية.

المآذن:


تعتبر المآذن من أهم معالم المدينة الإسلامية، فهي تبدو وكأنها أذرع ممتدة بالدعاء والضراعة نحو السماء، ويتوج كل مئذنة في أعلاها قبة لها تاج وفوقها هلال كبير، ويحيط بوسطها عدد من الشرفات الدائرية لكل منها نوافذ يُطِلُّ منها المؤذن.

وبعض العواصم الإسلامية كالقاهرة ودمشق واسطنبول تسمى ذات الألف مئذنة، وترتفع المآذن في الآستانة إلى أكثر من سبعين متراً فوق المسجد، وتختلف المآذن في أشكالها وأنواعها حسب العصور والبلدان، فمنها المربع والمثمن والدائري، وكانت المآذن الأولى شبيهة بالمنارات الرومانية، وعندما أراد المعماريون المسلمون بناء مآذن أكثر ارتفاعا ابتكروا المئذنة المتحورة، التي تبدأ في القاعدة بأدوار مربعة ثم تعلوها أدوار مثمنة ثم يعلو ذلك الأسطوانة الدائرية.



ولا يتوقف ثبات المئذنة العالية على تطور الأدوار وتدرجها في الصغر فحسب، ولكن أيضا على استعمال الحلزوني الذي يربط قلب المئذنة بجسمها الخارجي، وبذلك تبدو المئذنة وكأنها حلزوني طويل مجوف ثابت الأركان رغم طوله.

ولا تقتصر وظيفة المئذنة على النداء للصلاة، فكثير من المآذن كانت تبنى كمنارة في البحر أو البر ولو لم يكن تحتها مسجد، ومن أهم وظائفها استعمالها كملاقف للهواء لتبريد الساحات السفلية تحتها، وبعض المساجد يشتمل على مئذنتين، وبعضها كالمساجد التركية يحتوي على أربعة مآذن.

وتزدان المئذنة بزخارف إسلامية جذابة تزينها الآيات القرآنية، كما أن بعضها كالمآذن الفارسية يحلى بالزليخ (القيشاني) الذي يبرق تحت أشعة الشمس.

وهناك مآذن ذات شهرة خاصة لانفرادها في التصميم المعماري، من ذلك مئذنة ابن طولون ذات السلم الحلزوني الخارجي، وقد بينت على طراز مئذنة (سُرَّ مَنْ رَأَى)، ومئذنة جامع الناصرية ذات الشعبتين، ومئذنة جامع ابن سنان في دمشق المكسية بالزخرف الزنجاري، والمئذنة المتحركة في أصفهان، وهي عبارة عن كتلة حجرية واحدة مجوفة من الداخل ويمكن لمن يصعد فيها أن يهزها في كل اتجاه دون أن تسقط بـه.. Ball and Socket.

ومئذنة مسجد اللقلاقة في سمرقند، وهي مئذنة متحركة تُرْبَط من أسفلها بمئذنة أخرى، فإذا حركت الأولى تحركت الثانية، وهكذا وجد المعماريون المسلمون في المآذن فرصة للإبداع الفني الذي يعبرون من خلاله عن مشاعرهم نحو عظمة الخالق وإبداعه في خلقه.

القصور والبيوت:


كان عرب الجاهلية وصدر الإسلام سكان خيام، وكانت بيوتهم تتسم بالبساطة والبدائية، ومع اتساع الفتوح والاستقرار في بلاد الخضرة والماء ومع الرخاء الزائد ابتدءوا في بناء القصور الفاخرة، وللبيت العربي عمارته المميزة وأقسامه الثابتة رغم اختلاف العصور والبلدان، فإنه ينقسم في تأسيسه إلى ثلاثة أقسام رئيسية: قسم خارجي ويسمى (الحواصل)، وفيه مركز الحرس والسائس والخيل والعربات، وقسم أوسط ويتضمن القاعات المهمة للاستقبال والجلوس والطعام، والقسم الثالث وفيه غرف النوم وقاعات الحريم.

وأغلب البيوت العربية ذات واجهات صماء خالية من النوافذ الخارجية، بحيث لا يتبين المُشاهد روعة العمارة والزخرف إلا بعد أن يدخل صحن البيت، حيث تواجهه ساحة مفتوحة للسماء تتوسطها فسقية كبيرة يتدفق إليها الماء من نوافير على أشكال حيوانية، ويحيط بالبِرْكة أشجار الليمون والبرتقال والفل والياسمين بعطورها الفواحة، ويحيط بهذه الساحة غرف البيت من كل جانب، وغالبا ما تكون من دورين أو ثلاثة أدوار، وترتفع جدران الغرف إلى أكثر من خمسة أمتار.

وتطل الغرف على الساحة من خلال مشربيات من الخشب المزخرف المطعم بالعاج، ولها نوافذ تسمى بالشمسيات والقمريات، وقد بلغ عدد الغرف في بعض قصور بني أمية ما يزيد عن الثلاثمائة غرفة، وأهم غرف القصر هو الإيوان، ويبلغ ارتفاعه ضعفي ارتفاع الغرف العادية وفي سقفه قبة دائرية، وفي كل قصر أيضا قاعات صيفية في الجهة الشمالية تُبرَّد بالنوافير المائية وملاقف الهواء.

وقد وجد في هذه القصور ملاعب وساحات ومخازن تسمى بالخزائن، منها خزائن الكتب، وكان في قصور الفاطميين أربعون غرفة، ثم خزائن الكسوات الصيفية، وخزائن الجواهر والطيب، ثم خزائن الأشربة - أي الأدوية.

وكانت القصور تزخر بالفن المعماري والزخرف الإسلامي الذي يشمل الأرض والحوائط والسقوف، وتحلَّى بآيات قرآنية تزين جدران البيت من الداخل والخارج، وأغلبها يُذَكِّر أصحابه بالتواضع لله والشكر له على نعمائه.

مرافق الخدمات العامة:


عملا بأوامر الإسلام التي تحث على إيصال الخدمة العامة وتيسيرها للرعية، والمساواة بين الغني والفقير في حق الرعاية، فقد اهتم الحكام المسلمون بمؤسسات الخدمة العامة اهتماما كبيرا وخاصة المستشفيات والاستراحات والمطاعم الشعبية والحمامات الشعبية، فكانت تلك المرافق أشبه بقصور الأثرياء من حيث الفخامة المعمارية والزخرف الإسلامي.

وقد بنى الخلفاء الاستراحات الفاخرة لحجاج بيت الله على طول الطريق من أي بلد إسلامي حتى مكة، وفي الاستراحة مطعم شعبي بالمجان وحمام وغرف للمبيت، وكان بعض الخلفاء مثل هارون الرشيد يتخفى في زي تاجر ويأكل مع الشعب في المطعم ليرى نوع الخدمة بنفسه.

وتتجلى التقنية الإسلامية في الحمامات، فالمسلمون أول من أنشأ في مدينتهم شبكة مياه في مواسير من المعدن توصل الماء بانتظام إلى الحمامات الشعبية وإلى البيوت، وفي الحمامات غرف للبخار (السونا)، وغرف للعلاج الطبيعي (التدليك).

الرباطات والقلاع والحصون:


من الأشياء اللافتة للنظر أن المسلمين لم يهتموا كثيرا بعمارة القلاع التي استولوا عليها من الرومان في الشام ومصر وإفريقيا، ولم يهتم المسلمون بسكناها أو تعميرها، والسبب في ذلك أن المسلمين لم يكونوا في البلاد المفتوحة كغزاة أو مستعمرين أو حكام غرباء حتى يتحصنوا من أهلها، وتحضرنا هنا كلمة للخليفة عمر بن عبد العزيز عندما طلب أحد الولاة منه أن يبني حصنا في الولاية لحمايتها فقال له: "حصنها بالعدل، وكفي بالعدل حصنا".


يتبع ....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق