الأربعاء، 30 مارس 2016

التاريخانية و الابستمولوجيا

التاريخانية و الابستمولوجيا



تمثل التاريخانية الوجه الآخر لفلسفة التاريخ، وهدفها كشف قوانين التطور والتغيّر الاجتماعي، وفهم التبدلات الحضارية الكبرى في تاريخ الإنسان،
وهي في حقيقتها اختراق فلسفي لعلم التاريخ ولمجاله العام، الذي كان حكراً على المؤرخين أنفسهم في وصف الماضي، والاكتفاء بسرد أحداثه العظيمة بتسلسلها الزمني المنتظم، من أقصى نقطة في الماضي السحيق، إلى الزمن المعاش، كما فعل المؤرخون المسلمون، وأكثر هذا السرد يتم بحياد المؤلف، ويعرض من دون تمحيص او نظر فلسفي، حتى جاء ابن خلدون، واعتبر التاريخ جزءاً من علوم الحكمة؛ أي من الفلسفة، ولم يعد التركيز كما كان سابقاً على المعارك الفاصلة في التاريخ، والصراعات الدموية على العروش، ووراثة الممالك؛ فتحول التاريخ السياسي إلى تاريخ حضاري تعنى به الفلسفة بما يتجاوز عمل المؤرخ الذي يبحث عن الأسباب الخاصة للظواهر الفردية التي لا تتكرر في التاريخ، وتتصف بالضرورة والخصوصية .

إن التاريخاني يركز جهوده على تحديد العلة النهائية؛ أي ما يتجاوز الخاص والفردي في التطور ومسيرة الحضارة الإنسانية، لاستخلاص ما هو عام وكلي مما هو متكرر في الأحداث والوقائع التي لا تعد ولا تحصى، للوصول إلى ماهية ثابتة او مبدأ مفسّر لحركة التاريخ، وهذا ما يقودنا من مفهوم القوانين الموضوعية المفسّرة لحركة التاريخ، وتعاقب التطور إلى الغايات النهائية، فخط التطور التاريخي والحضارة الإنسانية ماض في مسيرته الحتمية من الأدنى إلى الأعلى نحو كماله النهائي، وتختلف التاريخانية في تجديد طبيعة الحتمية التي تسير حركة التاريخ نحو نهاياته المنطقية، وهي في حدها الأقصى مماثلة لتصور لابلاش الفرنسي للحتمية الجغرافية، التي لا تفسح مجالا للإنسان وحرية اختياره في الوصول إلى تلك النهاية المحددة، بغض النظر عن إرادته المعلقة بإرادة التاريخ وحتميته المطلقة .

وما دامت الحتمية مطابقة لذاتها ومفارقة للحرية الإنسانية، فهي لا تملك خياراً إلا تحقيق ذاتها، فالحتمية إذن حامل موضوعي لغائية التاريخ واكتماله النهائي، وتبدو الحتمية والغائية وجهين لعملة واحدة، إلا أن الحتمية تتمثل في دافع داخلي يحرك التاريخ نحو غايته الكامنة في أحشاء الحاضر منذ البدء، ووظيفتها إخراج الغائية او رسالة التاريخ من القول إلى الفعل، فالمستقبل إذن ليس وليد حركة الحاضر، بل هو كماله واكتماله النهائي .

ولا تجادل فلسفة التاريخ او التاريخانية في طبيعة القوانين الطبيعية المحركة للتغير ولضوابطها المنطقية، فهي قوانين كلية وضرورية تتحكم في مراحل التطور وتعاقبها الخطي او الدائري؛ أي أنها مطلقة وتنفي عنها صفتها الإحصائية او الاحتمالية المناقضة لمنطق الأمور، فهي ظاهرة في نسبيتها التاريخية، ولشروطها الخاصة المؤطرة لفعلها في مراحل معينة، فهي بالنهاية قوانين مشروطة؛ أي فاعلة وصحيحة في ظروفها، فهي قوانين تاريخية فاعلة في مرحلتها المطابقة لها، والأهم من ذلك، لا يمكن توقع نجاحها إلا في أنظمة مغلقة يمكن ضبط المتغيرات والسـيطرة عليها، وتوقع النتائج، وعزل الانحرافات الجزئية عن النموذج العام، من دون التأثير فيه لاستنباط التعميمات المسبقة وتأكيد الفرضيات القبلية

وتناقض التاريخانية مفهوم التاريخية؛ وهي مبدأ عمل المؤرخ والسياسي التي تعني التغير والتبدل، وحصول الوقائع في مكان وزمان معينين؛ أي ما يؤكد على أن الأحداث السـالفة هي حقائق واقعية، حصلت بالفعل واكتسـبت صفتها الموضوعية والتاريخية لهذا السبب، ولهذا فالتاريخاني يبدأ من حيث انتهى المؤرخ الذي لا يهتم إلا بالتفاصيل فيخضعها للاستقراء للوصول إلى التعميم، ولكنه في النهاية لا يؤمن ولا يهتم بوجود غايات كامنة في مجرى التاريخ، حتى يبقى في حدود الاسـتقراء والاسـتقصاء المنطقي، وان خرج منها خرج من علم التاريخ إلى التاريخانية .

وتهتم فلسـفة التاريخ -التاريخانية- بتقسـيم الزمن والتطور إلى مراحل من الأدنى إلى الأعلى، واعتبار خط التاريخ خطاً تطورياً بالضرورة، تتعاقب فيه المراحل، وتطوي بعضها بعضا بما يسـمى التحقيب، وهي تقسـيمات مسـتعارة من البيولوجيا والداروينية التي فعلت فعلها في العلوم الاجتماعية .

إسماعيل الربيعي في كتابه الجديد ‘’النزعة التاريخية ومعنى التاريخ ’’
1
واجتهد المفكرون في تحديد طبيعة تلك المراحل في العلوم الإنسانية، من الفلسفة والاقتصاد والتاريخ إلى علم الاجتماع، وهي في الأسـاس تصنيفات تتجاوز أهميتها الإجرائية لنمذجة خط التطور، وتفسـير الانتقال من مرحلة إلى أخرى، ومن أشهر نظريات التحقيب: نظرية التشكيلات الاجتماعية المتعاقبة من المشاعية إلى الشيوعية في الماركسية، والمراحل الثلاث عند اوغسـت كونت؛ من المرحلة الدينية إلى الميتافيزيقية إلى الوضعية، ونظرية الاقتصادي روسـتو في التطور والإقلاع الاقتصادي، بالإضافة لمحاولات اقل أهمية في فلسـفة التاريخ الغربية، أما ابن خلدون فتحفل مقدمته بالتصنيفات والتحقيب لمراحل الدولة والحضارة والأجيال المتعاقبة .

وتصر فلسفة التاريخ - التاريخانية- على أن هذه القوانين علمية بالمعنى الخاص للعلم؛ أي ما يفيد في مقاربة الواقع، وتميزها عن قوانين العلم الطبيعي بفاعليتها ومضمونها المعرفي الاجتماعي، فهي قوانين خاصة لممارسـة الإنسان الهادفة والواعية للوصول إلى تعميمات ومفاهيم تتجاوز المعرفة المباشرة الوصفية التي يقدمها المؤرخ، ولكنها كما ضمنا سـابقاً قوانين مشروطة بالتاريخ نفسه؛ أي أن اكتشافها وتعميمها يحتاج لمقدمات عملية ونظرية مسـتمدة من الممارسة التاريخية للإنسان، ولهذا تواجه قوانين التاريخانية نقداً لاذعاً من المؤرخين، وفلاسفة العلم، والمنهج العلمي، فعندما نتوصل إلى قوانين وتعميمات من الأحداث التاريخية، يعني أنها خاضعة للتجريب، والتحقق التجريبي، والتكرار، وهي في حقيقتها عكس ذلك تماماً، فهي فردية استثنائية لا تتكرر، ولا تسمح لنا باسـتنباط قوانين عامة، او ما يسـمى قوانين التاريخ أسوة بالعلوم الطبيعية .

لهذا فقوانين التاريخانية في حقيقتها قوانين ذاتية - ولا نقول اعتباطية - مسقطة إسقاطاً من العقل التاريخي على الواقع الموضوعي، الذي لا يقرأ ولا يرى إلا ما يريد أن يقرأه او يراه، ولهذا اعتبر كروتشه أن كل التاريخ هو في النهاية تاريخ معاصر؛ يعني أن المؤرخ خاضع لشروطه الوجودية والاجتماعية في الحاضر الذي يملي عليه حاجاته من البحث التاريخي في الماضي لخدمة الحاضر، وخلق حقيقته الموضوعية وفهمه المغاير للأحداث التاريخية عن فهم المعاصرين وغير المعاصرين لها لجعل الحقيقة التاريخية حقيقة نسبية قابلة للتأويل والتفسير في كل زمان ومكان، وتلك معضلة التاريخانية، ومقولاتها الكلية، والقوانين الموضوعية، واستشراف المستقبل، والحتمية، التي تعرضت لنقد مرير من فلسفة العلم، فما دامت التاريخانية فلسفة علمية كما تدّعي، فان اللاتحدد والاحتمال أصبحا عنوان ابسـتمولوجيا العلم في الكوانتم، الذي شكك بالحتمية وطاردها خارج إطار الفيزياء الحديثة، وبالتالي فالمماثلة والاسـتعارة التاريخانية للحتمية من الفيزياء الكلاسـيكية لا تدعم ولا تفيد في شيء، بل تعيدها إلى مرحلتها الكلاسـيكية؛ أي ما قبل العلم، وأما المسـتقبل الذي تلح عليه التاريخانية لتميز نفسـها عن المؤرخ والتاريخية، فلم يعد حكراً على أحد بعد أن دخلت الأنظمة الحاسـوبية، والنماذج الرياضية، وعلم المستقبل، في صياغة الاحتمالات والتوقعات والسـيناريوهات المنافسـة لفهم المسـتقبل القريب والبعيد .

وتتضمن فلسفات التاريخ تحديداً لطبيعة الغايات، فهناك الغايات الدينية والأخروية التي يسـير بها التاريخ، وهناك التقدم والكمال الإنسـاني في فلسفة التنوير، وهناك المجتمع الخالي من الطبقات .

وتختلف التاريخانية في تحديد السـبب الكافي للتطور، فهناك نظريات تفسّـر التغير بوجود النخبة، وأخرى تفسّـره بظهور البطل العظيم المخلص، ومنها ما يفسّـر التغير بتطور وسـائل الإنتاج او العلم، او بظهور الأديان وغيرها .

وفي الفكر المعاصر أكمل كارل بوبر نقد التاريخانية، وقدم أعمق مساهمة نقدية لأسسها المعرفية، مفنداً حججها المؤيدة والمعارضة لاستخدام المناهج الطبيعية، فلا يوجد من حيث المبدأ قوانين علمية موضوعية في التاريخ، ويعني ذلك اسـتحالة التنبؤ العلمي بالأحداث او المسـتقبل، وأغلب الأخطاء الحاسـمة في التاريخانية حول رفض او قبول مبادئ العلم الطبيعي لتكون دراسـة التاريخ او التاريخانية علمية، ناشئة عن فهم خاطئ لطبيعة العلم ولمناهجه ومنطق الكشف العلمي ووظيفة التجربة والمشاهدة .

التاريخانية الجديدة / التحليل الثقافي

2
وفي معرض نقده لدعاة التاريخانية وأشباه التاريخانيين، مثل كونت اوميل الذين يدعون أن حركة التقدم التاريخي مطلقة وغير مشروطة، وناتجة بالأسـاس عن قوانين الطبيعة الإنسـانية، وعلى أساسها يمكن استنباط المراحل الأولى والأخيرة لتطور التاريخ دون الحاجة لأية شروط أخرى، ويفشل هذا الحكم بسـبب المتغيرات التي لا تعد ولا تحصى في أي نظام تاريخي مفتوح للتأثر بكافة الاحتمالات، ومنها الظروف والكوارث الطبيعية التي لا سـلطان عليها في إعاقة التقدم .
كما أن مقدمات التاريخانية وخاصة مفهوم الطبيعة الإنسانية لا تمت للمنطق والتجريب بصلة، وتفسـير الغالبية العظمى من الحوادث التاريخيّـة بهـذا المفهوم يعني تفسـيرها تفسـيراً ظاهريـاً سـاذجـاً اعتمـاداً على الميول والغرائز، ولكن المفهوم الذي يستطيع تفسـير كل شيء في التاريخ بهذا التفسـير الغامض والسـاذج لا يفسّـر في الحقيقـة أي شيء، ولا ينتج قيمة معرفية، وفي نهاية المطاف على التاريخانية أن تقر بعجزها -خاصة في مقاربة المستقبل- لتعيد بناء نفسها من جديد، بشروط أهمها هدم محتواها الميتافيزيقي، ومنهجها المثالي والتأملي، والانفتاح على مناهج العلم الحديثة، دون التضحية بكيانها الأصلي وتوظيف منجزات علم المستقبل ونماذجه، وتوظيفها بشكل عكسي على الماضي البعيد بطريقة فاعلة، لاستعادة فلسفة التاريخ من التأمل والتجريد إلى العلم والمستقبل .

وتعرف الابستملوجيا أحياناً بالدراسة العلمية لظهور النظريات العلمية والاجتماعية، وهي الدراسة التي تجمع بين تاريخ العلوم، وعلم اجتماع المعرفة، وعلوم أخرى, وهذا مرجعه لوجود شروط تاريخية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية وروحية, وبيئية, منتجة للنظريات المعرفية. فالفلسفة الإسلامية وما عليها في تشكلها التاريخي، وما اختلطت به الحكمة القرآنية تاريخياً مع الفلسفة اليونانية والعرفان المأخوذ من المدارس الاسكندرانية والهندية كما يرى الأستاذ حكيمي في المدرسة التفكيكية، وكذلك المدارس الفقهية، بما أحاطتها من ظروف موضوعية وذاتية شكلتها بنسقها, سواء سياسية أو جغرافية ذات ذوق معينة وتسلط بيئوي وعرفي أو معرفية كرد فعل إزاء مدارس أخرى تشكل طرفاً لدوداً، كذلك قضية التفاسير وما زخمت به من اتجاهات مع النص وفهمه انطلاقاً من إرهاصات ذلك الواقع :
أولا ً: هل أخذ هذا العلم (مبحث المعرفة) الابستملوجيا حقه مع تراثنا .
ثانياً : ماذا تمثل هذه الآلية المعرفية في علاقتها الخطيرة مع التراث، كونه يفضي إلى تحولات معرفية قد تخرجنا من أزمات كثيرة معرفية تلاحقنا؟ .

لقد كانت الفلسفة في تاريخ المعرفة قديماً، هي الناظم المعرفي والمنهجي لحركة العلوم ومناهجها والعلاقات فيما بينها، لذلك كان يقال أن الفلسفة هي أم العلوم. بمعنى أنها المرجعية الكلية التي يرتبط بها كل علم، قبل أن يتحدد حدود كل علم وطبيعة هويته، ونوعية موضوعاته التي يستقل بها، وصورة النظم التي تولد المعرفة، وتشغل الأدوات والطرائق البحثية والتحليلية، والقواعد التي تختبر المفاهيم. فالعلوم إنما نشأت وتطورت في ظل حاضنة الفلسفة .
وحينما استقلت العلوم وتفرعت وانفصلت عن الفلسفة، بعد زمن من التطور والتراكم والاتساع، وبعد أن اكتسب كل علم خصوصياته وتحددت موضوعاته ومناهجه، ونظمه وقواعده، وبعد أن تنوعت العلوم وتعددت وانفصلت عن بعضها، ظهرت الحاجة من جديد إلى إطار يربط بين العلوم ويحدد شكل العلاقات فيما بينها، فظهر ما سمي بالابستملوجيا أو فلسفة العلوم، وهو الحقل المعرفي الذي يجد مبادئه في الفلسفة وموضوعه في العلم. لذلك يقال أن لجانب كل علم هناك فلسفة، العلم يبحث في التفصيلات والمتغيرات والمقيدات، والفلسفة تبحث في الكليات والثوابت والمطلقات لذلك العلم. فتحددت مرة أخرى، وبصورة مختلفة علاقة العلوم بالفلسفة بعد أن تفككت هذه العلاقة وانفصلت، عادت من جديد في صياغة أكثر أحكاماً وانضباطاً. وفي إطار كل علم نشأت أيضاً الحاجة إلى الناظم المعرفي والمنهجي، بعد التطور التراكمي الكبير الذي لم ينقطع أو يتوقف في حركة العلوم، فعلم الاجتماع مثلاً تطورت معارفه وخبراته وتجريباته بطريقة فرضت الحاجة إلى تقسيم هذا العلم إلى فروع متعددة بحسب الموضوعات والقضايا والمسائل، فأصبح هناك ما يعرف بعلم الاجتماع الصناعي، وعلم الاجتماع العسكري، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم اجتماع المعرفة.. وأضفت شخصيا إلى هذه الأقسام قسماً جديداً بحاجة إلى إنماء وتطوير وهو علم الاجتماع الحركي الذي يختص بمناهج التغيير الاجتماعي. هذه
التقسيمات، لم تنفصل كلياً عن بعضها، فقد أصبح العلم الرئيسي لهذا الحقل هو الناظم المعرفي والمنهجي لكل تلك التقسيمات، ويطلق عليه بعلم الاجتماع العام الذي يقوم بوظيفة الابستملوجيا لذلك الحقل. وهكذا في علم النفس والسياسة والاقتصاد والتربية وغيرها .
أما في نطاق المعرفة الإسلامية فبالتأكيد كان لها نظامها الابستملوجي الخاص بها في توليد المعرفة ذات النسق الإسلامي، وفي الاستدلال عليها لإثبات صحتها، وفي اختبارها لمعرفة قيمتها. وكان من المفترض أن يكون علم أصول الفقه هو النظام المعرفي للمعارف الإسلامية، فهذا العلم يعتبر من ثمرة
العقل الإسلامي الخالص، ومن ابتكارات الحضارة الإسلامية في عصور تقدمها وازدهارها، ولم يكن معروفاً في الحضارات السابقة، وهو يعادل علم المنطق في حضارة اليونان، وفلسفة القانون في الحضارة الغربية المعاصرة. كما إن أصول الفقه هو الحقل المعرفي الذي اجتمعت فيه خبرات العديد من المعارف والعلوم من المنطق والفلسفة وعلم الكلام إلى علوم اللغة العربية إلى جانب علوم القرآن والحديث و الفقه، فهو علم القواعد والمناهج وعلم الاستدلال والبرهان. لذلك فهو في نظر البعض يعتبر فلسفة الإسلام. ومنذ أن تحول الفقه من الدلالات العامة إلى الدلالات الخاصة، وانكمشت وتراجعت حركة الاجتهاد، وتوقفت الحركة الحضارية في الأمة، لم يعد لأصول الفقه وظائفه كنظام معرفي في مبحث المعرفة الإسلامية .
وقد التفت المعهد العالمي للفكر الإسلامي إلى ضرورة تأسيس ما يصطلح عليه بالنظام المعرفي الإسلامي الذي يعادل الابستملوجيا عند الغرب، والجهد الذي قام به المعهد في هذا المجال هو الأكثر أهمية وتأصيلاً وعمقاً، وما زال المعهد يراكم معارفه وخبراته في بناء وتأسيس وتأصيل النظام المعرفي الإسلامي، الذي ينطلق من مفهوم ابتكره المعهد لنفسه وهو مفهوم الجمع بين القراءتين، بين قراءة الوحي وقراءة الكون، كما يرتكز النظام المعرفي على المفهوم التوحيدي للعالم ووحدة الحق والحقيقة. ويتأسس على العلاقة بين العقيدة والقيم والعلم، وبين علاقة عالم الغيب وعالم الشهادة، وعلاقة الوحي بالعقل، وعلاقة العلوم الإسلامية بالعلوم الاجتماعية والإنسانية . وبمنهجية على قدر كبير من الضبط والإحكام، وبشروط التمكن والاستيعاب للمعارف والعلوم الاجتماعية الحديثة، وبخلفية النقد والتجاوز بمعنى الإضافة والتحرر من هيمنتها والتأصيل الإسلامي لها .
إن انتساب التراث إلى الماضي يفترض أن تتحدد علاقته بالتاريخ، بمعنى قراءة التراث من منظور تاريخي لتحريره من اللاتاريخية، ومن اللازمني إلى الزمني، ومن السكون إلى الحركة، ومن الاحتباس في الماضي إلى الانطلاق به نحو الحاضر والمستقبل. والمنظور التاريخي أيضاً هو لقراءة التراث في سياقاته التاريخية وطبيعة ظروفه ووضعياته، وكيفية تكويناته وتشكلاته. بالشكل الذي يوفر لنا القدرة على توصيفه وتحديده، والكشف عنه, والتعريف به، وبالتالي القدرة على تفسيره وتعقله وإدراكه بصورة موضوعية وعلمية .
هذه العلاقة بين التراث والتاريخ لابد معها من ملاحظة المفارقة الفاصلة بينهما، فالتاريخ هو أشمل من التراث وأكثر سعة وتوغلاً في الزمن الماضي، في حين أن التراث حسب مفهوم الدكتور حسن حنفي هو كل ما وصل إلينا من الماضي داخل الحضارة السائدة فهو إذن قضية موروث، وفي نفس الوقت قضية معطى حاضر على عديد من المستويات. وحسب مفهوم الدكتور محمد عابد الجابري الذي يقارب ويطابق ذلك المعنى، فهو عنده، إن التراث هو كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي سواء ماضينا أم ماضي غيرنا، سواء القريب منه أم البعيد .
والذي يرى هو أن التراث في دلالته اللغوية واستعمالاته الاشتقاقية هو كل ما له خاصية وقابلية الانتقال من الماضي إلى الحاضر، إما لاعتبارات مرتبطة بالحاضر وحاجاته ومقتضياته، وإما لخصوصيات ذاتية وجوهرية يتصف بها التراث تجعل منه تراثاً حياً وفاعلاً وعقلانياً .
والتراث يتحدد من الماضي في ذلك الموروث الفكري والعلمي والديني والفقهي والأدبي، المنتج والمدوّن والمؤرخ له، الذي وصل إلينا أو بإمكاننا الوصول إليه، المكتشف أو الذي بإمكاننا أن نكتشفه، في نطاق حضارتنا الإسلامية .
والمنظور التاريخي كذلك هو لبناء وعي فاعل ومتحرك، وتكوين فهم ومعرفة تعبر بنا من الماضي إلى الحاضر، ومن التاريخ إلى المستقبل. ومن خلال هذا المنظور أيضاً ندرك الشروط الزمنية والموضوعية لنشأت المعارف والعلوم والمفاهيم في سياقات تطورها ونموها وتراكمها، وندرك من جهة أخرى اختباراتها وتطبيقاتها وتجريباتها. فالتاريخ هو اختبار لتجارب الإنسان والأمم والحضارات، وهو أعظم ثروة علمية بإمكاننا أن نتعلم منه كل ما نريد، لكننا لا نتعلم من التاريخ، فما أكثر العبر كما يقول الإمام علي عليه السلام وما أقل المعتبر، وأن التاريخ كما يقول صاحب فلسفة التاريخ هيغل يعلمنا بأننا لم نتعلم من التاريخ .
وبالتأكيد أن التاريخ هو فلسفة الاجتماع البشري، ومنه اكتشف ابن خلدون نظريته الشهيرة التي عرفت بالعمران البشري .
من الممكن وصف انطلاقة المصلحين ورواد النهضة والتغيير بأنها من لحظات الوعي التاريخي، وأنهم قاموا بتعميم هذا الوعي التاريخي في الأمة، بالنشاط الإصلاحي والنهضوي الذي قاموا به، على مستوى الفعل والحركة, أو على مستوى الخطابة والإعلام، أو الكتابة والنشر. والمؤرخون لاحقاً، حاولوا توصيف تلك اللحظات التاريخية ودراسة سياقاتها ووضعياتها وشروطها ومكوناتها. ويمكن القول أن المصلحين نقلوا الوعي التاريخي من
ذهنياتهم إلى ذهنيات الأمة، وحولوا الوعي التاريخي الخاص إلى وعي تاريخي عام، وما زالت الأمة إلى هذا الوقت ترجع إلى ذلك الوعي وتستلهم منه زخماً معنوياً تتولد منه طاقة حركية في صورة مواقف شجاعة ومبادرات جريئة .
والمقصود بالوعي التاريخي هو الوعي بشروط النهضة المأخوذة من التاريخ، وتكوين الفهم الموضوعي والسنني لقوانين التغيير الاجتماعي، والانطلاق من حركة الإصلاح على خلفيات تستحضر معها التاريخ في تجاربه ونماذجه، في دروسه وعبره، في سننه وقوانينه. وفي انتصاراته وهزائمه، وفي تقدمه ونكوصه، وفي صعوده وسقوطه .
وفي نظر العديد من الباحثين والمؤرخين الذين درسوا النهضات الإصلاحية في التاريخ الإسلامي الحديث، اعتبروا السيد جمال الدين الأفغاني من أبرز المصلحين الدينيين، فهو في نظر محمد إقبال أعظم مفكر ديني دعا إلى بعث الإسلام في العالم الإسلامي الحديث، وفي نظر الشيخ مرتضى المطهري أنه كان أول مشعل للحركات الإصلاحية في القرن الأخير، ووصفه مالك بن نبي بأنه يمثل ضمير العالم الإسلامي، لقد استطاع السيد جمال الدين أن يبعث نهضة في أمة متعددة المذاهب والقوميات واللغات، من تركيا إلى إيران والهند وأفغانستان إلى مصر والعراق. لذلك استحق الوصف الذي اشتهر به بموقظ الشرق، الوصف الذي يكشف عن عظمة الدور النهضوي الذي قام به الأفغاني، والذي فتح على الأمة وعياً تاريخياً أيقظها من السكون إلى الحركة، وبعث فيها صحوة ونهضة ومقاومة للاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي. فالأفغاني انطلق من وعي تاريخي بالرؤية التي كوّنها حول المنطقة الإسلامية آنذاك، وكانت أهم رؤية في توصيف وتقويم المنطقة الإسلامية آنذاك، واكتسبت هذه القيمة والأهمية عن طريق التجريب والاحتكاك المباشرة مع الواقع، والتفاعل الحي مع الساحة في نطاقها الواسع، وبالانفتاح والتواصل مع العديد من النخب والجماعات والمؤسسات الأهلية والحكومية، الدينية والثقافية والسياسية. واغلب النهضات والحركات الإصلاحية التي ظهرت بعد الأفغاني تأثرت بصورة من الصور بذلك الوعي التاريخي .
أما التحقيب التاريخي للأفكار والمفاهيم والظواهر الثقافية عموماً، هذا النسق المنهجي يتأسس على قاعدة معرفية، وهي أن التاريخ الفكري لا يتحرك في اتجاه واحد أو على وتيرة واحدة، فهناك تحولات ومنعطفات، ومسارات واتجاهات، ومراحل وتطورات، تتحدد وتختلف بحسب اختلاف وتمايز الوضعيات والسياقات والمكونات الثقافية والسياسية والاجتماعية، وبحسب القضايا والمسائل والمفاهيم، ونوعية الاحتكاكات والتواصلات والانفتاحات. فهناك ما يمكن أن نسميه طبقات فكرية في التاريخ الفكري، بحاجة إلى توصيف وتشخيص تكون في غاية الدقة والفهم. ويترتب على ذلك قياس حركة الأفكار وتطوراتها ومساراتها ومفاعيلها في تكوين الوعي التاريخي للأمة .
مقولة نهاية التاريخ بالصورة التي نظر لها فرنسيس فوكوياما ونشرها في مجلة ( ناشيونال انترست ) الأمريكية، صيف 1989 م، والتي أصابت العالم برعشة في وقتها، كما وصفها الكاتب الأمريكي ألن ريان. في هذه المقولة استخدم فوكوياما التاريخ بمعناه الهيغلي(1) ـ الماركسي، أي التطور التصاعدي للمؤسسات البشرية السياسية والاقتصادية, وأن التاريخ حسم صراعه الفكري ووصل إلى المثل الأعلى في الدولة الليبرالية الحديثة، وذلك بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وانهيار المنظومة الشرقية، وسقوط الفلسفة الماركسية والاشتراكية العلمية. وقد أثارت هذه المقولة أوسع النقاشات السجالية في وقتها وعلى نطاقات عالمية، حفزت صاحبها إلى أن يطور بنيتها الفكرية ويعمق فهمه وتحليله حولها، وهذا ما أنجزه في كتابه الذي حمل عنوان ( نهاية التاريخ.. والإنسان الأخير ), والعبارة الأخيرة استعارها من الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه. وفي صيف 1999 م, وبمناسبة مرور عشر سنوات على صدور مقالته الأولى نشر فوكوياما مقالة يرد فيها على ناقديه الذين طلبوا منه كما يقول أن يعيد النظر في وجهة نظره ويشجبها، وحسب رأيه، أن لا شيء حدث في السياسة العالمية أو في الاقتصاد العالمي في السنوات العشر الماضية يتحدى الخاتمة القائلة بأن الليبرالية الديمقراطية والنظام الاقتصادي المتجه نحو السوق هما البديلان الوحيدان، القابلان للتطبيق في المجتمعات الحديثة, ولم يُحدد الضعف الحقيقي كما يضيف، لمقالة نهاية التاريخ إلا واحد من بين مئات المعلقين الذين ناقشوها، وهو الرأي الذي يرى أن التاريخ لا يمكن أن يصل إلى نهاية ما دام العلم الطبيعي الحديث ليس له نهاية، وهو العلم الذي يسوق السيرورة التاريخية، ونحن على حافة تطورات في العلم ستلغي بشرية كهذه .
والحقيقة أن هذه المقولة كانت متسرعة في أحكامها وتحليلها، التسرع الذي أفقدها العمق والنضج والتماسك العلمي والمنهجي، فليس بهذه السهولة يختزل التاريخ ويعلن عن نهايته, وفي حقل الأفكار والفلسفات بالذات، خصوصاً وأنها جاءت في وقت كان التاريخ فيها يتحرك بسرعة شديدة .

-(1) الهيغلية هي فلسفة مرتبطة بشكل حتمي مع التاريخانية وبعكس الماركسية، التي من الممكن قراءتها بعيدا عن توصيفات التاريخانية بالرغم من أن ماركس نفسه لم يتجه هكذا اتجاه عبر تقديمه لجدله على غنه الجدل الهيغلي مقلوبا، دونما حاجة إلى افتراض للمسيرة الضرورية للتاريخ. أحد أسباب تشديد ماركس وأغلب المدارس الماركسية على التاريخانية يتعلق بالمستوى السياسي. التاريخانية لا تكتفي بإعطاء تبريرا عقلانيا لليوتوبيا إنما تجعلها ضرورة. أي التاريخانية تلعب دور الوعد الخلاصي في العالم المعقلن حاليا، إنها مبدأ الأمل


5

يضاف إلى ذلك أن الضعف الحقيقي في مقولة فوكوياما أنه أخرج المنظور الحضاري الإسلامي والعالم الإسلامي من دائرة التفكير والتحليل والاستنتاج في تكوين نظريته، حين اعتبر العالم الإسلامي يفقد بريقه السحري كما يصفه خارج محيطه. وهذه الملاحظة من أشد المفارقات وضوحاً بينه وبين مقولة صدام الحضارات لصمويل هنتنغتون الذي يرى أن البؤرة المركزية للنزاع في المستقبل المباشر ستكون بين الغرب والعالم الإسلامي، ومن هذه الجهة أيضا انتقد هنتنغتون مقولة نهاية التاريخ في حديثه عن مقولته صدام الحضارات، وحسب رأيه بأن مقولة انهيار الاتحاد السوفييتي يعني نهاية التاريخ والانتصار الشامل للديمقراطية الليبرالية عبر العالم, هذه المقولة تعاني من مغالطة البديل الوحيد, وترجع بجذورها إلى الافتراض الذي شاع في الحرب الباردة، بأن البديل الوحيد للشيوعية، هو الديمقراطية الليبرالية، وأن زوال الأولى يؤدي إلى عالمية الثانية, بيد أن هناك جميع البدائل الدينية التي تقع خارج العالم المدرك بمقاييس الأيديولوجيات العلمانية, أن الدين مركزي في العالم الحديث، وربما كان القوة المركزية التي تحرك الناس وتحشدهم في المستقبل , والاعتقاد بأن الغرب قد كسب العالم إلى الأبد بسبب انهيار الشيوعية السوفييتية محض غرور أجوف كما يقول هنتنغتون .
ولقد استقبل العالم مقولة صدام الحضارات بتشاؤم كبير، وهو الوصف الذي أطلقته عليها جريدة واشنطن بوست، لأنه ركز على ما يفرق الحضارات لا على ما يجمعها كما ذهبت إلى ذلك مجلة نيوزويك .
وفي هذا المجال أضفت مفهوماً أطلقت عليه ( تعارف الحضارات ) الذي يفترض أن يمهد لأرضيات حوار الحضارات، ويرفع مسببات صدام الحضارات. أما نهاية التاريخ في منظور القرآن الكريم فقد وردت آيات كريمة حددت مفهوماً لنهاية التاريخ يرتكز على قاعدة انتصار الـحق وإحقاقه، من هذه الآيات قوله تعــالى: ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) ـ الأنبياء, آية 105ـ وقوله تعالى ( هو الذي أسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ) ـ الفتح, آية 28ـ وقوله تعالى ( ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين-* ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) ـ الأنفال, آية 7ـ 8 ـ ( ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور ) ـ الشورى, آية 24ـ
إلى غير ذلك من آيات كثيرة يفهم منها أن قوانين الحق هي الأقوى, وهي التي تبقى وتسود وتنتصر في الأخير، وهذه سنة الله في الحياة التي لا تبديل فيها ولا تحويل .
هل تعتبر فلسفة التاريخ, مدار معرفي ( مراجعاتي.. نقدي ) ؟ .

فلسفة التاريخ هي بحث في ماهية التاريخ بمفهومه الكلي والتركيبي العام، وهي الرؤية التي حررت النظر إلى التاريخ من مجرد حوادث مفككة ومتناثرة ومتعاقبة بصورة لا متناهية ولا يمكن حصرها أو الإحاطة التامة بها، إلى البحث في العلاقات التي تحكم تلك الحوادث والقوانين التي تكشف عنها، وعن جوهرها العام .
والفلسفة هي التي أعطت التاريخ هذا المعنى أو هذه الماهية، باعتبار أن الفلسفة كما ينظر لها هي علم يتعالى على الزمان ولا يتقيد به. وفلسفة التاريخ كما يقول الجابري بما أنها فلسفة فهي لا تتقيد بالتحقيب التاريخي المعروف الذي يقيم فواصل شبه نهائية، بل نهائية بين الماضي والحاضر والمستقبل، بل تنظر إلى كلية التجربة التاريخية وإلى منطقها الداخلي، إلى نزوعها الواعي واللاواعي .
والفلسفة هي بحث فوق الزمان والتاريخ هو بحث في الزمان، فالفلسفة أعطت التاريخ قدراً من التعالي على الزمان، والتاريخ أعطى الفلسفة قدراً من الاقتراب من الزمان. الفلسفة أعطت التاريخ القوانين العامة والكلية والتجريدية، والتاريخ أعطى الفلسفة الحوادث والوقائع والأخبار والآثار، توصيفها وتدوينها وتسجيلها وحفظها. الفلسفة حددت الأحكام والأدلة والبراهين والتاريخ حدد الموضوعات والقضايا والظواهر. الفلسفة تنظر إلى الأمام والتاريخ ينظر إلى الوراء، وجاءت فلسفة التاريخ لكي لا تنصرف الفلسفة للنظر إلى الأمام فحسب، ولكي لا يحتبس التاريخ في النظر إلى الوراء فقط، من هنا كانت حاجة الفلسفة إلى التاريخ وحاجة التاريخ إلى الفلسفة .
ولقد حاولت أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين أن تبني لنفسها وعياً تجاه ذاتها من خلال قراءتهـا لفلسفة التاريخ واهتمامها بهذا الحقل المعرفي تأملاً وتفكيراً ودراسة وبحثاً. فكونت لنفسها مفهوم التقدم، فارتبطت فلسفة التاريخ في الفكر الأوروبي الحديث بمفهوم التقدم, وهو المفهوم الذي تمسكت به أوروبا في بناء نهضتها وحداثتها وحضارتها، وكان محركاً ومحفزاً وباعثاً لأنشطتها وفعالياتها، ومكوّناً لأهدافها وطموحاتها وتطلعاتها، ومثل لها القيمة العليا ومقياس التفاضل في تعاملها مع منظومة القيم .
6
أما نحن في العالم العربي والإسلامي فما زلنا نقرأ التاريخ ولا ندرك قيمته وبالتالي فليس لنا فلسفة للتاريخ، لأن المفترض أن كل أمة تستقل بفلسفة للتاريخ بناء على قاعدة أن لكل أمة حداثتها ونموذجها للتقدم. أو بعبارة أخرى أن لكل أمة منظورها في تكوين الفهم لفلسفة التاريخ, بما يستجيب لحاجاتها الراهنة ومقتضياتها الموضوعية وسياقاتها التاريخية .
ومن لا يملك فلسفة التاريخ لا يملك وعياً للتاريخ .
هل يمكن وعي المستقبل بوعي الماضي، وما هو الوعي الذي يحمله التاريخ للإنسان الحاضر..؟

لقد انتقلت أوروبا والفكر الأوروبي المعاصر، من فلسفة التاريخ إلى علم المستقبليات، وهو انتقال من البحث عن التقدم إلى إنجاز التقدم. فلم تعد لفلسفة التاريخ تلك الحاجة الملحة عند الأوروبيين، كما كانت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لذلك فإن الحداثة التي تعني عند الأوروبيين فلسفة التقدم، تشكلت مفهوميتها على أساس القطيعة مع التراث والماضي، بعد أن تمثلت أوروبا تراثها وهضمته ومن ثم تجاوزته، وحققت ما هو أرقى وأفضل منه . وأصبح مفهوم التقدم في أوروبا لا يتشكل من فلسفة التاريخ، وإنما من فلسفة المستقبل أو ما يسمى بحقل المستقبليات الذي تطور بصورة كبيرة وكسب جدية، واهتماماً, وارتبط بحقول معرفية عديدة أضيفت لرصيده العلمي والمنهجي والتطبيقي .
وهذا لا يعني بالتأكيد أن فلسفة التاريخ كحقل معرفي فقد قيمته وحاجته وضرورته بصورة كلية وتامة، بحيث يتوجه الاهتمام كلياً نحو حقل المستقبليات. والحقيقة إن التاريخ هو الحقل الذي لا تتوقف الحاجة إليه، فهو ينبض بالمعرفة دوماً، لأنه كما يقال لا يكشف عما حققه وأنجزه الإنسان فحسب وإنما عما ينبغي إن يتحقق وينجز، فهو اختبار لإرادة الإنسان وإمكانياته، وتجريب لمعارفه وأفكاره .
والقرآن الكريم فتح أمام الإنسان المعرفة بالتاريــخ وأكــد على قيمته والنظر إليه كما جاء في قوله تعالى: ( أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) ـ الروم, آية 9ـ وقوله تعالى ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ـ الحج, آية 46ـ (2)
هذه الآيات التي كشفت قيمة المعرفة بالتاريخ ركزت على مفهومين بينهما تلازم وثيق وترابط معرفي ومنهجي، بين مفهوم ( يسيروا ) ومفهوم ( فينظروا ) ، الأول يشير إلى الجهد الحسي والمادي، والثاني يشير إلى الجهد الذهني والفكري، والقرآن الكريم أسس منهجاً جديداً في النظر للتاريخ على أساس الاعتبار والاتعاظ، وتكوين المعرفة واكتشاف السنن والقوانين. والاعتبار بمعنى العبور من الماضي إلى الحاضر، والاتعاظ لا يتحقق إلا بالنظر إلى الحاضر، واكتشاف السنن والقوانين من أجل النظر للمستقبل والتحكم في بعض البدائل والخيارات. كما أن تلك الآيات تحدثت بصيغة الجمع، الأمر الذي يفهم منه أن الوعي التاريخي هو ضرورة لكل الأمة، وليس لأفراد فحسب، فالتاريخ هو وعي للأمة ويقظة لها، وهذه هي وظيفته الحقيقية والفاعلة .
يقول مالك بن نبي: إن للمشكلات الاجتماعية ـ نوعيتها التاريخية, وهذا يعني أن ما يصلح لمجتمع معين في مرحلة من تاريخه، قد تنعدم فائدته أو يكون ضرراً في مرحلة أخرى.. وقد تكون هذه أزمتنا مع التراث, ماذا يعني هذا الكلام في إطار الوعي التاريخي, وهل بقي أكثر نتاجنا اجترارياً, يقوم بسحب ما أنتج لواقع مضى على واقعنا, أهنا أزمة في هذا المضمار؟ .

قد يكون مالك بن نبي من أكثر المفكرين الإسلاميين وعياً وإدراكاً بأفكار ابن خلدون في مجال حركة التاريخ وفلسفة الحضارة وتطور العمران البشري, لذلك فقد كان شديد الالتفات إلى الشرط التاريخي كمعيار تفسيري لحركة الأفكار والظواهر الاجتماعية, فعامل الوقت الذي يقصد به الشرط التاريخي، يعتبره مالك بن نبي العامل الثاني من عوامل شروط الحضارة إلى جانب عامل الإنسان والتراب, مما يؤكد على قيمة الوعي التاريخي في فكر مالك بن نبي، والذي يظهر جلياً في العديد من مؤلفاته. وفي نظر بعض المطلعين على الخطاب الفكري لمالك بن نبي يعتبرونه الأكثر قرباً من خطاب ابن خلدون واستمراراً له .
والجانب المهم في كلام بن نبي ذات العلاقة بالوعي التاريخي هو ضرورة أن يفهم كل مجتمع مرحلته التاريخية، وبالتالي حاجاته الفكرية والمعنوية والمادية، وهو يقسم أطوار المجتمع إلى ثلاثة أقسام: مجتمع ما قبل التحضر، ومجتمع التحضر، ومجتمع ما بعد التحضر، ويرى أن فاعلية الأفكار وقدرتها

'2) -أثار كتاب نولدكه «تاريخ القرآن» الذي نشر عام 2004م
على البعث الحضاري هو في إدراك الشرط التاريخي. ويأتي هذا الكلام من مالك بن نبي ليلفت النظر إلى إشكالية فكرية خطيرة ما زالت إلى هذا الوقت هي موضع نظر وتجاذب نقدي وسجالي، وهي إشكالية الزمان التاريخي أو المكونات التاريخية بين المجتمعات الغربية والمجتمعات الإسلامية، الأمر الذي يترتب عليه أن ما يناسب تلك المجتمعات ليس بالضرورة يناسب مجتمعاتنا، بل قد يكون قاتلاً أو مدمراً في مجتمعاتنا، فنوعية المشكلات الاجتماعية والحاجات الفكرية على ضوء ذلك من المؤكد أنها تختلف وتتغاير. فالغرب كان له شرطه التاريخي في تقدمه وتمدنه، ونحن لنا شرطنا التاريخي في تقدمنا وتمدننا، وهذا ما ينبغي أن ندركه جيداً .
إن الدراسة التاريخية بمعناها الفلسفي، تنامت بعد عصر النهضة، فيما أنزوى التفسير اللاهوتي للتاريخ من أيام القديس أوغسطين.. فكان التفسير الدنيوي حسب ما يطلق عليه أو العلمي, بدأ بفيكو فكانت وهردر إلى هيغل, وأخيراً إبداعات توينبي في القرن العشرين ( ت 1975 ) مع ما اتكأوا عليه في خطوة ابن خلدون الذي سبق أولهم بثلاثة قرون ونصف في التغيير العلمي للتاريخ , وإدخال علم الاجتماع وتعامله بالسنن بطريقة أشبه بالرياضيات, لحد ما في أبعادها. وكان بعد ذلك مسار معرفي من بدايات هذا القرن للمشرق الإسلامي ومفكريه, ماذا تمثله هذه المعرفية في إطار الوعي التاريخي, وماذا أبدع الفكر الإسلامي, وإلى أين وصل في هذا المضمار؟ .
لقد سبقت القول أن القرآن الكريم فتح على الإنسان المعرفة بالتاريخ وقيمة هذه المعرفة، وهو أول كتاب يكشف عن وجود السنن والقوانين التي تحكم حركة التاريخ وتطور المجتمعات والحضارات، من هذه الآيات قوله تعالى: ( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ) ـ الكهف, آية 59 ـ فقد كشفت هذه الآية عن قانون تاريخي في سقوط الأمم والحضارات وهو قانون الظلم والذي يرتبط بالشرط التاريخي ( وجعلنا لمهلكهم موعدا ), وهو ذات القانون الذي توصل إليه المؤرخ البريطاني المعروف توينبي في دراسته لسقوط الحضارات حين اعتبر الظلم بصوره المختلفة سبباً أساسياً في سقوط الحضارات. وفي فترة سابقة اكتشف ابن خلدون هذه القوانين وطور طرائق الفهم لها، لذلك يعتبر ابن خلدون في نظر المؤرخين سبق فيكو في فلسفة التاريخ، و أوغست كونت في وضع أسس علم الاجتماع. وفي رأي روبرت فلنت أنه ـ أي ابن خلدون ـ أول كاتب بحث في التاريخ كموضوع علم خاص, وفي نظر دي بوير أنه أول من حاول أن يطور علم الاجتماع الإنساني وبين علله القريبة من حس الإدراك لمسائل البحث وتقديرها بالأدلة المقننة, وحسب توينبي أنه يرى في مقدمة ابن خلدون دلائل ساطعة على سعة النظر وعمق البحث وقوة التفكير. ومن المفكرين الإسلاميين المعاصرين الذين أضافوا لحقل المعرفة السننية بالتاريخ أو علم الاجتماع، من هؤلاء مالك بن نبي, والسيد محمد باقر الصدر, والدكتور علي شريعتي, والشيخ مرتضى المطهري. وليست هناك تطورات معرفية أو منهجية على قدر كبير من العمق والنضج في هذا الوقت لهذا الحقل المعرفي ذي الأهمية الفائقة, والذي يترك تأثيره بصورة كبيرة على تطورات الفكر الإسلامي المعاصر ..




يارب الموضوع يعجبكم


عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق