الخميس، 31 مارس 2016

كتاب تاريخ العالم-الفصل السابع-صنع أوروبا 7-17

كتاب تاريخ العالم-الفصل السابع-صنع أوروبا 7-17

تدبير المعيشة


إن ما نعرفه عن الأمور الاجتماعية والاقتصادية في الكنيسة أكبر من ذلك بكثير، والحقيقة أن هاتين الناحيتين كان لهما وزن هائل. كانت الكنيسة تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي، فكانت تسيطر بالتالي على جزء كبير من ثروة المجتمع. وكانت أراضيها تلك تؤمن لها المصدر الأساسي للدخل، وقد يملك دير واحد أو مجموعة من الكهنة أراضي واسعة جداً. وقد خلّف لنا هذا وثائق يمكننا جمع المعلومات منها من أجل تشكيل صورة عن اقتصاد ذلك العصر، الذي كان في الحقيقة اقتصاداً بدائياً جداً. عند نهاية العصور القديمة كانت الحياة الاقتصادية في أوروبا الغربية قد تراجعت في كل مكان، بل انهارت بالكامل في بعض الحالات، ولو أن هذا التراجع لم يؤثر في الجميع بصورة متساوية. وإن أكثر القطاعات الاقتصادية تطوراً هي التي انهارت بصورة أكبر. فقد حلت المقايضة محل التعامل بالنقد، وعندما عادة الفضة إلى الرواج من جديد كانت كمية النقود المتداولة قليلة خاصة من الفئات الصغيرة. وكذلك اختفت التوابل من الطعام اليومي، وأصبح النبيذ سلعة كمالية غالية الثمن، وصار أكثر الناس يأكلون الخبز والعصيدة وهي طعام يصنع من الحبوب المسلوقة، ويشربون الجعة والماء. وصار الكتبة يستخدمون الرق الذي يمكن الحصول عليه محلياً بدلاً من ورق البردي الذي بات صعب المنال، وكانت هذه ميزة في الحقيقة لأن الكتابة بالخط الصغير ممكنة على الرق، بينما لايمكن الكتابة على ورق البردي إلا بضربات كبيرة تجعل استخدامه باهظ الثمن، وقد خرب الركود الاقتصادي المدن وتفكك عالم التجارة. صحيح أن الاتصال ببيزنطة والبلاد الأبعد في آسيا بقي قائماً، ولكن التجارة في غربي المتوسط تقلصت خلال القرن السابع والثامن مع استيلاء العرب على ساحل شمال أفريقيا، ثم أعيد إحياؤها قليلاً بفضل العرب أيضاً، ومن علامات ذلك التجارة النشيطة بالعبيد الذين كان أكثرهم من الشعوب السلافية، ومن هنا أتت تسمية العبيد باللغة الإنكليزية slave وفي الشمال أيضاً كان يجري بعض التبادل مع الاسكندينافيين الذين برعوا بالتجارة، إلا أن أكثر الأوروبيين إنما كانوا يحصلون معيشتهم من الزراعة.

كان الكفاف غاية طموح الأوروبيين، وكانت الطرق الوحيدة المتاحة لتحسين مردود الزراعة هي إما استخدام روث الحيوانات أو زراعة مساحات أكبر من الأرض. ولكنه كان على أي حال مردوداً زهيداً بالقياس إلى معاييرنا الحديثة، ولم يتغير هذا الوضع إلا بعد قرون طويلة من المجهود الزراعي الشاق. وكان الناس يعانون من نقص النمو ومن داء الإسقربوط-*، وكانت حيواناتهم أيضاً ناقصة الغذاء والنمو، لأن البيئة نفسها كانت بيئة فقيرة. وكان الفلاحون الأوفر حظاً يحصلون على الدهن من الخنزير، أو من الزيت في المناطق الجنوبية، ولم يبدأ مردود التربة من الطاقة بالتحسن إلا في القرن العاشر مع بدء زراعة نباتات أغنى بالبروتين. ثم حصلت بعض التطورات التقنية، فازداد عدد الطواحين، وصار المحراث أثقل وزناً ومزوداً بعجلات وأقدر بالتالي على زراعة سهول الشمال، وهي سهول خصبة، ولكنها ذات تربة كثيفة ودبقة. ولما كانت المحاريث الجديدة بحاجة لأزواج عديدة من الثيران لجرها فقد أدى هذا إلى اعتماد طريقة الزراعة بالتناوب: كانت شرائط الأرض الصغيرة التي يزرعها الأفراد موزعة على حقلين أو ثلاثة هي ملك للجماعة المحلية، فصارت كل الشرائط الواقعة في حقل واحد تحرث أو تترك لترتاح في الوقت نفسه، من أجل الاستفادة القصوى من تلك المحاريث بثيرانها العديدة. وكان هذا الأسلوب أنجع من أية طريقة عرفتها أوروبا في الماضي، كما نتج عنه أيضاً توفر محاصيل أكثر تنوعاً، ومنها الشوفان الذي ازدادت كمياته، وهو طعام مناسب للأحصنة لذلك صار بالإمكان استخدامها بدلاً من الثيران، وسرعان ما أدى هذا إلى ابتكار عدة أفضل للحصان، وبالأخص إلى اختراع العمود الأفقي الذي تشد إليه العدة ويستخدم لجر المحراث، والحقيقة أن الزراعة كانت قد بدأت تتغير بصورة كبيرة بحلول عام 1000 للميلاد.

كان عدد سكان أوروبا الغربية في ذلك الزمن أقل منه في أيام الرومان على الأرجح، ولكن يكاد يكون من المستحيل أن تعطي أرقاماً ولو تقريبية ويبدو على كل حال أن نمو عدد السكان كان بطيئاً جداً حتى القرن الحادي عشر، وربما كان عدد سكان أوروبا الغربية يقترب عندئذٍ من الأربعين مليون أي أنه أقل من عدد سكان المملكة المتحدة وحدها اليوم. في ذلك العالم القليل السكان كانت ملكية الأرض هي العامل الأهم في تحديد المرتبة الاجتماعية، وقد صار محاربو المجتمعات البربرية بصورة تدريجية وبطيئة أصحاب أراضٍ أيضاً، وكان هذا تطوراً طبيعياً، فأصبحوا هم حكام البلاد إلى جانب وجهاء الكنيسة والملوك. وكانت ملكية الأرض تعين الكثير، إذ إنها تؤمن الإيرادات عن طريق تأجيرها وجبي الضرائب، فضلاً عن حق التشريع والقضاء وفرض عمل السخرة. لذلك كان أصحاب الأرض هم سادة المجتمع، وبالتدريج صارت الأهمية الأكبر لمكانتهم الوراثية، بينما ضعف التشديد على قوتهم القتالية ومهاراتهم العسكرية. وأحياناً كان الملك نفسه أو أمير كبير يمنح الأرض لبعضهم، ويتوقع منهم في هذه الحالة أن يردوا له الجميل عن طريق الخدمة، إن منح أراضي قابلة للاستثمار مقابل التزامات محددة كان في الحقيقة أمراً شائعاً جداً، وهذا المبدأ هو في جوهر ماسماه الناس في عصور لاحقة عندما نظروا إلى العصور الوسطى في أوروبا النظام الإقطاعيfeudalism أما أهل العصور الوسطى أنفسهم فلم يستخدموا هذه الكلمة قط إذ لم تكن قد اخترعت بعد.


يتبع




يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق