الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

الجزائر في عهد محمد بوضياف


الجزائر في عهد محمد بوضياف


محمّد بوضياف : المنفي العائد

محمّد بوضياف ليس رجلا عاديّا بالنسبة للجزائريين , انّه يمثل أحد أباء الثورة الجزائرية التي خلصّت الجزائريين من نير الاستعمار الفرنسي . و قد بدأ محمد بوضياف نضاله في صفوف حزب الشعب الجزائري منذ عقد الثلاثينات و كان عضوا قياديّا في المنظمة العسكرية الخاصة التي أسسها هذا الحزب في سنة 1947 والتي كانت تهدف الى الاعداد للثورة الجزائرية , وأستمرّ محمد بوضياف مناضلا في هذه المنظمة ككادر وقيادي ومنظّم . وعندما اكتشفت فرنسا أمر هذه المنظمة قامت باعتقال ألف مناضل من مناضلي حزب الشعب الجزائري , وحكمت على محمد بوضياف بالاعدام غيابيا الأمر الذي دعاه الى التخفي .
وقبل تفجير الثورة الجزائرية في 01 تشرين الثاني –نوفمبر – سنة 1954 , ساهم محمد بوضياف في تأسيس جماعة 22 الثورية للوحدة و العمل وبعدها اللجان الست التي فجرّت ثورة التحرير الجزائرية , وتمكنّ بوضياف في ظروف غير طبيعية من تفجير ثورة التحرير مع رفقائه أحمد بن بلة ورابح بيطاط ومحمد خيضر و كريم بلقاسم وحسين أيت أحمد والعربي بن مهيدي وغيرهم . ومعروف أنّ الثورة الجزائرية اندلعت في وضع سياسي جزائري يتسم بالتعددية الشكلية , وكانت بعض الأحزاب الجزائرية أنذاك ترى عبثية الثورة وضرورة الاندماج الكلي في المجتمع الفرنسي أو المجتمع الأم كما كانت تسميه النخبة الفرانكفونية في ذلك الوقت . كما أنّ الثورة الجزائرية انطلقت في ظل ضعف الامكانات المادية حيث كان الثوّار الجزائريون يستخدمون بنادق الصيد والسكاكين وحتى أخشابا منحوتة على شكل بنادق ورشاشات .
ويرى الدكتور يحي بوعزيز المؤرخ الجزائري الشهير أنّ محمد بوضياف أنقذ الجزائر ثلاث مرات الأولى عام 1954 حينما اشتدّت الخصومة بين الأحزاب وأنقسم التيار الاستقلالى على نفسه , فحسم بوضياف ورفاقه الموقف لصالح الحتمية الثورية , والثانية عام 1964 بعد الاستقلال بعامين حينما فضلّ المنفى الاختياري خارج البلاد لمدة ثماني وعشرين سنة حتى لا يشارك في الفوضى والصراع الداخلي الذي نشب بين ثوّار الأمس غداة استعادة الاستقلال في سنة 1964 , والثالثة عام 1993 عندما استجاب للنداء الوطني وعاد الى الجزائر لرئاسة المجلس الأعلى للدولة عقب استقالة أو اقالة الشاذلي بن جديد .
و المقربون من محمد بوضياف يعترفون له بقوة العزيمة والاصرار والعناد أحيانا , و لقد تحدث بوضياف ذات يوم عن يومياته أثناء الثورة الجزائرية قائلا أنّه تحملّ المحن في كل أوقاته وظلّ يفر من رجال المخابرات الفرنسية , وأشار الى جوعه وحرمانه هو و اخوته في النضال . وكثيرا ما كان بوضياف يتنقّل خارج الجزائر لتنظيم شؤون الثورة الجزائرية وتعريف العالم بأهدافها , وما زال العالم شاهدا على غطرسة الاستعمار الفرنسي الذي قام بتحويل الطائرة التي كانت تقلّ بوضياف و بقية رفاقه رابح بيطاط وحسين أيت أحمد وأحمد بن بلة ومحمّد خيضر .
وعندما سئل محمد بوضياف هل كان على علم ببرج المراقبة وطاقم الطائرة التي كانت تقله من المغرب والى تونس وما دور المخبرين والمتعاونين مع السلطات الفرنسية في المغرب, أجاب قائلا : مسألة المراقبة لم نكن نعلم بها ومسألة السفر تقررت بسرعة , وأنا شخصيا كنت مريضا وقد خرجت من المستشفى قبل ثلاثة ايام من موعد السفر وغاية ما هناك بلغنا أنّ الحكومة الاشتراكية في ذلك الوقت حكومة ذي مولي اتصلت بالرئيس التونسي الحبيب بورقيبة والملك المغربي محمد الخامس وطلبت منهما الاجتماع في تونس لايجاد حل للمسألة الجزائرية وهذا سبب ذهابنا الى تونس , وقال بوضياف أنّه لم يكن في حوزتهم أسلحة عدا بن بلّة الذي كان يحمل معه رشاش ايطالى , والقرصنة الجوية التي تعرضنا اليها كانت بعد اقلاعنا من جزيرة مايوركا حيث تزودّت الطائرة بالوقود وبعد أن طارت أجبرت على التوجه الى الجزائر العاصمة وقد حاول الطيّار الاتصال ببرج المراقبة في المغرب لكن لا أحد ردّ عليه .
وعن تجربته النضالية قال بوضياف : خلال وجودنا في السجن في فرنسا كانت هناك بيننا وبين قيادة الثورة الجزائرية اتصالات محدودة , وكان أحمد بن بلة على اتصال بالعربي بن مهيدي أحد رموز الثورة الجزائرية في الداخل الجزائري , وكنت على صلة بكريم بلقاسم بينما كان عبان رمضان على اتصال بحسين أيت أحمد , وكانت هذه المراسلات توضح تطورات الثورة الجزائرية داخل الوطن وخارجه , وكانت بعض الأخبار تصلنا عن طريق المحامين وبعض الأشخاص , لكن كل ذلك لا قيمة له مادمنا في السجن وتحت الحراسة والمراقبة .
ففي السجن الفرنسي يقول محمد بوضياف كنّا على اتصال ببعضنا البعض , لكن دون عمل أو نشاط فعّال ما عدا مناقشة ومتابعة أحداث الثورة الجزائرية وماكان يجري داخل قيادتها من ايجابيات وسلبيات .
وفيما يخص المفاوضات الجزائرية –الفرنسية وخاصة الأخيرة منها جاءنا السيد بن يحي وبن طوبال وكريم بلقاسم لاطلاعنا على مجرياتها , وكان ردّي عليهم أننا بعيدون عن ميدان الأحداث السياسية والعسكرية ولا نعرف ما يجري خارج أسوار السجن , ولا نعرف شيئا عن امكانيات جبهة التحرير الوطني المادية والبشرية وقدرة الشعب الجزائري على الصمود , ولهذا يقول بوضياف كنت ألتزم الحذر دون العاطفة , بينما كان رأي باقي الاخوة وخاصة بن بلة القبول بانهاء الحرب حتى لو كانت بعض بنود اتفاقيّات ايفيان في غير صالح الجزائر مستقبلا .
وعن اتفاقيّات ايفيان التي أفضت الى استقلال الجزائر قال محمد بوضياف : أعترف لبن يحي –وهو أحد الجزائريين المفاوضين – بالذكاء وبعد النظر المستقبلي , وفي الأمور التقنية كانت تنقصنا الخبرة والثقافة ولم يكن الاخوة المفاوضون تقنيين في مجال المفاوضات , لذا نجد رؤساء وملوك الدول في رحلاتهم وزياراتهم العملية مصحوبين بالتقنيين والخبراء في الميادين المختصة لكل اتفاقية أو عقود فيما بين الدولتين أو الدول .
وعن علاقة الثورة الجزائرية بالعالم العربي قال محمد بوضياف : للأمانة التاريخية وحتى نكون منصفين في شهادتنا الثورية وعلى الشعب الجزائري أن يعرف ذلك , أنّ امكانات الثورة الجزائرية كانت ضعيفة في البداية من حيث انعدام الذخيرة الحربية والسلاح , كنّا نملك شعبا قابلا للتضحية والفداء لكن بدون سلاح , وكان اعتمادنا في البداية على أنفسنا وأمكانياتنا الضعيفة , ثمّ اتصلنا باخواننا في الدين والتاريخ والمصير المشترك , فكانت المساعدة الأولى للثورة الجزائرية بل للشعب الجزائري من العالم العربي , فالأخوة المصريون هم الأوائل في المساندة السياسية وتدبير الأسلحة من الدول العربية , وأول مساعدة مالية لشراء الأسلحة كانت من المملكة العربية السعودية .
وعندما ذهب جمال عبد الناصر الى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج تحدثّ مع المسؤولين السعوديين حول متطلبات الجهاد في الجزائر فخصصت المملكة مبلغ 100 مليون دولار لدعم المقاومة في المغرب العربي . فأخذ منها صالح بن يوسف وشوشان نصيبا لتغطية مصاريف المقاومة التونسية , والباقي كان من نصيب الثورة الجزائرية التي اشترت به أسلحة وذخائر عن طريق مصر , أما المقاومة المغربية فلم تأخذ شيئا من هذا المبلغ على حدّ علمي قال محمد بوضياف , كما كانت هناك مساعدات جمّة من نظم وشعوب العالم العربي كالعراق وسوريا وتونس والمغرب وليبيا ولبنان وغيرها , كما لعب العالم الاسلامي دورا كبيرا في مساعدة الثورة الجزائرية في المحافل الدولية .
وتؤكد الوثائق , وشهادات مفجريّ الثورة الجزائرية ومنهم محمد بوضياف أنّ العالم العربي والاسلامي ساند الثورة الجزائرية منذ تفجير الثورة والى الاستقلال . وكان العالم العربي والاسلامي يرى في الثورة الجزائرية ضد فرنسا والحلف الأطلسي ملحمة ومفخرة للعرب والمسلمين , وقد صارت الثورة الجزائرية قدوة لحركات التحرر في وقت لاحق ..


الاستقلال وبداية الكارثة :

كان محمد بوضياف يحلم بجزائر قويّة تعتمد على نفسها , وتعمل على ترجمة الأهداف الكبرى التي سطرتها ثورة التحرير المباركة بدماء مليون ونصف مليون من الشهداء , وكان بوضياف يأمل أن أن يتحد رفاق الأمس الذين ضحّوا بالغالي والنفيس من أجل تحرير الجزائر , الاّ أنّه شاهد بداية تمزق صفوف الثوّار وانحرافا عن خطّ الثورة الأصيلة , وعايش بنفسه ظهور المحاور والتكتلات التي كادت تتسبب في اندلاع حرب أهلية في الجزائر .
وكان متضايقا من تهميش بعض مفجري الثورة الجزائرية , وهاله أن يحتل ضباط فرنسا المواقع الأمامية على حساب الثوّار الحقيقيين .
وتعود قصّة التمزق الى ما قبل الاستقلال الجزائري بقليل عندما فرض بعض عقداء جيش التحرير الشعبي أراءهم على باقي الثوّار وسعوا لخلق تكتلات داخل صفوف الثورة الجزائرية , ويعترف رئيس الحكومة المؤقتة يوسف بن خدّة أنّ الخصام بين ثوّار الأمس قد بلغ الذروة , وهو لذلك فضّل الانسحاب من الساحة السياسية في وقت مبكّر .
ورغم الدعوة المتكررة لاعادة كتابة تاريخ الثورة الجزائرية بسلبياتها وايجابياتها , فانّ العديد في الجزائر ما زال يضع العراقيل في وجه هذه الدعوة , وربما يخشى هذا البعض من رفع الغطاء عن العديد من الذين خانوا الثورة الجزائرية وأسعفهم الحظ على تولّي مناصب حسّاسة في الجزائر .
وهذه المتناقضات بين ثوّار الأمس في عهد الاستقلال كادت تؤدي الى حرب أهلية , ولما تفاقم الصراع خرج الشعب الجزائري متظاهرا في الشوارع رافعا شعار : سبع سنوات تكفينا , في اشارة الى السنوات السبع التي قضّاها الشعب الجزائري في محاربة الاستعمار الفرنسي . وقد حسم الصراع لصالح قيادة الأركان والتي عينّت أحمد بن بلة على رأس الدولة الجزائرية الفتية . وقد اعترف بن بلة أنّه كان ضئيل الثقافة والخبرة ورغم ذلك فقد حاول مع رفاقه أن يبني معالم الدولة الفتية , وكان رفاقه يأخذون عليه استحواذه على ثمانية مناصب حسّاسة في وقت واحد , وهو الأمر الذي أثار حفيظة بعض رفاقه الذين فسروا تصرفه أنّه سلطوي وديكتاتوري .
و كان محمد بوضياف أحد الناس الذين هالهم تحريف الثورة الجزائرية عن مسارها وتغليب الأنا في معالجة الأمور بدل المصلحة الوطنية العليا , ولما كان أحمد بن بلة يخشى جانبه أمر باعتقاله وايداعه السجن ثمّ حكم عليه بالاعدام بتهمة التأمر على أمن الدولة .
وعن هذا الاعتقال قال محمد بوضياف : أنّ اعتقاله تمّ بطربقة بشعة حيث كان يتجول في الشارع وجرى اعتقاله ثمّ أبدى استغرابه لكون الشخص الذي امر باعتقاله البارحة من دعاة الديموقراطية اليوم .
وبعد أن تدخلت أطراف متنفذة ولاعتبارات تتعلق بماضي بوضياف التاريخي أطلق سراحه, ففضّل مغادرة الجزائر وبشكل نهائي , وأقام بشكل مؤقت في باريس حيث أسس حزبا معارضا اشتراكيّ التوجه , كما ألّف كتابه الشهير الجزائر الى أين !
وفي هذا الكتاب تحدث عن مصير الثورة الجزائرية والخلل الذي انتاب مسيرتها , وبعد فترة لم تدم طويلا قام بالغاء حزبه , وفضلّ الاقامة في القنيطرة في المغرب , وقد أقام مصنعا للأجر وظلّ يتابع الأحداث في الجزائر دون أن يدلي بأي تصريح أو تعليق لوسائل الاعلام.
وقد رفض محمد بوضياف جميع الدعوات التي وجهها اليه هواري بومدين بالعودة الى الجزائر غداة اطاحته بأحمد بن بلة في 19 حزيران – جوان –1965 , الاّ أنّه رفض كل هذه الدعوات محبذا المنفى على معايشة مشاهد اغتيال الثورة الجزائرية . وكان محمد بوضياف في المغرب محط رعاية العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني , كما كان محل احترام السكان المجاورين له .
وقد استطاع وهو في المغرب وكما قال هو شخصيا أن يحقق ثروة تكفل له ولأبنائه وزوجته العيش بكرامة , ولذلك لما عيّن على رأس المجلس الأعلى للدولة في مطلع سنة 1992 رفض أن يتقاضى راتبا ليؤكّد على نزاهته , وأنّه يختلف عن الأخرين الذين اختلسوا أموال الجزائر وصيرّوها بعد غنى وثراء فقيرة تستجدي العون من البنوك الدولية..


الجزائر من الأحاديّة والى التعدديّة


بعد خريف الغضب في 05 تشرين اول –نوفمبر – 1988 أضطّر الشاذلي بن جديد ولتجاوز الانتفاضة الشعبية العارمة وأثارها , أن يعلن وعلى مسمع ومرأى الشعب الجزائري عن مشروع للاصلاحات السياسية والاقتصادية , ودعا الشعب الجزائري لابداء رأيه في الدستور الجديد المعدّل الذي تصبح التعددية السياسية بموجبه متاحة وكذا التعددية الاعلامية . وتمّت الموافقة الشعبية على هذا الدستور في شهر شباط –فبراير – 1989 وكان ذلك ايذانا بميلاد التعددية السياسية والاعلامية , وشرع المعارضون التقليديون للنظام الجزائري بالعودة الى الجزائر بدءا بحسين أيت أحمد الذي كان يدير حزبه جبهة القوى الاشتراكية انطلاقا من أوروبا ,ثمّ تلاه أحمد بن بلة الذي كان مقيما في سويسرا وهناك كان يتزعم حزبه الحركة من أجل الديموقراطية .
وبعودة هؤلاء الرموز الذين كانوا وراء تفجير الثورة الجزائرية , تساءل بعض الجزائريين عن موعد عودة محمد بوضياف الى الجزائر !
لم ينتظر السائلون كثيرا اذ جاءهم الجواب من خلال تصريح لبوضياف لبرنامج لقاء الصحافة المتلفز والذي خصص للثورة الجزائرية , وقد سئل بوضياف لماذا لا يعود الى الجزائر ! فأجاب بأنّه لا يؤمن بهذه الديموقراطية ولا بالمشروع الديموقراطي المطروح في الجزائر والذي أملته ظروف معينة - ويقصد أحداث خريف الغضب في شهر أكتوبر –
وأنّه لما يشعر بجديّة التجربة سيعود الى الجزائر أو في حالة وجود ما من شأنه أن يجعل العودة الى الجزائر واجبا وطنيا …
وزاول بوضياف عمله التجاري في منفاه في مدينة القنيطرة في المغرب , حيث كان يتردد عليه بعض الجزائريين الباحثين وغيرهم ويسألونه عن قضايا وملفات تتعلق بالثورة الجزائرية , ونقل عنه بعض زائريه أنّه كان قلقا للغاية على مصير الجزائر , وكثيرا ماكان يسأل الجزائر الى أين ! وهو عنوان كتابه الذي ألفّه في بداية الستينيات أي بعد استقلال الجزائر بسنتين فقط .
و أزداد اهتماما بالجزائر عقب الاضراب الذي دعت اليه الجبهة الاسلامية للانقاذ في 25 أيّار –مايو – 1991 لالغاء القوانين التي سنتها حكومة مولود حمروش بغية تزوير الانتخابات . وقد أدى هذا الاضراب الى اندلاع صراع دموي بين الاسلاميين والسلطة الجزائرية والذي انتهى بتدخل الجيش وفرض حالة الحصار العسكري وحظر التجول واقالة حكومة مولود حمروش وتعيين وزير الخارجية في ذلك الوقت سيد أحمد غزالي على رأس الحكومة .
وجاء اعلان الحصار في الجزائر في 04 حزيران – يونيو – 1991 ليؤكد ماذهب اليه محمد بوضياف من أنّ الديموقراطية الجزائرية شكلية وتدخل في اطار التنفيس عن أحداث دامية كانت تعصف بالدولة الجزائرية .
و أثناء عودة محمد بوضياف الى الجزائر في أواسط كانون الثاني – يناير – 1992 اعتبرت أوساط سياسية جزائرية أنّ عودته في هذا الوقت تحديدا كانت غير مناسبة وغير لائقة و قالت هذه الأوساط أنّ بوضياف تنطبق عليه مقولة الرجل المناسب في الوقت غير المناسب ورأت هذه الأوساط أنّه لو تولىّ الحكم بعد خريف الغضب مباشرة لكان خيرا له وللجزائر .


امتدّت فترة الحصار العسكري أربعة أشهر أعلن الشاذلي بن جديد بعدها أنّ الانتخابات التشريعية ستجرى في 26 كانون الأول – ديسمبر –1991 .
استعدّت القوى السياسية لهذه الانتخابات وعاودت نشاطها السياسي بعد صمت استمرّ أربعة أشهر كان منطق الرصاص والصراع الدموي بين السلطة والاسلاميين هو سيّد الموقف .
وفي اللحظات الأخيرة قررت الجبهة الاسلامية للانقاذ بقيادة المهندس عبد القادر حشّاني المشاركة في الانتخابات .
وكان الشعب الجزائري متحمسا لهذه الانتخابات خصوصا وأنّ الصورة الرسمية التي قدمت له أنّه أصبح صاحب الارادة والقرار يزكّي من يشاء ويختار من يشاء بعد أحادية سياسية ستالينية شلّت طاقته وحتى قدرته على التفكير .
وبعد أيام قليلة من هذه الانتخابات أعلن وزير الداخلية الجنرال العربي بلخير عن النتائج التي جاءت كما يلي :
- 188 مقعدا للجبهة الاسلامية للانقاذ .
- 20 مقعدا للجبهة القوى الاشتراكية .
- 16 مقعدا للحزب جبهة التحرير الوطني .
وبمجرد شعور التيار البربري والفرانكفوني واليساري وتيار في المؤسسة العسكرية برجحان الكفة لصالح الجبهة الاسلامية للانقاذ قامت قيامة الجزائر في أعنف صراع , حيث كان أصحاب الاتجاهات المذكورة يرون أنّه من المستحيل السماح للانقاذ بتكريس مشروعها الاسلامي .
وهاهنا حسم بعض الجنرالات الموقف وذلك باقالة الشاذلي بن جديد وقلب الطاولة من أساسها , والعجيب أن بعض أقطاب التيار الفرانكفوني اعتبر الشعب الجزائري غبيا لا يحسن الاختيار وغير ناضج ديموقراطيا .
وقد أقسم بعض الناس في الجزائر أن لن يتوجهّ أبدا الى صناديق الاقتراع , ما دامت الدبابات تلغي اختيار الشعب بطلقة مدفع واحدة .
وقبل تنحيّة الشاذلي بن جديد , وقبل اجراء الانتخابات التشريعية بأسبوع واحد , قال الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد في ندوة صحفية أنّه سيذهب بالمشروع الديموقراطي الى أبعد حدّ , وسوف يحترم القوة السياسية التي تفرزها ارادة الشعب الجزائري مهما كان لون هذه القوة السياسية . كما أنّ القوى السياسية برمتها أعلنت أنّها ستحترم ارادة الشعب الجزائري و قواعد اللعبة الديموقراطية و سوف تقبل نتائج الانتخابات بروح رياضية , لكن كل هذه الالتزامات تبخرّت مع بروز النتائج الأولية وبدأت عقارب الساعة في الجزائر تتراجع الى الوراء , فسعيد سعدي زعيم التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية البربري والذي صرحّ قبل اجراء الانتخابات التشريعية أنّ حزبه سيحترم افرازات المشروع الديموقراطي هددّ بأنّه سيعلن الحرب على الأصولية , وأعلن أنّ حزبه لن يقبل بأن تتحول الجزائر الى ايران أو سودان ثانية .
والهاشمي شريف زعيم حزب الطليعة اليساري دعا الجيش الجزائري للتدخل وصرحّ أنّ حزبه يقبل بنظام بينوشي ولا يقبل بنظام اسلامي توليتاري رجعي ظلامي .
والفرانكفونيون واليساريون والبربر والعلمانيون وأصحاب كل المتناقضات الأيديولوجية أسسوا وفي يوم واحد جمعية انقاذ الجزائر , وقد منح وزير الداخلية في ذلك الوقت الجنرال العربي بلخير الاعتماد لهذه الجمعية في ظرف ربع ساعة , في حين تنتظر الجمعيات الأخرى مدّة ستة أشهر للحصول على الاعتماد . والجمعيات النسوية التحررية أقامت مهرجانات للمطالبة بحقوق المرأة كاملة وكل تلك الأمور كانت في الواقع رسائل سياسية من جهة , كما كانت مؤشرا على وجود قوة فاعلة تحرك كل هذه الصور من خلف الكواليس كمدخل لما هو أعظم !
العربي بلخير وزير الداخلية وأحد أكثر المتنفذين داخل المؤسسة العسكرية عقد اجتماعا موسعا صبيحة ظهور نتائج الانتخابات مع القيادات الأمنية استعدادا للمرحلة المقبلة .
سيد أحمد غزالي رئيس الوزراء والذي وعد الأمة الجزائرية عشية تعيينه على رأس الحكومة في 04 حزيران –يونيو –1991 بأنّه سيشرف على انتخابات حرّة ونزيهة ,أعلن أنّ ظنه
في الشعب الجزائري قد خاب لأنّه صوتّ لصالح الجبهة الاسلامية للانقاذ, وكان غزالي قد قدمّ ضمانات للمؤسسة العسكرية بأنّ القوة الثالثة العلمانية هي التي ستستحوذ على البرلمان .
جنرالات الجيش وعلى رأسهم وزير الدفاع الجنرال خالد نزار اجتمعوا ولمدة أسبوع كامل بالشاذلي بن جديد وطالبوه بالغاء الانتخابات التشريعية باعتبار أنّ صلاحياته تخوله ذلك , وقد أدّى رفض الشاذلي لطلبهم الى عزله حيث قدم استقالة رمزية أوضح فيها سبب الاستقالة , وقال أنه سيضحّي من أجل الجزائر , وحتى تكتمل اللعبة أمر بحل البرلمان الجزائري ,وقد أعلن رئيس البرلمان عبد العزيز بلخادم أنّه سمع بأمر حل المجلس الشعبي الوطني – البرلمان – من خلال التلفزيون الرسمي .
وقد توالت الأحداث بسرعة مذهلة لتنتهي الجزائر بلا رئاسة ولا مجلس شعبي منتخب ولا مجلس دستوري ولا بلديات منتخبة .
انّه الفراغ الدستور المركّب , انّه الشغور التام , انّه بداية انهيار الدولة ومؤسساتها .
فما المخرج !!!

شغور الدولة :

بعد انسحاب الشاذلي بن جديد وحلّ المجلس الشعبي الوطني وجدت الجزائر نفسها تعيش فراغا دستوريّا رهيبا .
والدستور الجزائري ينصّ على أنّه في حالة استقالة رئيس الجمهورية أو موته يتولىّ رئاسة الدولة رئيس المجلس الشعبي الوطني –البرلمان – وذلك لمدّة 45 يوما تجرى بعدها انتخابات رئاسية . الاّ أنّ المجلس الشعبي تمّ حلّه , وعبد العزيز بلخادم رئيس البرلمان والذي كان يفترض أن يتولى الرئاسة في المرحلة الانتقالية أعلن أنه سمع بقرار حلّ البرلمان في التلفزيون الجزائري .
و يبدو أنّ اللعبة كانت محبوكة بدقة لابقاء الجزائر في ظلّ هذا الوضع , وفي قبضة المؤسسة العسكرية , لأنّه وبعد انهيار كل المؤسسات بقيت المؤسسة العسكرية هي الوحيدة التي تدير مقاليد الأمور . ولمعالجة حالة الشغور اجتمع رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي ووزير الخارجية الأخضر الابراهيمي و وزير الداخلية العربي بلخير ووزير الدفاع الجنرال خالد نزار وكان الاجتماع في قصر الحكومة , و أطلق على هذه النواة اسم اللجنة الاستشارية , وللتذكير فانّ الهيئة الاستشارية دستوريّا لا يحق لها اتخاذ القرار , ووظيفتها الدستورية تكمن في اعطاء المشورة لرئيس الجمهورية في مسائل الأمن القومي , ودستوريا يشترط أن تلتئم هذه اللجنة الدستورية بحضور رئيس الجمهورية وهو في هذه الحالة الشاذلي بن جديد الذي أقيل من منصبه , وقد تجاوزت هذه اللجنة كل هذه الاعتبارات الدستورية بحجة أنّ الوضع الأمني لا يسمح بفلسفة الأمور والوقوف عند حرفية النصوص الدستورية .
وقد خرجت اللجنة المذكورة بعد اجتماعها بفكرة الرئاسة الجماعية وهي ما عرف في الجزائر باسم المجلس الأعلى للدولة , ويتكون هذا المجلس من خمسة أعضاء وهم : محمد بوضياف رئيسا وخالد نزار عضوا وعلي كافي عضوا وعلي هارون عضوا وتيجاني هدّام عضوا , وبمجرد الاعلان عن هذا المجلس اعترضت عليه القوى السياسية باعتباره غير شرعي وغير دستوري .
وكان البعض في الجزائر يتوقع أن يتقدم رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي لرئاسة الدولة خصوصا وأنّ بعض المتنفذين في الجيش أوحوا له بذلك , الاّ أنّ الاضطرابات الجماهيرية والاحتجاجات المتواصلة على قرار الغاء الانتخابات التشريعية جعلت صنّاع القرار في المؤسسة العسكرية يستنجدون بشخصية من وزن محمد بوضياف لتغليب شرعيته التاريخية على الشرعية الشعبية الملغاة بقرار علوي .
وكان الجنرال خالد نزار قد أجرى اتصالات بمحمد بوضياف ودعاه الى الجزائر لمدة أربع وعشرين ساعة , وتمّ تكليف علي هارون صديقه القديم بالتوجه اليه حيث يقيم في مدينة القنيطرة بالمغرب , وأوهم علي هارون بوضياف بأنّ الجزائر على وشك الدخول في حرب أهلية يحترق فيها اليابس والأخضر , ومما قاله محمد بوضياف لعلي هارون أنّ السلطة عليها أن تستأنف الانتخابات وتواصل الدورة الثانية من هذه الانتخابات وعليها أن تقبل بنتائج الانتخابات , وحاول هارون اقناعه بأنّ ذلك غير ممكن وأن المشروع الأصولي خطر على الجزائر .
وعندها أمهل بوضياف على هارون فترة وجيزة للتفكير , وبعد مداخلات حثيثة من الجنرال خالد نزار وزير الدفاع قرر أن يعود الى الجزائر رئيسا بعد أن غادرها منفيا .
وبعد عودته الى الجزائر التقى محمد بوضياف وزير الدفاع خالد نزار , حيث سأله بوضياف عن السبب الذي يحول دون استلام الجيش السلطة بشكل مباشر , وردّ عليه خالد نزار بقوله أنّ الدستور يحصر مهمة المؤسسة العسكرية في حماية الدولة ومؤسساتها , والواقع أن المؤسسة العسكرية وصنّاع القرار فيها كانوا على الدوام يحبذون توجيه دفّة الحكم من وراء الستار .
وبعد أن استمع الى وزير الدفاع كل ما أراد أن يقوله , غادر الجزائر عائدا الى المغرب لترتيب وضعه , وليعود الى الجزائر وسط ضجة اعلامية بدأ الرسميون في الجزائر يمهدون لها. وفي القنيطرة في المغرب حاول أهله عن ثنيه لقبول دعوة خالد نزار لتوليّ الرئاسة لأنّ ذلك ينطوي على مخاطر جمّة خصوصا وأنّ التركة ثقيلة ولا يمكن لبوضياف تطويقها أو وضع حدّ للدوامة التي تعصف بالجزائر منذ خريف الغضب سنة 1988 .


عودة محمد بوضياف :

في 15 كانون الثاني – يناير – 1992 وفي الساعة الخامسة مساءا وصل محمد بوضياف الى مطار هواري بومدين في الجزائر العاصمة بعد غياب طويل دام 27 سنة .
وكان في استقباله لدى وصوله وزير الدفاع الجنرال خالد نزار, ووزير الداخلية الجنرال العربي بلخير و رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي , و بقية أعضاء المجلس الأعلى للدولة علي كافي , علي هارون تيجاني هدّام وغيرهم من الرسميين الجزائريين .
توجّه بوضياف الى باحة المطار حيث قال لوسائل الاعلام أنّه جاء الى الجزائر لانقاذها .
ومن المطار توجه مباشرة الى قصر الجمهورية , وأبلغ الشعب الجزائري أنّ محمد بوضياف سيلقي خطابا على الأمة في الساعة الثامنة مساءا . وكانت الأنظار كل الأنظار مشدودة اليه ,ومما جاء في الخطاب أنّه سيعمل على الغاء الفساد والرشوة ومحاربة أهل الفساد في النظام واحقاق العدالة الاجتماعية , ودعا القوى السياسية الى التوحّد لمواجهة التحديّات الجديدة , وطلب من الشعب الجزائري مساعدته في أداء مهامه , وقال : هذه يدي أمدّها الى الجميع بدون استثناء .
أماّ الجبهة الاسلامية للانقاذ التي صودر انتصارها في الانتخابات التشريعية , فقد أبرقت الى محمد بوضياف محذرّة أياه من مغبّة تلويث سمعته التاريخية ودعته لعدم الوقوع فريسة في أيدي ما أسمته الجبهة الاسلامية للانقاذ بالطغمة الحاكمة التي تريد استغلال وتوظيف سمعة محمد بوضياف ورصيده الثوري . وأصرّت الجبهة الاسلامية للانقاذ في مطالبتها السياسية على ضرورة العودة الى المسار الانتخابي وقد قابلت السلطة الجزائرية هذا الطلب بالمجابهة العنيفة .
وعاشت الجزائر عندها أحلك أيامها , فرضت عندها حالة الطوارئ , وقام وزير الداخلية الجنرال العربي بلخير بحلّ الجبهة الاسلامية للانقاذ , و تمّ اعتقال كافة القيادات الانقاذية , والعناصر المتعاطفة مع الجبهة الاسلامية للانقاذ ولأنّ السجون لا تسع عشرات الألاف من الناس فقد تمّ اقامة معتقلات في الصحراء الجزائرية .
وفي 07 شباط – فبراير – 1992 شهدت العديد من المدن الجزائرية انتفاضات عارمة جوبهت بالدبابات وحتى بالصواريخ كما وقع في مدينة باتنة الجزائرية .
وظلّ محمد بوضياف في كل خطبه يتهجم على الجبهة الاسلامية للانقاذ , وأحيانا كان يلجأ الى السخرية والاستهزاء من جبهة الانقاذ الاسلامية , كما شنّ هجوما على حزب جبهة التحرير الوطني وأمينه العام عبد الحميد مهري الذي كان يعترض على الغاء الانتخابات التشريعية , وكان يطالب بردّ الاعتبار للجبهة الاسلامية للانقاذ وكل هذه المواقف لم ترق للسلطة التي وضعت خطة للانقلاب على عبد الحميد مهري ومن داخل جبهة التحرير الوطني ونجحت الخطة في وقت لاحق !
وفي خضّم الفراغ السياسي القاتل الذي شهدته الجزائر بعد الغاء المسار الانتخابي دعا محمد بوضياف الى انشاء التجمع الوطني الديموقراطي الذي أراده الرسميون تيارا ثالثا بديلا عن الجبهةالاسلامية للانقاذ وحزب جبهة التحرير الوطني ورغم أنّ هذا التجمع كان شعاره الجزائر أولا وقبل كل شيئ الاّ أنّ هذا الشعار الجميل والمنمّق لم يثر حماس كثيرين في الجزائر الذين كانوا يرون أنّ الجزائر تعيش حربا شرسة بين شرعية الانقلاب وشرعية الصناديق المقلوبة !
فالمؤسسة العسكرية كانت مصرة على ابقاء الوضع على حاله وعدم الرجوع الى المسار الانتخابي مهما كلفّ الأمر , والجبهة الاسلامية للانقاذ كانت مصرة على التغيير الجذري للنظام وتطهير الجزائر من النظام الذي جرّها الى الهاوية .


مشكلة الشرعية في الجزائر :

مشكلة الشرعية في الجزائر مطروحة بقوة مع بداية الاستقلال الجزائري , ولعلّ عدم ايجاد حل لها هو السبب وراء كل الكوارث السياسية التي حلّت بالجزائر , فمنذ ثلاثين سنة والجزائر تنتقل من محطة الى محطة أخرى بشرعيات متعددة.
فعقب استقلال الجزائر في 05 تموز –يوليو – 1962 حسم الجيش الجزائري الصراع الذي كان دائرا بين ثوّار الأمس لصالحه , وأسند منصب رئاسة الدولة لأحمد بن بلة وكانت مرجعية هذه الدولة وسندها الشرعية الثورية , غير أنّ هذه الشرعية لم تعصم رفاق الثورة من التقاتل والتصفيات الجسديّة , وباسم هذه الشرعية سجن محمد بوضياف في 1963 , وقتل العقيد شعباني ومحمد خيضر وكريم بلقاسم , وباسم الشرعية الثورية أطاح هواري بومدين بحكم الرئيس أحمد بن بلة في 19 حزيران – يونيو – 1965 , وكان قادة الانقلاب يسمون ما حصل تصحيحا ثوريا , وبشرعية هذا التصحيح ظلّ هواري بومدين يحكم الى أن وافته المنيّة في سنة 1978 .
وبعد وفاة هواري بومدين , تمّ ايصال الشاذلي بن جديد الى الحكم من قبل المؤسسة العسكرية وجهاز الاستخبارات العسكرية الذي كان على رأسه أنذاك قاصدي مرباح .
وعلى الرغم من أنّ الشاذلي بن جديد كان يحرص على اجراء انتخابات رئاسية الاّ أنّه كان المرشح الوحيد والفائز الوحيد لثلاث فترات متتالية .
ومثلما دفعت المؤسسة العسكرية الشاذلي بن جديد الى الواجهة فقد أقالته في 11 كانون الثاني – يناير – 1192 . وبتنحية الشاذلي بن جديد دخلت الجزائر مجددا مشكلة الشرعية , وظلّ الصراع قائما بين الجبهة الاسلامية للانقاذ والسلطة الجزائرية وكل منهما يدعّي أنّه صاحب الشرعية المفقودة .


عاد محمد بوضياف الى الجزائر في وقت كانت فيه الجزائر تلتهب وتتهاوى , وسط صراع دموي ومرير بين المؤسسة العسكرية القوة المنظمة الوحيدة بتعبير أحد الصحافيين الجزائريين , والجبهة الاسلامية للانقاذ القوة المنظمة الجديدة .
وقد أدى هذا الصراع الى تفجير الموقف الأمني ودخلت قطاعات واسعة من الناس في مجابهات مع القوى الأمنية والجيش الجزائري , ولم ينحصر الزلزال الأمني في ولاية واحدة بل باتت كل الولايات شرقا وغربا وشمالا وجنوبا عرضة لهذه الاضطرابات و السبب يعود الى أنّ المنضمّين الى الجبهة الاسلامية للانقاذ جاوز عددهم ثلاثة ملايين وقد هالهم جميعا أن يتم الغاء الانتخابات التشريعية التي فازوا فيها , كما هالهم أن تحلّ الجبهة الاسلامية للانقاذ , وأن يزجّ بقادتها في المعتقلات .
ووسط هذه الأجواء بدأ عهد محمد بوضياف الذي بات دون أن يشعر طرفا في اللعبة وخصوصا عندما قام لدى استلامه مهامه بزيارة الى وزارة الدفاع حيث استقبله هناك وزير الدفاع خالد نزار وجنرالات الجيش , وقد أعتبرت هذه الزيارة خطأ بروتوكوليا لأن موجهّي المؤسسة العسكرية هم الذين ينبغي أن يتوجهوا الى قصر الجمهورية لتقديم الولاء لرئيس الدولة خصوصا وأنّ الدستور الجزائري ينص على أنّ صلاحيات رئيس الجمهورية أكثر سعة من صلاحيات المؤسسة العسكرية , لكن يبدو أنّ ذلك على القراطيس فقط !
وأقحم محمد بوضياف في اللعبة , وبعد أن كان يحمل شعار انقاذ الجزائر , بات يتهجم على الأصولية والظلامية وضرورة انقاذ الجزائر من السرطان الانقاذي والأصولي , وكان يعتبر أنّ الغاء الانتخابات التشريعية كان ضرورة وحتمية علما أنّه كان يرى في ذلك مصادرة للديموقراطية .
أمّا الشارع الجزائري الذي كان يرى في بوضياف شخصية ثورية نزيهة فقد بدأ يغير رأيه فيه خصوصا وأنّ السلطة أيّ سلطة كفيلة بتشويه العبّاد والزهاّد فمابالك بالناس العاديين , وبات الشارع الجزائري يردد أنّ بوضياف عاد لانقاذ مجموعة من العسكريين المتورطين في تفجير الفتنة الجزائرية وليس لانقاذ الجزائر , ويبدو أن هناك من أوصل هذه الانطباعات الى محمد بوضياف الذي بدأ يكتشف سلسلة من الحقائق المذهلة وهو داخل دوائر القرار كما بدأ يكتشف المعادلات الصعبة في تركيبة النظام الجزائري كما أسرّ بذلك الى نجله , وهذا ما جعله في وقت لاحق يتهجم على رجالات النظام الفاسدين والمرتشين ومن أسماهم محمد بوضياف بمختلسي أموال الشعب الجزائري , وعندها علقّ الشارع الجزائري مجددا بأنّ بوضياف لن يسلم !
ولمّا صعدّ من تهجمه على المافيا كما سماها المتحكمة في شرايين الدولة الجزائرية بدأ يستشعر بدائرة النار تدنو منه , وقد نقل مخاوفه هذه الى صديقه محمد يزيد مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجزائر وأحد روّاد الثورة الجزائرية , وقد أعلن محمد يزيد عقب اغتيال محمد بوضياف أنّ المافيا الجزائرية هي التي قتلت بوضياف وأنّها تتمتع بنفوذ واسع داخل النظام الجزائري .


عندما عاد محمد بوضياف الى الجزائر التفّت حوله شخصيات جزائرية تنتمي الى ثالوث الفرانكفونية واليسار والبريرية , وعينّ بعض الجزائريين الذين يحملون الجنسية الفرنسية كمستشارين له , وعندما أقدم على تأسيس المجلس الاستشاري البديل للبرلمان الملغى كان كل أعضائه من التيار الفرانكفوني واليساري والبربري وأبرزهم رضا مالك الذي أصبح لاحقا وبعد اغتيال محمد بوضياف عضوا في المجلس الأعلى للدولة .
ويعتبر رضا مالك الذي كان رئيسا للمجلس الاستشاري من أبرز منظري حزب فرنسا في الجزائر ومن الدعاة الى بعث تجربة كمال أتاتورك في الجزائر .
وكان من أعضاء هذا المجلس الاستشاري مصطفى الأعرج الذي كتب سلسلة من المقالات قبل وبعد فوز الاسلاميين في الانتخابات التشريعية الملغاة أعتبر فيها الدين الاسلامي أفيون للشعب الجزائري , وأعتبر أنّ اللغة العربية لغة ميتة والأفضل للشعب الجزائري أن يطرحها جانبا لأنّ هذه اللغة هي في حكم اللغات المنقرضة .
وقد ردّ على مقالاته الأستاذ عثمان سعدي - رئيس جمعية الدفاع عن اللغة العربية في الجزائر وسفير الجزائر سابقا في العاصمة العراقية بغداد – على صفحات جريدة الشعب الناطقة باللغة العربية .
وقد لعبت البطانة الفرانكفونية واليسارية والبربرية دورا كبيرا في تأخير المصالحة كما الحل السياسي في الجزائر , وكلما كانت تلوح في الأفق بادرة للحلحلة السلمية كانت هذه البطانة تفجر الموقف وتصعّد الأزمة وبهذا الشكل بقيت الجزائر تراوح مكانها .
وكان المجلس الاستشاري يضطلع بمهام البرلمان حيث كان يسنّ القوانين , كما كان يوافق على القوانين التي يشرعّها المجلس الأعلى للدولة .
ولما دعا بوضياف الى تشكيل التجمع الوطني الديموقراطي لملء الشغور السياسي الرهيب عقب تجميد التعددية السياسية الحقيقية والجادة , بادر اليسار الجزائري وعلى رأسه الهاشمي شريف والحركة البربرية وعلى رأسها سعيد سعدي بالاستحواذ على توجهات التجمع , وكان بوضياف من خلال مدير ديوانه رشيد كريم يعمل على مد جسور مع حزب الطليعة الاشتراكية اليساري بزعامة الهاشمي الشريف و التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية بزعامة سعيد سعدي .
وكان البعض في دوائر النظام يروّج للفكرة الثالثة أو الاتجاه الثالث بين التيار الاسلامي الذي تمثله الجبهة الاسلامية للانقاذ والتيار الوطني الذي تمثله جبهة التحرير الوطني , وكان رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي أحد الدعاة الى هذا الطرح , وكان قوام الاتجاه الثالث الفرانكوفونيين والتغربيين الذين لفظتهم صناديق الاقتراع وحاولوا التكتل لاسترجاع زمام المبادرة , والمفارقة أنّ سيد حمد غزالي كان يعتبر هذا الاتجاه ديموقراطيا وهو أول من طالب بمصادرة هذه الديموقراطية عندما تعلقّ الأمر بفوز الاسلاميين ,وهذا الاتجاه هوالذي طالب أيضا بزجّ الجيش في المعركة السياسية والغاء المسار الانتخابي .


بعد اقالة مولود حمروش أثناء أحداث حزيران –يونيو –سنة 1991 عين سيد أحمد غزالي على رأس الحكومة , ومنذ تعيينه على رأس الحكومة عمل على تصفية حسابه مع حزب جبهة التحرير الوطني التي همشته الى أبعد الحدود , وعمل على تصفية الجبهة الاسلامية للانقاذ , وكان ذلك في الواقع استجابة لأراء بعض الصقور في المؤسسة العسكرية الذين كان لديهم حساسة من الوطنية العروبية ومن الاسلام السياسي .
وفي كل مؤتمراته الصحفية كان يتهجم على التيار الوطني والتيار الاسلامي , وبموازاة هذا التهجم بدأ يعدّ لتشكيل قوة ثالثة قوامها المجتمع المدني ذو الميول الفرانكفونيّة .
و أستغلّ سيد أحمد غزالي نقمة محمد بوضياف على حزب جبهة التحرير الوطني الذي همشّه وأقصاه من المشهد السياسي الجزائري بشكل كامل على مدى ثلاثة عقود , وتمكنّ
بوضياف – غزالي من تضييق الخناق على حزب جبهة التحرير الوطني وذلك من خلال سنّ قوانين تجرّد جبهة التحرير الوطني من المقرات والممتلكات التابعة لها , كما سحبت منها صلاحية الاشراف على جريدتي الشعب والمجاهد .
و قد أكتشف محمد بوضياف أنّه أصبح بيدقا في يد هذه التيارات والتكتلات ,وأعلن ذات يوم أنّ الجزائر تسير بناءا على أوامر تصل الى الجزائر عن طريق الفاكس من قصر الاليزي في باريس !
وبدأ بوضياف يكتشف بعض المتناقضات حيث أخبر نجله ناصر بوضياف بأنّ الوضع معقّد للغاية في الجزائر , وكان ناصر بوضياف يقوم بزيارة أبيه في الجزائر قادما من المغرب حيث بقي هناك يواصل الاشراف على مصنع الأجر الذي كان أبوه يديره قبل عودته الى الجزائر . وغير المتاعب السياسية والأمنية التي صادفها محمد بوضياف , فقد وجد وضعا اقتصاديّا مزريّا ومديونية بلغت 26 مليار دولار عدا الديون العسكرية , كما فوجئ بوضياف بكساد الزراعة و المؤسسات الانتاجية العاطلة والبطالة المتفاقمة واختلاسات بالجملة الأمر الذي جعل مهمة صندوق النقد الدولي في فرض مزيد من الشروط على الجزائر سهلة للغاية .
و المشروع الوحيد الذي كان بحوزة رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي هو عرض أبار حاسي مسعود النفطية للبيع .
ووسط عجز كامل في مواجهة التحديات , وعندما كانت الدماء تراق في كل أزقّة الجزائر ومساجدها وأحياءها و ساحاتها , طرح بوضياف مشروع التجمع الوطني الديموقراطي الذي كان ناقصا في أطروحته , وكل ما طرحه محمد بوضياف في هذا السياق هو ضرورة أن يعيش الجزائريون من أجل الجزائر وأن يتحدّوا فيما بينهم لتجاوز الأزمات الخانقة التي تعصف بالجزائر . وكان شعار هذا التجمع الجزائر أولا وقبل كل شيئ , وقد ظلّ هذا التجمع يراوح مكانه بسبب عدم اقدام الناس على الانتساب اليه .
ومن جهتها الأحزاب الثقيلة التي فازت في الانتخابات التشريعية أعتبرت التجمع الوطني بمثابة العودة الى الأحادية السياسية , وأنّه مناورة جديدة من السلطة لتجميد التعددية السياسية والغاء المسار الديموقراطي , وقد أعتبرت الجبهة الاسلامية للانقاذ في بياناتها أنّ هذا التجمع يعّد لاغيا وأنه يندرج في سياق مصادرة اختيار الشعب الجزائري , أما عبد الحميد مهري الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني فقد أعتبر أنّ تجمع بوضياف مشروع لم يتضح بعد كامل الوضوح ولم يتبلور بعد بالرغم من بيانات وتصريحات حوله وأعتبر أنّ التعددية في الوقت الراهن ضروريّة وأنّها الضمان الوحيد للانتقال من نظام الحزب الواحد الى النظام الديموقراطي التعددي , أمّا جبهة القوى الاشتراكية بقيادة حسين أية أحمد فكانت ترى أنّ المجلس الأعلى للدولة ومعه التجمع الوطني لا شرعية لهما , وهما تكريس للأحادية السياسية التي رسمت معالم النظام السياسي في الجزائر منذ الاستقلال .
ورفضت بقية الأحزاب الوطنية فكرة التجمع الوطني باعتباره محاولة من السلطة لبناء قاعدة جماهيرية لها , وكان بوضياف ينوي اتخاذ خطوات على غاية من الخطورة ضدّ هذه الأحزاب في 05 تموز – يوليو – 1992 الاّ أنّ اغتياله في دار الثقافة في مدينة عنّابة حال دون تنفيذ العديد من الطروحات .
وكانت السلطة قبل هذا جردّت العديد من الأحزاب من مقراتها وصادرت جرائدها , وفتح محمد بوضياف عليه كل الجبهات ودفعة واحدة كالاعلام والقضاء والأصولية والتيارات السياسية , وحتى المؤسسة العسكرية دخل معها في خصام قبل اغتياله مباشرة وخصوصا عندما قابل العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني في الرباط لدى زيارة خاصة قام بها الى المغرب ووعده بحل قضية الصحراء الغربية بطريقة ترضي المغرب .
وفي كل خطبه ظلّ بوضياف يدعو الى الانضمام الى تجمعه الذي بقي مجرد فكرة حتى بعد اغتياله , كما كان في خطبه يركّز على قوة السلطة الجزائرية وضرورة استرجاع هيبة الدولة المفقودة , هذا بالرغم من أنّ صناع القرار الفعليين في الجزائر يعرفون حق المعرفة أن الجزائر أمام خيارين فامّا المصالحة الوطنية الشاملة , وامّا الزلزال الهائل الذي لا يبقي ولا يذر شيئا من أمر الجزائر , وكان بوضياف قبل اغتياله يدرك أنّ الحل السياسي يكمن في المصالحة الشاملة كما تحدث في بعض خطبه عن عودة وشيكة الى المسار الديموقراطي ويبدو أنّ بوضياف كان يغرّد خارج السرب !
ليس هذا فحسب بل انّ محمد بوضياف كررّ مرارا مصطلح المافيا التي تمسك بمقاليد المال والنفوذ في الجزائر , وكان بوضياف يحملّها أسباب تردي الأوضاع في مجملها في الجزائر .
وأخذ محمد بوضياف يصعّد من هجومه على المافيا المتنفذة في الجزائر بقوله أنّها هي التي نخرت الاقتصاد وفقرّت الشعب وأختلست ملايير الدولارات , وكان في خطبه يطالب الشعب الجزائري بتطهير السلطة من الفيروسات التي نبتت في شرايين الحكم ودوائر القرار.
ولم يجرؤ بوضياف على تسمية عناصر هذه المافيا ولا المناصب التي يشغلها المنتسبون لهذه المجموعة , علما أن الشباب العاطل عن العمل يرددّ في المقاهي أسماء بعض من هذه المافيا والأرصدة التي بحوزتهم في بنوك العواصم الغربية , وكان الشارع الجزائري يتصوّر في البداية أن بوضياف يناور لامتصاص النقمة الشعبية , وبعد أن بدأ في تنفيذ مخططه لتصفية هذه المافيا علقّ الشارع الجزائري بقوله : أيّ مستقبل ينتظر بوضياف!!
أمر محمد بوضياف بايداع الجنرال مصطفى بلوصيف السجن العسكري في مدينة البليدة بسبب اختلاسه أموال طائلة من وزارة الدفاع , وقيل عندها أنّ المسألة لا تعدو عن كونها صراعا خفيّا بين الصقور والحمائم داخل المؤسسة العسكرية .
وقدمّ بوضياف 400 ملفّا لأحد الجنرالات تتعلق بمختلسي ملايير الدولارات والذين سلم جميعهم أما بوضياف فكان مصيره الاغتيال . وكان لسان حال المافيا أنّ بوضياف اذا أراد أن يتعشّى بنا سنتغذى به , واذا أراد الشهادة في عهد الاستعمار سنمنحه اياّها في عهد الاستقلال !!


المافيا الجزائرية :

بات مألوفا في الجزائر أن يتحدث صنّاع القرار عن المافيا الجزائرية التي استطاعت أن تقيم تحالفا قويّا بين المال والنفوذ , بل أنّ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي خلف اليامين زروال ذهب الى أبعد من ذلك عندما قال أنّ هناك اثنى عشرة شخصا يتحكمون في الاقتصاد الجزائري وهم من أصحاب النفوذ والسلطة .
وظهور مجموعة من الوصوليين والمختلسين والبراغماتيين الذين استغلوا مواقعهم ومناصبهم على الساحة السياسية الجزائرية ليس وليد العشرية السوداء أو العهد الشاذلي كما يدعّي سياسيون جزائريون , بل أن هذه المعضلة تعود الى ماقبل الاستقلال الجزائري , ويذهب العقيد منجلي وهو أحد روّاد الثورة الجزائرية الى القول بأنّ بعض السياسيين الجزائريين الذين كانوا يعملون خارج الجزائر أثناء الثورة الجزائرية استولوا على جزء كبير من أموال جبهة التحرير الوطني , وقد استغلّ هؤلاء في وقت لاحق الامتيازات والتسهيلات التي كان يتمتع بها رجال النظام في عهد الاستقلال فعملوا على تنمية هذه الأموال , كما كانوا يتقاضون عمولات ورشاوى بالجملة من الشركات الأجنبية .
وحتى أحمد بن بلة لم يسلم من الاتهام بأنّه أستولى على ما كان في صناديق التضامن الوطني , وهي عبارة عن تبرعات بالأموال والحليّ قدمها الشعب الجزائري برمته للحكومة الفتية حتى تتمكن من اعادة البناء أثناء الاستقلال , وقد ردّ أحمد بن بلة على هذا الاتهام بقوله أنّه حوّل هذه الصناديق الى وزارة الدفاع ولايدري مصيرها بعد ذلك .
كما اتهمّ زيتوني وهو أحد السياسيين الجزائريين بن بلة بتحويل أموال تبرعت بها الصين للجزائر الى حساب خاص به .
وكانت جريدة المنقذ لسان حال الجبهة الاسلامية للانقاذ قد نشرت ملفا كاملا كان قد أعدّه مجلس المحاسبة الرسمي المشرف على ملفات الاختلاسات , وقد أثار الملف المنشور زوبعة من ردود الفعل , وكانت شخصية سياسية هي التي سربت الملف الى جريدة المنقذ,
وفي الملف اتهامات تطاول كبار المسؤولين الجزائريين وخصوصا بعض الذين كانوا يشرفون على قطاع الطاقة الجزائرية , كما أنّ أصابع الاتهام وجهت الى رئيس الحكومة في ذلك الوقت سيد أحمد غزالي الذي كان مديرا عاما لشركة سوناطراك المشرفة على تسويق النفط والغاز الجزائريين , وقيل أنّه تلقى عمولة كبيرة من شركة البازو التى كانت تربطها عقود طويلة المدى مع شركة سوناطراك .
وفي ذلك الوقت كان حزب جبهة التحرير الوطني هو الحزب الحاكم المسيطر على مفاصل الدولة , وكان الانضمام الى هذا الحزب والتسلق الى مراكزه العليا يعني مجدا غير منقطع , باعتبار أنّ المسؤولين في جبهة التحرير الوطني كانوا يمنحون كل التسهيلات في الحصول على شقق وسيارات وفيلات وعملات صعبة .
وقد وضعت الحكومة في عهد الشاذلي بن جديد قانونا يقضي بالتخلي عن أملاك الدولة , فأشترى رجال الدولة ممتلكات دولتهم بأبخس الأثمان , وعلى سبيل المثال فقد اشترى البعض الفيلات التي كانوا يسكنونها بأسعار رمزية وأعادوا بيعها بملايير السنيمات الجزائرية , وأنّ أحد الوزراء اشترى الفيلا التي كان يقطنها من الدولة بعشرة ملايين سنتيم وهو سعر رمزي وباعها بملياريي سنتيم ,وكذلك الوضع بالنسبة للأراضي الزراعية الواسعة . وأستغلّت شخصيات سياسية مناصبها الراقية وجمعت ثروات مذهلة . وقد استشرى الفساد في كل مفاصل الدولة الجزائرية , فعلى مستوى البلديات كان رؤساء البلدية يبيعون أراضي الدولة الجزائرية للشخصيات السياسية المتنفذة بأثمان رمزية .
وعندما نجحت الجبهة الاسلامية للانقاذ في الانتخابات البلدية , عقد بعض رؤساء البلديات التابعة لجبهة الانقاذ الاسلامية ندوة صحفية في الجزائر العاصمة وكشفوا ملفات ثقيلة تطاول كبار المسؤولين الجزائريين الذين حصلوا على أراضي شاسعة وبأسعار رمزية, وكان هناك ملف يطاول رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد الذي اشترى قطعة أرض كبيرة مساحتها ألاف الهكتارات بمائة مليون سنتيم فقط وهو ثمن بخس للغاية , وكان الولاة رمزا للفساد في الجزائر فقد كان العديد منهم متواطئا مع رجال النظام والمؤسسة العسكرية , وكان بعض الولاة وعندما تنتهي الشركات المعنية من تشييد عمارة لكي يسكن فيها المواطنون المقهورون , يقومون بتوزيع العقود على رجال النفوذ و المكانة في الدولة , وبات الكبار يملكون عشرات الشقق فيما المواطنون الجزائريون يتناوبون على النوم في بيوتهم .
وكانت زوجات بعض كبار المسؤولين يتوجهن صباحا الى باريس للتبضع ويرجعن مساءا ومعهن أخر الصيحات و الصرعات , وكانت الحاجيات المجلوبة لا تخضع للتفتيش من قبل رجال الجمارك , ويذكر عمّال الميناء الجزائري كيف كانت صناديق مغلقة تصل الى بعض المتنفذين ولا يقدر أحد أن يمدّ يده اليها بالتفتيش .
وكان بعض المدراء الكبار يتقاضون عمولات كبيرة من شركات فرنسية وغيرها مقابل احتكار هذه الشركات للسوق الجزائرية لجهة توفير ما تحتاجه الجزائر من حاجيات غذائية وغيرها . وكانت النتيجة ظهور طبقة رأسمالية متوحشة معادلتها السلطة هي المال والمال هو السلطة , وأصبح في الجزائر نتيجة ذلك ستة ألاف ملياردير , الذين كان لهم دور كبير في تسيير شؤون الحكم , وقد سمع الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد عشية اقالته
كلاما من أحد المتنفذين مفاده : أنت هربت أموالك الى الخارج وتريد أن تبقينا هاهنا لمواجهة المحاكمات الشعبية !!


الرجل الذي حكم 166 يوما :

166 يوما من تولّي محمد بوضياف رئاسة المجلس الأعلى للدولة لم تساهم ولو بقسط قليل في حلّ الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي كانت تفتك بالجزائر , فالوضع الأمني ازداد تدهورا وتحولت الفوهة الأمنية الى براكين حقيقية أقضّت مضجع الجزائر , وبات القتل والقتل المضاد هو السمة الغالبة , ولم يقدر رصيد بوضياف التاريخي أن يطفئ لهب الفتنة الذي امتدّ الى محمد بوضياف نفسه ليجهز عليه بطريقة لا نراها الاّ في الأفلام الأمريكية المحكمة الاخراج .
حاول محمد بوضياف أن يجندّ الجزائريين حول مشروع وطني موحّد , فوجد نفسيّة جزائرية يائسة من النظام ورجالاته , حاول بعث الاقتصاد فأكتشف أنّه بيد مجموعة من المافيا . وطالب بصلاحيات واسعة من المؤسسة العسكرية فرسمت له الخطوط الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها , وأقحم في لعبة لم يساهم في رسم معالمها .
166 يوما لم يحقق فيها محمد بوضياف شيئا , وعلى حدّ تعبير أحمد بن بلة فانّ الرئيس محمد بوضياف تجاوزه الزمن الجزائري . لقد عاد محمد بوضياف الى الجزائر بعقلية ثوّار نوفمبر متناسيا أنّ الثورة الجزائرية نفسها قد ذبحت في الصميم , وأصبحت الثورة الجزائرية تأكل أبناءها وأباءها معا .
حاول تذكير الجزائريين بثورة نوفمبر فوجد أنّ الشعب الجزائري قد أرقّه ما شاهده من تحوّل رجال الثورة الى رجال ثروة , لقد أقسم بعض الجزائريين بأغلظ الايمان أن لا يثقوا فيما تقوله لهم السلطة الجزائرية , لقد أوهمتهم هذه السلطة أنّهم أصبحوا راشدين وبالغين وقادرين على اختيار من يرونه مناسبا وصالحا لتسيير شؤون الحكم , ولكن قرار الدبّابة كان هو الفصل والحكم !
لقد محت صور الدبّابات ودوريات الجيش والمواجهات الدامية التي كانت تتم بشكل يومي كل ما أرتسم في ذاكرة الجزائريين عن الثورة الجزائرية , وكيف يثق الشعب الجزائري بمحمد بوضياف والذين دمرّوا الجزائر ما زالوا يحيطون بمحمد بوضياف ويقررون تفاصيل التفاصيل , وقد صعب على الشارع الجزائري أن يقبل هذه الصورة المتناقضة صورة بوضياف رمز الثورة الجزائرية وأحد مفجريّها و صورة الذين قتلوا الشعب الجزائري وسفكوا دمه وأستباحوا حرماته , كيف يصدقّ الشعب الجزائري دعوة بوضياف الى محاربة الفساد , وأرباب الفساد مازالوا في كل المواقع في قصر الرئاسة والادارة والوزارات والمؤسسة العسكرية , ومن الصعوبة بمكان أن يتمكن بوضياف من تغيير الصورة .
وحتى لما حاول محمد بوضياف البقاء في الساحة وحيدا والشروع في عملية التطهير المعقدّة والصعبة , أزيح عن الساحة برصاصة في ظهره !
لقد كان بوضياف في أخر أيامه يصف النظام بأنّه وسخ ومعقّد وصعب , وحتى لما طرح مشروع محاسبة الشخصيات الكبيرة , تساءل المواطن الجزائري من يحاسب من في الجزائر!
والمافيا التي تحدث عنها بوضياف ليست معادلة سهلة يمكن النيل منها بسهولة , انّها تشكلت مع بدايات تشكّل النظام الجزائري وأزدادت تعقدّا والتواءا مع مرور الزمن .
لقد كان واضحا للجميع أنّ الغاء المشروع الديموقراطي والانتخابات التشريعية لم يكن الغرض منه حماية الديموقراطية والتعددية , بقدر ما كانت هذه العملية تهدف الى حماية المافيا و امتيازاتها خصوصا وأنّ جبهة الانقاذ كانت تهدد بالاقتصاص من المختلسين الذين تسببّوا في افلاس الجزائر .
ولم تبال هذه المافيا بالاعتبارات الدولية وسمعة الجزائر عربيا ودوليّا , ولما أستشعرت الخطر حاولت الاستنجاد بمحمد بوضياف الذي لم يسلم حتى من غدرهم , وهؤلاء الذين استقدموا محمد بوضياف وتذكروه أخر لحظة ,لم يخطر في بالهم أن يعيدوه الى وطنه قبل سنوات .

فور عودة محمد بوضياف صرحّ أنّه عاد الى الجزائر بعد الفراغ الدستوري الذي نجم عن اقالة الشاذلي بن جديد , وبعد فترة من هذا التصريح أدلى بتصريح لمجلة روز اليوسف قال فيه أنّ السلطة العسكرية هي التي أطاحت بالشاذلي بن جديد , وأنّ ما وقع في الجزائر هو انقلاب عسكري . وفي ندوة صحفيّة عقدها في الجزائر العاصمة صرحّ أنّ بعض القوى السياسية تقول أنّ ما وقع في الجزائر هو انقلاب عسكري وهي حرّة في اتخاذ هذه المواقف. وهذه التصريحات الخطيرة من رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد بوضياف أحرجت كثيرا المؤسسة العسكرية كثيرا والتي أعلنت مرارا أنّ الشاذلي بن جديد استقال ولم يزح من المنصب .
وقد رأى عندها مدير جريدة الصح أفة الناقدة حبيب راشدين في هذه التصريحات بداية الطلاق بين المؤسسة العسكرية ومحمد بوضياف , اذ لا يعقل أن يبادر رئيس المجلس الأعلى للدولة الى اطلاق هذه التصريحات الخطيرة . وقد تمّ تحريك وزير الثقافة والاعلام أبي بكر بلقايد ليدلي بتصريح مفاده أنّ الانتخابات الرئاسية ستجرى قريبا وفي غضون 1992 , وقد تضايق بوضياف من هذا التصريح وكذبّه تكذيبا قاطعا . كما أنّ وزير الداخلية الجنرال العربي بلخير كان يناور في هذا الاتجاه , و تصريحه لجريدة صوت الكويت بأنّ الكرة في ملعب السياسيين فهم منه بأنّ بوضياف لم يعد على مستوى الطموح , وقيل في وقت لاحق أنّ العربي بلخير كانت له يد في اغتيال محمد بوضياف في مدينة عنابة و كانت للعربي بلخير طموحات كبيرة , الى درجة أنّ الاعلام الجزائري وعندما أشار الى قرب ابعاد سيد أحمد غزالي من رئاسة الحكومة , أورد اسم العربي بلخير كبديل لغزالي , وبعض هذه التسريبات كانت في الواقع بالونات اختبار .
و الخلاف الأخر بين بوضياف والمؤسسة العسكرية كان حول بقاء سيد أحمد غزالي رئيسا للوزراء , وقد أعترف مقربون من محمد بوضياف أنّ هذا الأخير كان مستاءا من سيد أحمد غزالي , أماّ المؤسسة العسكرية فقد كانت متمسكة بسيد أحمد غزالي على اعتبار أنّه كان أحد المساهمين في اخراج سيناريو الاطاحة بالشاذلي بن جديد و اقامة المجلس الأعلى للدولة .
والعجيب أنّ هناك من كان يريد أن يصبح سعيد سعدي زعيم الحركة من أجل الثقافة والديموقراطية البربري رئيسا للوزراء , وكانت خطوة من هذا القبيل كفيلة بتأجيج الحرب الأهلية في الجزائر , بحكم تحكّم التوجهات المناطقية والجهوية في بنية النظام الجزائري .
ومن الخلافات بين بوضياف والمؤسسة العسكرية أنّ بوضياف أراد الاتصال بالدكتور عباسي مدني زعيم الجبهة الاسلامية للانقاذ في محاولة لايجاد تسوية سياسية للأزمة القائمة في الجزائر .
و اقدام محمد بوضياف على ايداع الجنرال مصطفى بلوصيف رهن السجن العسكري في البليدة لم يرض أطرافا داخل المؤسسة العسكرية والتي كانت ترى ضرورة ابقاء رجال المؤسسة خارج المحاكمات والملاحقات القضائية , لئلا تفقد المؤسسة العسكرية صدقيتها .
والواقع أن بوضياف كان يعيش في خضم المتناقضات بين الأجهزة القديمة والجديدة التابعة لهذا الفريق أوالموالية للفريق الأخر , وقد دخل بعضها على خط الصراع الدموي بين السلطة والاسلاميين و نفدّ العديد من عمليات الاغتيال وحتى التفجيرات , وبلغ الصراع أوجه عندما أعلن العربي بلخير وزير الداخلية لجريدة صوت الكويت أنّ تمردا وقع على مستوى بعض القوات الخاصة والتي التحقت بأمير الحركة الاسلامية المسلحة في ذلك الوقت عبد القادر شبوطي.
وهذا التصريح لم يرض المؤسسة العسكرية التي أخرجت بلخير من دوائر الضوء ورغم ذلك ظلّ على علاقة بمراكز القوة ونسقّ معها في كثير من القضايا --*.



• راجع كتاب المؤلف الحركة الاسلامية المسلحة في الجزائر , وكتاب أربعة أيّام ساخنة في الجزائر ليحي أبوزكريا أيضا .


شريط اغتيال محمد بوضياف :

بعد دعوته المتكررة لتأسيس التجمع الوطني , استجاب له بعض المواطنين في مدينة عين تموشنت ومدينة عنابة شرقي الجزائر , وقررّ بوضياف التوجه الى هذه المناطق وتوضيح أفكاره في هذا المجال , وعلى الرغم من أنّ الجزائر كانت تشهد انزلاقات أمنية خطيرة فانّ أحدا لم ينصح محمد بوضياف بالغاء رحلته الى منطقة الشرق الجزائري , والأكثر من ذلك فانّ المسؤولين الكبار في الجزائر لم يرافقوا بوضياف في رحلة الموت , فقد كان غائبا عن الموكب الرئاسي رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي ووزير الداخلية الجنرال العربي بلخير و لا أحد من أعضاء المجلس الأعلى للدولة صحب بوضياف وكأنّ الكل كان على علم بما دبّر لبوضياف الاّ هو !
رفيق بوضياف في رحلة الموت هذه كان وزير الصناعات الخفيفة السيد كريمان وبعض المسؤولين الصغار بالاضافة الى أحد أقرباء محمد بوضياف .
وقبل رحلته الى مدينة عنابة أسرّ بوضياف لصديقه محمد يزيد أنّ الوضع معقّد وأنّ بعض الأطراف في النظام لن تسكت عن عزمه على تطهير النظام الجزائري من المرتشين و المختلسين .
وصل محمد بوضياف الى مطار مدينة عنابة يوم 29 حزيران –جوان – 1992 في الساعة الثامنة والنصف صباحا وكان في استقباله والي مدينة عنابة والمسؤولون العسكريون عن هذه الناحية . وفي الساعة العاشرة والنصف افتتح محمد بوضياف معرضا للشباب وتنقلّ بين أجنحته .
وفي حدود الساعة 11 وصل محمد بوضياف الى المركز الثقافي في مدينة عنابة , حيث شرع في القاء محاضرة ركزّ فيها على الشباب ودورهم في بناء المجتمع , كما تحدث عن الفساد وضرورة القضاء على الفساد الذي ينخر جسم النظام الجزائري , وحثّ الشباب على ضرورة الاعتماد على النفس للخروج من الأزمة الحالكة , وأسترسل في الحديث عن الجزائر والعواصف التي تعصف بها , وحملّ النظام القديم تبعات ما ألت اليه الأوضاع في الجزائر , وعندما وصل الى عبارة أنّ الاسلام يحث على العلم انفجرت قنبلة يدوية من الجهة الشمالية للمنصة التي كان عليها محمد بوضياف , وهاهنا شاهد الحضور ستارة المسرح خلف محمد بوضياف تتحرك وسرعان ماخرج من وراء الستارة رجل يرتدي زيّ القوات الخاصة ومعه رشاش , حيث اقترب من محمد بوضياف وأفرغ محتواه في جسده وقع بعدها بوضياف أرضا و مباشرة .
دبّ الخوف والهلع وسط الحضور الذي انبطح كثير منهم على الأرض , وقد قيل أنّ هدف تفجير القنبلة اليدوية هو جعل الناس تتراجع عن المنصة وتنبطح أرضا وأثناءها سمعت طلقات نارية داخل القاعة وخارجها , فيما كان بوضياف جاثما على الأرض وقد غطّاه البعض بالعلم الجزائري , وبعد عشرين دقيقة من الحادث وصلت سيارة اسعاف الى المركز الثقافي وأقلّت محمد بوضياف الى مستشفى ابن رشد في مدينة عنابة .
و عبثا حاول الأطبّاء انعاشه الأمر الذي استدعى نقل محمد بوضياف الى مستشفى عين النعجة العسكري في الجزائر العاصمة , ولم يتأخر المستشفى كثيرا في الاعلان عن وفاة المناضل محمد بوضياف .
وفي حدود الساعة الثانية عشر ظهرا بدأ التلفزيون الجزائري الرسمي يبث الأيات القرأنية وقد فهم المواطنون أنّ كارثة حلّت بالجزائر خصوصا وأنّ التلفزيون الجزائري كان قد تعودّ على بث الأغاني في مثل هذا الوقت !
وفي الساعة الواحدة ظهرا أعلن التلفزيون الجزائري عن وفاة محمد بوضياف وكان قارئ الخبر الصحفي الجزائري المعتز بالله جيلالي .
ومساءا بثّ التلفزيون الجزائري شريطا مسجلا عن مسلسل الاغتيال , لكنّ مقص الأجهزة كان قد حذف مشهد خروج الملازم العسكري مبارك بومعراف قاتل بوضياف والمنتمي الى القوات الخاصة من وراء الستار والطريقة التي أجهز بها على بوضياف .
وقد تسربّت بعض الأخبار من مبنى التلفزيون تفيد أنّ رئيس الحكومة سيد أحمد غزالي ووزير الاعلام والثقافة كانا هناك وأمر بحذف هذه المشاهد .
وكانت الصدمة عنيفة للغاية على الشعب الجزائري الذي توالت عليه الصدمات الأمنية بشكل متسارع , وخرجت بعض الجماهير للمشاركة في جنازة محمد بوضياف والتي كانت يتيمة للأسف الشديد , لا لأنّ محمد بوضياف الرمز لا يستحق ردّ الجميل من قبل شعبه الذي مازال يتذكر جهاد بوضياف ودوره في تفجير الثورة الجزائرية , بل لأنّ بوضياف تورطّ مع من ألغوا اختيار الشعب الجزائري وحولوا الصحراء الجزائرية - التي كانت تستخدمها السلطات الفرنسية أثناء استعمارها للجزائر حقلا لتجاربها المتعلقة بالتفجيرات النووية – الى معتقلات ضمّت عشرات الألاف من المعتقلين . وحتى الذين خرجوا لتشييع جثمان محمد بوضياف رددوا شعارات سياسية , وأغتنموا الفرصة في ظل حالة الطوارئ المفروضة منذ 1992 والتي بموجبها يحظر التجمهر والتظاهر وما الى ذلك من الأفعال الديموقراطية .
ومن الشعارات التي رفعها المشيعّون هي من قبيل :
-لا اله الاّ الله عليها نحيا وعليها نموت وبها نلقى الله .
-يا عليّ , يا عبّاس الجبهة راهي لا بأس - أي أنّ جبهة الانقاذ ما زالت بخير رغم وجود كل قيادييها في السجن - .
-الشاذليّ قاتل .
-جلبوه لكي يقتلوه .- أي أحضروا بوضياف الى الجزائر لكي يقتلوه - .
-دولة دولة اسلامية .
ولا شك أنّ المتتبع للحدث الجزائري يعرف أنّ معظم هذه الشعارات كان يرددها أنصار الجبهة الاسلامية للانقاذ .
وقد حضر جنازة محمد بوضياف رئيس الوزراء سيد أحمد غزالي , ووزير الدفاع خالد نزار , و اعضاء المجلس الأعلى للدولة علي كافي الذي خلف محمد بوضياف في منصبه , وعلي هارون , وتيجاني هدّام , كما حضر تشييع الجنازة شخصيات عربية وأجنبية كياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية , و رولان دوما وزير خارجية فرنسا .
وقد أعلن أقرب المقربين الى بوضياف نجله ناصر بوضياف أن المافيا الجزائرية هي التي اغتالت محمد بوضياف , في حين طالبت زوجته بضرورة الكشف عن منفذّي العملية الحقيقيين .
ولتفادي الشغور الرئاسي مرة أخرى تمّ الاعلان عن اسم رئيس المجلس الأعلى للدولة وهو العقيد علي كافي وتمّ ضمّ رضا مالك كعضو في المجلس الأعلى ليكتمل النصاب ….


تناقضات واختلافات :

بعد الاعلان عن اغتيال محمد بوضياف في نشرة الأخبار في التلفزيون الجزائري في الساعة الواحدة ظهرا , ورد في سياق النشرة اسم القاتل وهو الملازم العسكري مبارك بومعراف ,
وفي نشرة الثامنة مساءا لم يتم التطرق اطلاقا الى هوية القاتل , لكن ذكرت الأنباء أنّ القاتل تمّ القاء القبض عليه .
ومن جهة أخرى ذكرت مصادر رسمية عندها أنّ منفّذ العملية مبارك بومعراف ينتمي الى دائرة مكافحة التجسس وقد أغتال بوضياف وتمكنّ من مغادرة قصر الثقافة , و في أحد شوارع مدينة عنابة رأته عجوز من شرفتها وبلغّت عنه الشرطة ,عندها تمّ القاء القبض عليه.
فكيف غادر الملازم مبارك بومعراف قصر الثقافة وهو محاط بعشرات العناصر الأمنية !
وكيف تعرفّت عليه هذه العجوز و هل سبق لها وأن رأته سابقا !
ولماذا لم يفر من مكانه عندما رأته العجوز وبقيّ في مكانه الى أن جاءت الشرطة !
ولماذا تأخرّت سيارة الاسعاف في الوصول الى مكان الحادث الاّ بعد عشرين دقيقة من وقوع الحادث !
كل هذه المتناقضات والقرائن جعلت الحديث عن وجود مؤامرة محكمة الاخراج واردا وخصوصا في سياق ما كانت تعيشه الجزائر من تداعيات على الصعيد الأمني والسياسي .
وبعد اتهام الملازم مبارك بومعراف رسميا باغتيال محمد بوضياف تمّت احالته الى المحكمة المدنية في مدينة عنابة والتي أعلن نائبها العام أنّ القضية سياسية والقاتل عسكري فيجب احالة القضية الى محكمة عسكرية , و القضاء العسكري من جهته رفض النظر في القضية , وقد رفض حتى النظر الى الملف ودخل القضاء المدني في خلاف مع القضاء العسكري , الأمر الذي أعطى انطباعا بأنّ هناك من يريد تضييع خيوط المؤامرة . ونجح القضاء العسكري في تجنيب نفسه النظر في قضية اغتيال محمد بوضياف , والتي أصبحت من صلاحيات القضاء المدني و كأنّ الجناية عادية في بعدها و هدفها .
وكانت المؤسسة العسكرية لا تريد أن تتورط مع شخصيات كبيرة قد يكونون من نفس المؤسسة العسكرية .
وقد أعلن النائب العام لمدينة عنابة السيد محمد تيغرامت أمام الصحافيين أنّ القرار الصادر عن هيئته القضائية لجهة عدم الاختصاص واضح ولا يشوبه أيّ غموض , وهذا الأمر كما قال النائب العام مستوحى من نصوص وروح قوانين الجمهورية , وأستدلّ على ذلك بقوله أنّ الجاني عسكري و قام بارتكاب جريمته أثناء وجوده في الخدمة , وهو ما تعاقب عليه المادة 25 من قانون الاجراءات القضائية العسكرية , و أستطرد النائب العام في مدينة عنابة قائلا أنّه انطلاقا من هذا كنّا نتوقع من السلطات القضائية العسكرية التكفل قانونيا بهذه القضية الاّ أنّ الرفض القاطع واللامشروط لهذه السلطات أدّى الى احداث شلل في الاجراءات , وأنّ هذا الشلل سيوقف مسار البحث عن الحقيقة التي ينتظرها المجتمع !
وهو اعتراف ضمني من نائب مدينة عنابة بأنّ المؤسسة العسكرية تعمد الى اخفاء الحقيقة وتبديدها . ولم يقدم النائب العام معلومات عن القاتل الملازم العسكري مبارك بومعراف,
والمعلومات السطحية التي قدمت للشعب الجزائري من أجل اسكاته أنّ الملازم العسكري مبارك بومعراف ينتمي الى مكافحة التجسس وهو من مواليد 1966 وتلقى تدريبه في بلجيكا وبعض الدول العربية وهو ذو ميول دينية , وكان علي جدّي أحد قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ أستاذه في المرحلة الثانوية . ونفس المعلومات قدمها رزّاق بارة عضو لجنة التحقيق في اغتيال محمد بوضياف والذي قال أنّ بومعراف كان يقرأ الكتب الدينية وليست له ميول حزبية . وقد رأى المراقبون في ذلك الوقت أنّ هذه التصريحات تهدف الى زجّ الجبهة الاسلامية للانقاذ في قضية اغتيال محمد بوضياف . وللتذكير فانّ قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ الدكتور عباسي مدني وعلي بلحاج وغيرهما مدنيون ورؤساء حزب سياسي مدني ومع ذلك فقد جرت محاكمتهم في محكمة عسكرية , أما قاتل الرئيس الجزائري محمد بوضياف وهو عسكري فقد جرت محاكمته في محكمة مدنية !
وفي الوقت الذي نشب فيه خلاف بين القضاء العسكري والقضاء المدني , نشب خلاف مماثل بين أركان النظام الجزائري وأستعرت حرب الأجهزة من جديد في الجزائر . فجريدة الخبر الناطقة باللغة العربية نشرت في الصفحة الأولى أنّ وزير الداخلية الجنرال العربي بلخير قد أقيل من منصبه وتمّ تعيين أحد الجنرالات المتقاعدين مكانه , وقد سارع العربي بلخير الى تكذيب الخبر وأستدعى مسؤولي جريدة الخبر وهددهم بنسف جريدتهم , و أسمعهم كلاما بذيئا , و حقيقة ما جرى أنّ جهات في الجزائر سربت الخبر على اعتبار أنّ الجنرال العربي بلخير أحد أركان نظام الشاذلي بن جديد , وأحد المحسوبين على اللوبي الفرانكفوني في الجزائر وكان متهما بالضلوع في لعبة تصفية بوضياف .
ولما لم يقدر أحد على ازاحته تمّت التضحية بحكومة سيد أحمد غزالي , وعندما أقيلت حكومة سيد أحمد غزالي صرحّ هذا الأخير أنّ الأشرار كثيرون في الدائرة النظامية وهؤلاء يعرقلون كل الايجابيات , وعيّن سيد أحمد غزالي سفيرا للجزائر في باريس و كان يراد منه المساهمة في ترطيب العلاقات الفرنسية –الجزائرية لكون غزالي صديقا حميما لفرنسا فهو منذ تخرجّ كمهندس من المعاهد الفرنسية قبيل الاستقلال الجزائري بقليل والعلاقة بينه وبين باريس ايجابية , ثمّ انّ الجزائر كانت في حاجة الى ترطيب الأجواء خصوصا وأنّ الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران أحتجّ على تنحية صديقه الحميم الشاذلي بن جديد - متيران هو الذي أختار عبارة الصديق الحميم ولا دخل للمؤلف في انتقائها - .
وقبل تنحية سيد أحمد غزالي التقى وزير الدفاع الجنرال خالد نزار ببعض الشخصيات السياسية الجزائرية كعبد الحميد مهري الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني , وحسين أية أحمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية , ومحفوظ نحناح زعيم حركة حماس , وأحمد طالب الابراهيمي عضو اللجنة المركزية في حزب جبهة التحرير الوطني ووزير الخارجية الأسبق , وكان ذلك مؤشرا على أنّ دوائر القرار تريد الاستنجاد بالطبقة السياسية .

لجنة التحقيق :

لالهاء الشعب الجزائري و تعمّد عدم الكشف عن الحقيقة قام المجلس الأعلى للدولة بتعيين لجنة تحققّ في اغتيال محمد بوضياف يرأسها أحد أصدقاء محمد بوضياف أحمد بوشعيب , والعجيب أنّ هذه اللجنة طلبت من المواطنين الجزائريين أن يمدوها بما لديهم من معطيات , ومساعدة هذه اللجنة , ولم تمر هذه النكتة على الشارع الجزائري الذي علقّ بقوله كيف يطلب ممن يطالب بكشف الحقيقة أن يمدّ هذه اللجنة بمعلومات !
وقدمت هذه اللجنة أرقاما هاتفية ليتصل بها من يوّد أن يقدمّ معلومات بشأن الحادث . أحد المواطنين كما ذكر حينها اتصل بهذه اللجنة وأبلغها أنّ مبارك بومعراف زميله وقد مات في سنة 1982 في تدريبات خاصة !!
هذا الأمر وغيره جعل المواطنين الجزائريين يشكّون في حقيقة الجاني والمعلومات المقدمة اليهم بشأنه . وقد أعطى المجلس الأعلى للدولة مهلة عشرين يوما لهذه اللجنة حتى تكشف عن الحقائق كاملة .
وتوجهت هذه اللجنة الى مدينة عنابة , وأحاطت تنقلاتها وتحركاتها بسرية فائقة , وقد أحتجّ الصحافيون في مدينة عنابة على هذا التكتّم المبالغ فيه وطالبوا بتفسيرات بشأن بعض المعلومات المتناقضة , فلجنة التحقيق تقول أنّ الملازم العسكري مبارك بومعراف نفذّ العملية بمفرده , في حين أنّ النائب العام لمدينة عنابة قال أنّ العملية نفذّت بطريقة ذكية ودقيقة بحيث يستحيل أن تكون من فعل شخص واحد , وقد غادر هذا الشخص الجاني مكان الحادث سليما معافى . وقد ذكر بعض الصحفيين أنّ مبارك بومعراف عقب خروجه من قصر الثقافة لجأ الى شقّة , وقال لبعض المواطنين أنّه من رجال الأمن المكلفين بحماية محمد بوضياف , وأنّ أناسا يريدون قتله وطلب منهم استدعاء الشرطة .
مراسل جريدة لاناسيون في مدينة عنابة أفاد بأنّ سيارة من نوع جيتا كانت مرابضة قرب قصر الثقافة مكان حدوث الاغتيال رفقة سيارة أخرى تمّ توقيفها في مدينة عزابة بعد مطاردتها بطائرة مروحية ودراجات نارية تابعة للدرك الوطني الجزائري .
وكانت محكمة عنابة تناقض نفسها فحينا تقول أنّ مبارك بومعراف أعتقل وحده , ثمّ أعلنت أنّه تمّ اعتقال اثني عشرة شخصا متورطين مع مبارك بومعراف , وربما لأجل ذلك قالت جريدة لوناسيون أنّ بومعراف تلقى أمرا باغتيال محمد بوضياف . لكن من أمره بذلك !
و ذكر في مدينة عنابة أنّ مبارك بومعراف طلب من قاضي المحكمة حضور أحد المسؤولين الكبار كشرط للادلاء باعترافاته . أما نجل الرئيس محمد بوضياف ناصر بوضياف فقد أعلن أنّ الجريمة لها أطراف في الداخل والخارج .
وبعد عشرين يوما على التحقيق في اغتيال محمد بوضياف صرحّ أحد أعضاء لجنة التحقيق رزّاق بارة بأنّ القاتل يدعى مبارك بومعراف ,وقد نفذّ الجريمة بملء ارادته , وأنّ تقصيرا لوحظ في فريق الحماية , وهكذا فسرّت لجنة التحقيق الماء بالماء بعد جهد وعناء .
وبناءا عليه وضع ضابطان كانا ضمن فريق حماية محمد بوضياف هما هجرس والسائح, رهن الحبس الاحتياطي , و غاية ما قامت به لجنة التحقيق أنها أكدت أنّ القاتل هو الملازم العسكري مبارك بومعراف . وحتى لما أستأنفت هذه اللجنة أعمالها الى أواخر تشرين الثاني – نوفمبر – 1992 رددت نفس النتيجة التي سبق لها وأن أذاعتها على الملأ...


تشريح مؤامرة :

يتضح جليّا ومن خلال قراءة كاملة ومستوعبة وموضوعية لملف اغتيال محمد بوضياف أنّ هناك خمسة احتمالات في قضية اغتيال رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد بوضياف وهي :
1- أن يكون اغتيال محمد بوضياف داخلا فيما يسمى بمقتضيات أمن الدولة , وأنّ صناع القرار في أعلى المستويات الأمنية أكتشفوا فجأة أنّ محمد بوضياف خطر على الأمن القومي الجزائري ومن تمّ قاموا بتصفيته .
2- أن يكون محمد بوضياف ضحيّة صراع الأجنحة في المؤسسة العسكرية ودوائر القرار , وأنّ بوضياف قد يكون أضرّ بطرف أو مركز قوة معيّن , أو كاد جناح من الأجنحة أن يفقد مصالحه فأجهز على محمد بوضياف قبل أن يفقد امتيازاته .
3- أن يكون اغتيال محمد بوضياف من تدبير الجبهة الاسلامية للانقاذ أو الجماعات الاسلامية الأخرى .
4- أن يكون الملازم العسكري مبارك بومعراف قد تصرفّ بملء ارادته ونفذّ عملية الاغتيال .
5- أن تكون جهات أجنبية أمريكية أو فرنسية على وجه التحديد وراء اغتيال محمد بوضياف .

تحليل الاحتمال الأول :

عندما قام الرئيس محمد بوضياف بزيارة خاصة لمتابعة أعماله في المغرب التقى الملك المغربي الراحل الحسن الثاني ووعده بحل وشيك لقضية الصحراء الغربية يرضي المغرب . كما أن معلومات ترددت في الجزائر تفيد أنّ بوضياف كان يريد تكليف سعيد سعدي زعيم التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية البربري بتشكيل الحكومة خلفا لسيد أحمد غزالي , وخطوة من هذا القبيل من شأنها أن تضرّ كثيرا بالوحدة الترابية والجغرافية للجزائر .
وكان سعيد سعدي هددّ بحمل السلاح واشعال النار في منطقة القبائل اذا وصل الاسلاميون الى السلطة . وكان من الدعاة الأوائل الى ضرورة تدخّل الجيش لالغاء الانتخابات التشريعية .
وما جئنا على ذكره لم يرق الى مستوى تهديد الأمن القومي الجزائري حتى يقال أنّ بوضياف يجب أن يقتل , والمؤسسة العسكرية مثلما أقالت الشاذلي بن جديد كان في مقدورها أن تقيل محمد بوضياف .

تحليل الاحتمال الثاني :

أدّى الخلل في بنية النظام الجزائري ومنذ تأسيسه الى تشكّل مراكز قوة وأجنحة , وكانت المصالح والامتيازات هي التي توحّد بين مراكز القوة التي كبرت وكبرت معها مصالحها أيضا . وعمل كل مركز قوة على حماية نفسه بقوة أمنية و عسكرية الى درجة أنّ محمد بوضياف صرح في يوم من الأيام قائلا أنّ الجزائر لا تقبل لا بانقلاب عسكري ولا بانقلاب بوليسي في اشارة الى المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية , وقد تكاثرت الأجنحة الأمنية مع تكاثر الحكومات ومراكز النفوذ , وهناك أجهزة فعلية وأجهزة قديمة تريد استرجاع ماكان لديها من امتيازات , وعندما تبنىّ محمد بوضياف مشروع تطهير النظام الجزائري من المافيا كان يعي خطورة القيام بمثل هذه الخطوة . وقد يكون بوضياف ضحية أحد مراكز القوة الذي بات مقتنعا بأنّ بوضياف بات يشكل خطرا عليه .



تحليل الاحتمال الثالث :

الملازم العسكري مبارك بومعراف الضالع في اغتيال الرئيس محمد بوضياف اعترف كما تقول لجنة التحقيق بأنّه اضطّلع بعملية الاغتيال وحده , وأنّه كان يحلم أن يطهرّ الجزائر من الطغاة كما قالت لجنة التحقيق في بيان لها . وهو قد قام بهذه الخطوة لتخليص الجزائر من الخوف الذي يسيطر على شعبها منذ فرض حالة الطوارئ .


تحليل الاحتمال الرابع :

في تحقيق خاص لجهاز الأمن العسكري الجزائري تبينّ أنّ عشرين بالمائة من الجنود في الجيش متعاطفون مع الجبهة الاسلامية للانقاذ , وقد أتهمّ الملازم مبارك بومعراف قاتل محمد بوضياف بأنّه متأثر بالأفكار الدينية . وكان جهاز أمني قد حذرّ بوضياف من عناصر مسلحة قد تقدم على اغتيال رموز في السلطة الجزائرية وأنّ عدد هذه العناصر هو بين 1500 و3000 عنصرا .


تحليل الاحتمال الخامس :

قال الجنرال شارل ديغول مباشرة بعد استقلال الجزائر في 05 تموز –يوليو- 1962 أنّ فرنسا ستعمل ما في وسعها حتى تنتهي الجزائر بالضربة القاضية بعد ثلاثين سنة .
لقد كانت باريس على الدوام تتربص بالجزائر الدوائر وكان لديها عقدة من الوطنيين الجزائريين , وحاولت عبر وسائلها الكثيرة والمتنوعة في الجزائر نسف التيار الوطني وبعده التيار الاسلامي الذي لا ينسجم وطموحاتها الفرانكفونيّة في المغرب العربي , وربما تكون قد أوحت الى بعض الأجنحة التابعة لها القيام باغتيال بوضياف , وقد علقّت الصحف الفرنسية عشية اغتياله قائلة أنّ الجزائر تقتل رموزها , مما يعني في نظر باريس أنّ الشعب الجزائري قد تنكرّ لثورته ورموزه بعض ثلاثين سنة من الاستقلال !


من قتل محمد بوضياف ! :

كل هذه الاحتمالات واردة , وفي ظل نظام يمارس فرض الحصار على المعلومات حتى في أبسط الأشياء يصبح كل شيئ ممكنا , لكن القرائن السابقة و اللاحقة والتي تجلّت بعد سنوات من اغتيال بوضياف ترجّح الاحتمال الثاني وهو أنّ بوضياف كان ضحية الصراع بين الأجنحة ومراكز القوة , والجناح الذي نفذّ العملية مرتبط عضويا بالمشروع التغريبي الفرنسي مما ينشئ علاقة مباشرة أو غير مباشرة بين الاحتمال الثاني والاحتمال الخامس .
والفريق الأمني الذي رافق محمد بوضياف كان يتلقى أوامره من خليّة تسيير حالة الطوارئ في وزارة الداخية التي كان على رأسها الجنرال العربي بلخير والذي تربطه علاقات قوية بكبار الجنرالات في المؤسسة العسكرية .
والأكيد أنّ محمد بوضياف كان عازما على تغيير هيكلية النظام الجزائري , وكان ماضيا باتجاه اقصاء كل الذين عملوا على وضع الجزائر على فوهات البركان , كما كان مصرّا على كشف كل المختلسين والسارقين الذين نهبوا مليارات الدولارات وفقرّوا الشعب الجزائري , وأعدّ ملفات تطاول كبار الشخصيات الجزائرية تمهيدا لمحاكمتهم , ودائما كان يردد قائلا : نحن أسرى وضع مزري وسيئ وورثنا تركة ثقيلة وسوداء .
لقد سبق لرئيس الحكومة السابق سيد أحمد غزالي أن قال أنّ مصيبة الجزائر الكبرى تكمن في فتنة الكرسي المستعصيّة .


لقد كان لاغتيال محمد بوضياف صدى كبير في نفوس الجزائريين الذين شاهدوا لأوّل مرة في حياتهم رئيسهم وهو يتعرّض للاغتيال من الظهر , ولا ينسى الجزائريون منظر رئيسهم وهو مسجّى على الأرض تحيط به دماؤه المنهمرة وعلى صدره علم الجزائر الذي ثار لأجله ذات يوم محمد بوضياف , لقد كانت نهاية هذا الرجل غير سعيدة , فالجزائريون يعترفون له بفضل تفجير الثورة الجزائرية التي أفضت الى تحقيق كرامة الجزائريين وعزتهم ,
ولذلك خرج كثيرون الى الشوارع للبكاء على أحد رموز الثورة الجزائرية , والجزائريون الذين شاركوا في تشييع جنازة محمد بوضياف كانوا في الواقع يبكون الجزائر أيضا .
لم تتمكن شرعية بوضياف التاريخية أن تسكت نقمة الشعب الجزائري على ممارسات ومسلكيات أضرّت بالثورة الجزائرية و الدولة الجزائرية وسمعة الجزائر , ولم يتمكن بوضياف من رأب الصدع بين السلطة والجماهير , لقد كان بوضياف بالفعل الرجل المناسب في الوقت غير المناسب , لقد عاد من المغرب الى الجزائر بغية انقاذها , فذهب هو والجزائر باتجاه الهاوية .

وبعد اغتياله مباشرة تمّ تعيين العقيد علي كافي على رأس المجلس الأعلى للدولة , وأنتخب رضا مالك رئيس المجلس الاستشاري عضوا خامسا في المجلس الأعلى للدولة , ولم تسكّن صدمة اغتيال محمد بوضياف الايقاع السياسي والأمني الذي استمرّ متهيجاّ وحادّا .
وبعد أسبوعين من اغتيال محمد بوضياف بالضبط وفي 12 تموز –يوليو – 1992 شرعت المحكمة العسكرية في محاكمة قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ في المحكمة العسكرية في مدينة البليدة , وكان ذلك مؤشرا على أنّ هناك من يريد أن يصرف نظر الشعب الجزائري عن ملف اغتيال محمد بوضياف , وفي نفس الوقت أقيلت حكومة سيد أحمد غزالي , وتمّ تعيين بلعيد عبد السلام على رأس الحكومة الجديدة .
وكانت حركة المتغيرات السياسية متزامنة مع حركة المواجهات الدموية التي ازدادت كارثية ودموية بعد اغتيال محمد بوضياف .
وعلي كافي كسابقه ورث وضعا صعبا ومعقدّا وظلّت الجزائر في عهده تراوح مكانها , بل انّ وقع الرصاص والاغتيالات ازداد حدّة , وبلغت المواجهات الذروة في عهد علي كافي, وبات عهده يعرف بعهد الدماء , ولم تتمكن قوانين مكافحة الارهاب والاجراءات الصارمة من وضع حدّ للزلزال الجزائري !!!


علي كافي : العقيد الديبلوماسي .

العقيد علي كافي عسكريّ محترف انضمّ الى الثورة الجزائرية منذ اندلاعها , وكان من كوادرها في منطقة الغرب الجزائري وقد أوكلت اليه مهمات عسكرية كثيرة أثناء الثورة الجزائرية , وكثيرا ما كان يتنقّل بين الجزائر وتونس الى تاريخ استقلال الجزائر .
وبعد الاستقلال مباشرة عمل في وزارة الخارجية , وعيّن سفيرا للجزائر في أكثر من عاصمة عربية كبيروت ودمشق و القاهرة وتونس . وكانت تربطه علاقات جيدة ببعض الرؤساء العرب من أمثال جمال عبد الناصر و الحبيب بورقيبة , الى درجة أنّ التيار الفرانكفوني في الجزائر كان يعتبره قوميا عربيّا , وقد تعودّ الفرانكفونيون في الجزائر على اتهام كل من يحبّ الثقافة العربية ويميل الى اللغة العربية بأنّه قومي أو بعثي وما الى ذلك من المسميات , و في وقت لاحق باتوا يتهمون المعرّب بأنّه أصولي أو سليل الأصولية , وكأنّهم الأصل في الجزائر وغيرهم الدخيل .
و قد قضى علي كافي حياته متنقلا بين العواصم العربية , وأعتبره البعض في الجزائر بأنّه كان خارج اللعبة السياسية . وأثناء تعيينه على رأس المجلس الأعلى للدولة عقب اغتيال محمد بوضياف , قيل ساعتها أنّ السلطة تريد أن تعالج أزمة الثقة بين السلطة والرعيّة , لكن هذه الخطوة لم تفلح في ردّ الاعتبار للنظام , لأنّ الأزمة السياسية التي اندلعت في الجزائر كانت أكبر من كافي ونظرائه .
أنهيت مهام علي كافي الديبلوماسية في عهد الشاذلي بن جديد , حيث جرى تعيينه أمينا عاما لمنظمة المجاهدين التي ترعى شؤون المجاهدين الجزائريين الذين شاركوا في الثورة الجزائرية , وكانت هذه المنظمة محل انتقاد العديد من السياسيين باعتبار أنّ هذه المنظمة أهملت حقوق المجاهدين الفعليين , وبات المجاهدون المزيفون -وهم الذين زورّوا أوراقا ووثائق لاثبات أنهّم شاركوا في الثورة الجزائرية وحازوا على العديد من الامتيازات – في الواجهة يستفيدون من كافة الامتيازات التي حظيّ بها الذين شاركوا في الثورة الجزائرية فيما بعد . وللاشارة فانّ أيّ جزائري كانت تكفيه شهادة شخصين معروفين بدورهما أثناء ثورة التحرير للدلالة على أنّه شارك في ثورة التحرير , ومعظم هذه الشهادات كانت تتم بعد الاستقلال , وفي الوقت الذي حصل فيه الثوّار المزيفون أو الذين يسمّيهم الشارع الجزائري بثوّار 1962 أي تاريخ استقلال الجزائر , على امتيازات واسعة , فانّ المجاهدين الحقيقيين وعوائلهم مازالت ملفاتهم قيد الدرس , وكان العديد من أرامل الشهداء يقمنّ في الأكواخ القصديرية , ومازلن يطالبن بحقوقهن من خلال بعض المنظمات الحقوقية الجزائرية .
ولم يلعب علي كافي أي دور في المرحلة الشاذلية , وبرز اسمه عندما أطيح بالشاذلي بن جديد وعند تشكيل المجلس الأعلى للدولة , حيث أصبح علي كافي ضمن تشكيلة هذا المجلس الذي كان يضم محمد بوضياف رئيسا , وخالد نزار عضوا , وعلي كافي عضوا , وتيجاني هدّام عضوا , وعلي هارون عضوا .
وعندما كان علي كافي عضوا في المجلس الأعلى للدولة لم يكن له أيّ دور يذكر , فوجود كافي وهارون وهداّم كان رمزيّا تقريبا لأنّ القرارات الخطيرة والمصيرية كانت تتخّذ في مكان أخر , ويمكن القول أنّ الشخصيّة البارزة والمحورية في هذا المجلس كان اللواء خالد نزار وزير الدفاع في ذلك الوقت .
و كانت تركيبة المجلس الأعلى للدولة تركيبة هجينة غير متاجنسة بتاتا , فمحمد بوضياف كان ناقما على جبهة التحرير الوطني والذي على حسب رأيه أساءت الى تاريخه وسحبت من تحته البساط ولذلك شنّ عليها ومعه سيد أحمد غزالي حملة شعواء , الى درجة أنّ محمد بوضياف كان يتهكم على الأمين العام لحزب جببهة التحرير الوطني عبد الحميد مهري وذلك في مهرجان عام أقامه الاتحاد العام للعمال الجزائريين الذي كان يتزعمه عبد الحق بن حمودة .
وعلي كافي الذي كانت له نفس المواقف من حزب جبهة التحرير الوطني , كان يعتبر نفسه أحد أبنائها , وكان غير مرتاح لزمرة المستشارين الفرانكفونيين الذين كانوا يحيطون ببوضياف , وكان كافي شخصيا يتهجّم على ما كان يسميه حزب فرنسا في الجزائر , وهددّ ذات يوم بفتح ملف هذا الحزب , لكنّه كان مجردّ تهديد ولم يفتحه أبدا .
أمّا تيجاني هدّام وعلي هارون فهما متناقضان بل ضدّان لا يلتقيان , فهدّام محسوب على الاسلام المستنير وكان قبل أن يصبح عضوا في المجلس الأعلى للدولة اماما لمسجد باريس في فرنسا , أمّا علي هارون فأبعد ما يكون عن قناعات هدّام وهو رجل فرانكفوني ومحسوب على التيار التغريبي , ويمكن ادراج علي هارون ورضا مالك في نفس السياق الفكري والتغريبي . أمّا خالد نزار وزير الدفاع فقد كان يمثل سلطة الجيش التي لا يعلو عليها أحد في الجزائر و قد كان يمثل الأقلية الاستئصالية في المؤسسة العسكري .
ونظرا لانعدام التجانس بين أعضاء المجلس الأعلى للدولة – الرئاسة الجماعية - , وفقدان هذا المجلس لمركزية القرار فقد بقيّ أشبه بالمتفرج على الأحداث التي عصفت بالجزائر ,
وفي كل الأوقات كان دوره يكمن في المصادقة على قرارات المواجهة مع الاسلاميين و قوانين مكافحة الارهاب . وعندما تولى علي كافي رئاسة المجلس الأعلى للدولة كان الوضع الأمني في الجزائر قد بلغ ذروته .


المهندس سيد أحمد غزالي رئيس الحكومة في عهد محمد بوضياف , وفي المرحلة الأخيرة من عهد الرئيس الشاذلي بن جديد كان من أكبر المتورطين في تنفيذ الصيغة الانقلابية على الشاذلي بن جديد , فالرجل الذي وعد بانتخابات حرة ونزيهة لعن الساعة التي أعلن فيها أنّ الجزائر ستعيش عرسا ديموقراطيا عند اجراء الانتخابات التشريعية الملغاة , وحتى على الصعيد الاقتصادي فلم يتمكن برنامج سيد أحمد غزالي من انعاش الاقتصاد الجزائري , وغاية ما فعله أنّه زاد من ربط الجزائر بصندوق النقد الدولي وفي عهده تضاعفت الاتصالات بين صندوق النقد الدولي والجزائر والتي انتهت في أخر عهد حكومة رضا مالك بالرضوخ الكامل لشروط ميشال كامديسو مدير صندوق النقد الدولي, وعرض أبار النفط في حاسي مسعود للبيع, و أعتبر سيد أحمد غزالي نفسه مخفقا على الصعيدين السياسي والاقتصادي , فسياسيّا و بعد أن وعد باجراء انتخابات حرّة ونزيهة لم يف بوعده وكان من أوائل المرتدين عن الديموقراطية , واقتصاديا لم ينجح في تحريك عجلة الاقتصاد .
كما أنّ الذين أوحوا له أنّ مستقبله السياسي سيكون زاهرا لم يقفوا معه الى الأخير , وكان لزاما عليه بعد كل هذا أن ينسحب من رئاسة الحكومة , وخصوصا في ظلّ غياب الانسجام بينه وبين رئيس المجلس الأعلى للدولة المعيّن حديثا علي كافي .
وبعد استقالة حكومته تمّ تعيين بلعيد عبد السلام رئيسا للحكومة الجديدة , وقيل عندها أنّ البومدينيين قد عادوا الى الواجهة باعتبار أنّ علي كافي وبلعيد عبد السلام كانا محظوظين في عهد هواري بومدين , وتحديدا بلعيد عبد السلام صاحب فكرة التصنيع في العهد البومدييني .
ورئيس الحكومة المعيّن من قبل المجلس الأعلى للدولة بلعيد عبد السلام شارك في الثورة الجزائرية منذ اندلاعها , وكان يعتبر من الشخصيات الوطنية المعروفة ببغضها لفرنسا كما عبرّ عن ذلك شخصيّا أكثر من مرة , وبعد الاستقلال مباشرة وجد نفسه مسؤولا عن قطاع الطاقة والمحروقات وساهم مع هواري بومدين في تأميم النفط الجزائري , وانهاء احتكار فرنسا لتنقيب وتسويق النفط الجزائري . وعندما قاطعت فرنسا النفط الجزائري انفتح على الشركات الأمريكية و خصوصا شركة البازو الأمريكية التي وقعّت اتفاقا مع الجزائر بموجبه تشتري هذه الشركة النفط الجزائري ولمدّة 25 سنة .
وبسبب خبرته في مجال التصنيع أوكل اليه هواري بومدين مهمة تطوير الصناعة الجزائرية , وكان عندها وزيرا للطاقة والصناعات الثقيلة , وقد اتبعّ بلعيد عبد السلام نفس الخطط التنموية التي كانت سائدة في دول المحور الاشتراكي سابقا .
وعندما وصل الشاذلي بن جديد الى سدّة صنع القرار بعد وفاة هواري بومدين قام بتطهير النظام الجزائري من أركان البومديينية , ووجد بلعيد عبد السلام نفسه على الهامش , ولم توكل اليه أيّ مهمة رسمية عدا استمراره كعضو بارز في حزب جبهة التحرير الوطني , هذا الحزب الذي سحبت منه صلاحيات الحكم بعد ثلاثين سنة من الأحادية السياسية , لم تعرف فيها الجزائر غير جبهة التحرير الوطني حكما وسلطة وايديولوجيا ونهجا سياسيا.
وبسبب تهميشه من قبل الشاذلي بن جديد , وتضاؤل حجم جبهة التحرير التي كان ينتمي اليها انسحب فيما بعد من العمل السياسي كليّة .
و أثناء الانتخابات التشريعية الملغاة والتي جرت في أواخر كانون الأول – ديسمبر – 1991 رشحّ بلعيد عبد السلام نفسه في قائمة المستقلين محتجا بذلك على حزب جبهة التحرير الوطني التي باتت لا تزكي الاّ أقرب الناس اليها , ولم يحالفه الحظ في الفوز , ولم يتمكن من الحصول الاّ على صوته .
وعقب تعيينه رئيسا للحكومة خلفا لسيد أحمد غزالي قال : أنّ البعض يعيب عليه سقوطه في الانتخابات , وفجأة وجد نفسه في الواجهة !
وبالرغم من أنّ علي كافي وبلعيد عبد السلام عملا لفترة طويلة مع هواري بومدين , الاّ أنّ المستجدات الجزائرية فرقّت بينهما وتفاقمت بينهما الخلافات الى درجة أنّ رئيس المجلس الأعلى للدولة علي كافي وعندما كان في القاهرة للمشاركة في أعمال مؤتمر الوحدة الأفريقية قال : امّا هو أو أنا , وكان يقصد بلعيد عبد السلام .


بوصول علي كافي الى رئاسة المجلس الأعلى للدولة كانت المواجهات الدامية بين القوات النظامية والجيش الاسلامي للانقاذ الذراع العسكرية للجبهة الاسلامية قد اتسعّت رقعتها
وقبل ذلك كانت هناك الحركة الاسلامية المسلحة بقيادة عبد القادر شبوطي , وبرزت الى الوجود الجماعة الاسلامية المسلحة التي أعلنت عن نفسها كجماعة اسلامية مسلحة مستقلة عن الجبهة الاسلامية للانقاذ , والتي تزعمّها في البداية عبد الحق العايدية الذي اعتقلته السلطات المغربية في مدينة وجدة المغربية وقامت بتسليمه الى الأجهزة الأمنية الجزائرية , وتولّى قيادة هذه الجماعة بعده مراد سي أحمد الملقّب بجعفر الأفغاني وبعد مقتله من قبل قوات الأمن الجزائرية في منطقة بوزريعة وسط الجزائر العاصمة , تمّ تعيين صياح عطية أميرا لهذه الجماعة , وظلّت هذه الجماعة تفقد زعماءها الى أن تولىّ زعامتها عنتر الزوابري .
وقد أتخذّ المجلس الأعلى للدولة مواقف متشددة تجاه هذه الجماعات , وكان خطاب علي كافي يتسم بالتصعيد والمواجهة والحرب التي لا هوادة فيها مع الجماعات الاسلامية المسلحة , كما أنّ علي كافي صادق على تشكيل المحاكم الخاصة الاستثنائية التي تنظر في قضايا العنف السياسي وقد أصدرت هذه المحاكم عشرات الأحكام بالاعدام .
كما وضع المجلس الأعلى للدولة في عهد علي كافي قوانين مكافحة الارهاب التي جاءت مكمّلة للأحكام العرفية وقوانين حالة الطوارئ , وكان المجلس الأعلى للدولة في كل تحركاته و تصريحاته وقراراته يعكس رؤية الصقور داخل المؤسسة العسكرية , وفي الوقت الذي انصرف فيه المجلس الأعلى للدولة الى صياغة خطاب المواجهة وتوسيع رقعتها , كانت حكومة بلعيد عبد السلام تحاول اخراج الاقتصاد الجزائري من عنق الزجاجة ,
لكنّ بلعيد عبد السلام الذي استطاع في حقبة الحرب الباردة والظروف الدولية المعروفة أنذاك من تطوير الاقتصاد الجزائري , وجد نفسه في وضع محلي يتسم بالغليان والانفجار , وفي وضع عالمي ودولي مغاير كل المغايرة لما كان عليه واقع العالم في السبعينيات .
وبسبب خلفيته الاشتراكية والبومديينية , لم تكن باريس وواشنطن راغبتين فيه , بل انّ الادارة الأمريكية برئاسة بيل كلينتون أبدت انزعاجها لوجود بلعيد عبد السلام على رأس الحكومة الجزائرية . وعندما تأكدّ لبلعيد عبد السلام استحالة النهوض بالاقتصاد , لأن ذلك لا يتم بدون الوصول الى حلّ سياسي للأزمة القائمة , بدأ يخرج عن قواعد اللعبة ويدلي بتصريحات أزعجت المؤسسة العسكرية ورئيس المجلس الأعلى للدولة علي كافي , وقد أعلن بلعيد عبد السلام عن استعداده للتحاور مع المعتدلين في الجبهة الاسلامية للانقاذ مما أزعج الجيش , كما أنّه دخل في صراع مع الاعلام الجزائري المستقل بعد قيامه باغلاق بعض العناوين الصحفية .
وعندما عاد الرئيس السابق أحمد بن بلة من سويسرا التقى ببلعيد عبد السلام , وعندها طلب بلعيد من بن بلة أن يقنع الجنرال خالد نزار بضرورة اقالة الجنرالات المتشددين داخل المؤسسة العسكرية , وبعدها بأسبوع واحد وجد بلعيد عبد السلام نفسه مبعدا , وجرى تعيين رضا مالك رئيسا جديدا للحكومة .

وكثيرا ما كان بلعيد عبد السلام يطمح أن يكون الرجل الأول في الجزائر , وأثناء وجود علي كافي في القاهرة للمشاركة في أعمال منظمة الوحدة الافريقية , ألقى بلعيد عبد السلام خطابا مطولا بثّه التلفزيون الجزائري قال فيه : أنّ المؤسسة العسكرية هي التي جاءت به , وأنّه حائز على دعمها . وقد فسّر هذا الخطاب بأنّه تملق للمؤسسة العسكرية وتطلعّ الى الرئاسة . وعندما بدأ بلعيد عبد السلام يتحدث عن ضرورة الحوار والمصالحة الوطنية , وجد نفسه مقالا من رئاسة الحكومة ليحلّ محله رضا مالك الذي كان يعتبر من
الاستئصاليين الذين يؤمنون بضرورة الغاء كامل للتيار الاسلامي من المشهد السياسي الجزائري , كما تبنىّ مشروع استرجاع هيبة الدولة وتصعيد المواجهات ونقل معسكر الخوف من السلطة والى الأصوليين .
ورضا مالك الذي ينتمي الى منطقة باتنة مسقط رأس الجنرال خالد نزار أيضا , كان على علاقة وطيدة بالحزب الشيوعي الفرنسي , ثمّ بالحزب الشيوعي الجزائري الذي تأسسّ أثناء استعمار فرنسا للجزائر . وبعد الاستقلال انضمّ رضا مالك الى الخارجية الجزائرية حيث عيّن سفيرا للجزائر في بعض العواصم منها : موسكو , باريس , واشنطن و هي عواصم مهمة وكانت تهتم بالملف الجزائري وكل لغاية معينة .
وبعد الاطاحة بالشاذلي بن جديد عيّن رضا مالك رئيسا للمجلس الاستشاري وهو هيئة أقيمت مقابل البرلمان الملغى , وكان هذا المجلس يقوم بالمصادقة على القوانين التي يصدرها المجلس الأعلى للدولة , وكان هذا المجلس يضمّ 60 عضوا أغلبهم من اليسار والفرانكفونيين والبربر .
ومن القرارات الخطيرة التي اتخذها رضا مالك هو الغاء قانون التعريب الذي صادق عليه البرلمان الجزائري قبل حلّه من قبل الرئيس الشاذلي بن جديد , وكان قانون التعريب ينصّ على تعريب الدولة وادارتها وكل المفاصل الحيوية السياسية والتربوية , وكان يفترض أن يتمّ تنفيذ القانون في 05 تموز –يوليو – 1992 .
وبررّ رضا مالك موقفه من الغاء قانون التعريب بقوله أنّ الظروف الدولية لا تسمح بتعميم قانون التعريب !
كما أنّ لرضا مالك موقفا من الاستعمار الفرنسي , ففي كتابه – التقليد والثورة – يدعو الى نسيان الماضي والانفتاح على فرنسا والغرب عموما .
ووجود علي كافي على رأس المجلس الأعلى للدولة , ورضا مالك على رأس الحكومة أعطى انطباعا بأنّ الازدواجية باتت سيدّة الموقف في الجزائر , وأنّ التناقضات قد بلغت ذروتها , فكافي هددّ بفضح حزب فرنسا , ورضا مالك يعتبر أحد منظرّي هذا الحزب في الجزائر , وقد شهدت الجزائر عندما تولى رضا مالك رئاسة الحكومة ارتفاعا مضطردا للاعدامات والتصفيّات الجماعية التي كانت تقوم بها فرق الموت النظاميّة .

الوعود التي تقدمّ بها المجلس الأعلى للدولة بقيت حبرا على ورق , فلا هيبة الدولة أسترجعت , ولا الانعاش الاقتصادي تحققّ , ولا المعارضة الأصولية المسلحة تمّ القضاء عليها .
وبات واضحا أنّ الجزائر اتجهّت نحو عزلة خانقة وانكفاء كامل عن ممارسة دورها على مستوى محيطها المغاربي ومحيطها العربي والاسلامي , والجزائر التي كانت حاضرة في كل المحافل الدولية والتي كانت تستقبل العالم الثالث في عهد هواري بومدين , أصبحت فعليّا تعيش هاجس السقوط ومخاوف الانهيار .
وعندما تبنى المجلس الأعلى للدولة برئاسة علي كافي فكرة الحوار والاتصال بالأحزاب السياسية التي وضع نشاطها في ثلاجة , انقسمت الأحزاب الجزائرية على نفسها , فالأحزاب الوطنية والاسلامية كانت تعتبر من جهة أنّ الحوار ملغوم , وأنّ السلطة لديها مشروع معين تريد أن تمررّه , ومن جهة أخرى طالبت هذه الأحزاب باشراك الجبهة الاسلامية للانقاذ في أيّ حوار محتمل بين السلطة والمعارضة , أمّا التيارات الفرانكفونية واليسارية و البربرية – والمقصود هاهنا التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية بزعامة سعيد سعدي الذي كان يطالب بابادة جبهة الانقاذ الاسلامية , أما التيار البربري الأخر وهو جبهة القوى الاشتراكية بزعامة حسين أيت أحمد فكان على الدوام يطالب باشراك الجبهة الاسلامية للانقاذ في أي حلّ سياسي للأزمة القائمة في الجزائر – فقد كانت تطالب بالعنف المضاد والدخول في مواجهة شاملة مع الاسلاميين .
وقد اتهمّت الأحزاب الوطنية والاسلامية المجلس الأعلى للدولة بأنّه يناور لكسب الأحزاب الى صفه خصوصا و أنّ ساعة انتهاء مهامه قد حانت .
ومع تعددّ مراكز القوة , وصراع الحمائم والصقور داخل المؤسسة العسكرية ودوائر القرار أصبح الحوار مجردّ لعبة سياسية , ومجردّ نغمة جميلة .
ولكن مجرد طرح فكرة الحوار من قبل المجلس الأعلى للدولة كان مؤشرا على أنّ سياسة الحلول الأمنية و الاستئصالية قد وصلت الى طريق مسدود , وأنّ الاجراءات الصارمة والاستثنائية قد فاقمت الوضع الأمني و صعدّت الموقف وقد سقطت جرّاء ذلك كل المحاذير بل وسقطت لغة العقل و الحوار , وبات القتل والقتل المضاد هما السمتان الطاغيتان على الحالة الجزائرية . و لم يتمكن دعاة المواجهة الشاملة الذين وضعوا ثقلهم ومقدرات الجزائر في خدمة خطّ المواجهة من اعادة الاستقرار والهدوء الى الجزائر , وكاد الخراب يتسلل الى المؤسسة العسكرية التي ظلّت المؤسسة الوحيدة المحافظة على تماسكها حيث فرّ مئات الجنود من الثكنات وألتحقوا بقوافل الجماعات الاسلامية المسلحة في الجبال , وبدأت هذه المؤسسة تستشعر الخطر , ثمّ حدثت المفاجأة باستقالة الرجل الأقوى في الجزائر الجنرال خالد نزار من وزارة الدفاع .

يعتبر الجنرال خالد نزار وزير الدفاع من الشخصيات القوية التي أمسكت بخيوط اللعبة الجزائرية منذ انتفاضة خريف الغضب في 05 تشرين الأول – أكتوبر – 1988 والى تارخ استقالته , وكان خالد نزار وراء العديد من التطورات التي عرفتها الجزائر بعد أحداث أكتوبر .
وينتمي خالد نزار الى منطقة باتنة , وألتحق بصفوف الثورة الجزائرية في أواخر أيامها , وبعد الاستقلال أصبح خالد نزار رائدا في الجيش الجزائري وأتمّ تكوينه العسكري في المعاهد العسكرية في الاتحاد السوفياتي السابق ثمّ في فرنسا , وعندما وصل الشاذلي بن جديد الى الحكم , رقيّ خالد نزار الى رتبة لواء , وتمّ تعيينه رئيسا لهيئة الأركان , وعندما تخلى الشاذلي بن جديد عن وزارة الدفاع أصبح الجنرال خالد نزار وزيرا للدفاع حيث تمكنّ من تحديث المؤسسة العسكرية والامساك بخيوطها ومفاصلها . وقد عينّ نزار الموالين له داخل المؤسسة العسكرية في المناصب الحسّاسة ليضمن ولاء الجميع له وليجنبّ نفسه المفاجأت , وشهدت الجزائر بعد سطوع نجمه داخل المؤسسة العسكرية العديد من الأحداث منها :
- فرض حالة الحصار العسكري في 06 تشرين الأول – أكتوبر – 1988 .
- تعيين مدير المخابرات العسكرية الأسبق قاصدي مرباح رئيسا للحكومة الجزائرية بعد أحداث أكتوبر مباشرة .
- اقالة قاصدي مرباح وتعيين مولود حمروش خلفا له .
- اقالة مولود حمروش وتعيين سيد أحمد غزالي خلفا له .
- فرض حالة الحصار العسكري في 05 حزيران –يونيو- 1991 واعتقال قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ عباسي مدني وعلي بلحاج وغيرهما .
- الانقلاب على الشاذلي بن جديد وفرض حالة الطوارئ وحلّ الجبهة الاسلامية للانقاذ في 09 شبّاط – فبراير – 1992 .
- تأسيس المجلس الأعلى للدولة واستقدام محمد بوضياف الى الجزائر .


وبعد اقالة الشاذلي بن جديد أصبح الجنرال خالد نزار الرجل الأقوى بلا منازع , خصوصا في ظلّ تجذّر المعادلة التي مفادها أنّ الجيش هو النظام السياسي والنظام السياسي هو الجيش في الجزائر . وبالاضافة الى الجنرال خالد نزار فقد كان معه مجموعة من الجنرالات الذين كانوا يشكلّون مراكز القوة في ذلك الوقت ومنهم اللواء محمد العماري واللواء عباس الغزيل واللواء عبد المالك قنايزية الذي كان رئيسا لهيئة الأركان وأحيل الى التقاعد بعدها , والذي حلّ محله اللواء محمد العماري الذي أصبح ذا شأن كبير في المؤسسة العسكرية بعد خروج خالد نزار منها . و يعتبر الكثير في الجزائر اللواء محمد العماري بأنّه من أبرز الصقور داخل المؤسسة العسكرية , وهو ينتمي الى المنطقة القبائلية , وكان من الضبّاط الذين التحقوا بصفوف الثورة الجزائرية في أواخر أيامها , ويعرف هو وكثير من الجنرالات بأنهّم من ضباط فرنسا أي الضباط الجزائريين الذين عملوا في صفوف الجيش الفرنسي وألتحقوا بالثورة الجزائرية في أواخر أيامها و قبيل الاستقلال بقليل ,وقد سطع نجم محمد العماري في عهد علي كافي .
وفي عهد علي كافي شهد الوضع الأمني تصعيدا خطيرا , وبات واضحا أنّ السياسة الفولاذية لم تؤد الى أيّ نتيجة تذكر , فالجماعات الاسلامية المسلحة بدأت تكبر وتشكل خطرا حقيقيا على مصالح كثيرين في الجزائر , وبدأت دائرة الصراع تتسع , والاغتيال أصبح يطاول الأجانب والمثقفين والصحفيين ورؤساء الأحزاب , و قد تشكلت عندها فرق الموت ويقال أنّ الذي كان يشرف عليها هو الجنرال محمد العماري .

وكانت المؤسسة العسكرية في ذلك الوقت قد أعادت ترتيب نفسها , وتفاديا للخروقات تشكلت ثمانية أجهزة محصنّة . وتتوزع هذه الأجهزة كالتالي :

1- جهاز الأمن العسكري بقيادة الجنرال محمد مدين وأسمه الحركي الجنرال توفيق , وهو شخصية أمنية من الدرجة الأولى , ويدير أهم ثكنة في الجزائر وهي ثكنة بني مسوس الاستخباراتية .
2- جهاز مكافحة التجسس وكان يشرف عليه اللواء العماري اسماعيل المتخصص في اختراق الجماعات الاسلامية المسلحة , وهو الذي اكتشف أحد الوزراء الجزائريين وهو يسلّم بعض الملفات للسفارة الايرانية وعلى اثره قطعت العلاقات الجزائرية –الايرانية .
3- الأمن الخاص وكان يشرف عليه محمد طلبة الوزير المكلف بالأمن , ورئيس الدرك الوطني عباس غزيّل .
4- الأمن الخارجي وكانت وظيفته ملاحقة المعارضين في الخارج من اسلاميين وغيرهم , وهذا الجهاز شديد الصلة بمعظم أجهزة الاستخبارات العربية والعالمية .
5- جهاز الطوارئ وكان يشرف عليه اللواء محمد العماري قائد قوات مكافحة الارهاب والوحدات الخاصة .والذي كان يسميه الأصوليون الجنرال ماسو , هذا الجنرال الفرنسي الذي أرسله الجنرال شارل ديغول الى الجزائر لذبح الثورة الجزائرية و الثوّار الجزائريين عندما أصبحت الثورة الجزائرية تؤرّق المضجع الفرنسي والاليزيه على حدّ سواء .
6- البوليس السري وهو جهاز يلاحق أشخاصا من دائرة النظام يهددون الأمن القومي .
7- جهاز التنسيق ويقوم بالتنسيق مع بقية الأجهزة .
8- الأمن العام وفروعه المتشعبة .

وكثيرا ما كان عدم التوافق بين مراكز القوة يؤدي الى فشل الحوار أو المصالحة كما حدث فيما بعد , في عهد اليامين زروال .
وفي الوقت الذي اشتدّت فيه الخلافات بين دعاة الحوار ودعاة المواجهة , فاجأ رجل التوازن ومركز الثقل في لعبة التوازنات الجنرال خالد نزار الجميع باستقالته .
وقدمّ المراقبون داخل الجزائر أنذاك ثلاثة تفسيرات لهذه الاستقالة , فمنهم من أرجعها الى أزمة خالد نزار الصحية والمتدهورة , ولذلك فهو لا يقدر على الاستمرارية في ادارة اللعبة ومنهم من أرجع الاستقالة الى كونها انقلابا على الانقلاب , وبمعنى أخر هي لعبة جديدة من ألاعيب الصقور , ومنهم من أرجع الاستقالة الىكونها تندرج في سياق اعادة ترتيب بيت المؤسسة العسكرية , تمهيدا لاعادة ترتيب البيت السياسي , فخالد نزار وان كان قد أزاح بدنه عن البيت العسكري الاّ أنّ روحه و فكره وعلاقاته بمواليه ظلّت في شرايين المؤسسة العسكرية وهذا ما يفسّر بقاؤه محل احترام الجنرالات الذين أستلموا الراية من بعده .
وبقدر ماكانت استقالة خالد نزار مفاجئة لكثيرين , كان تعيين الجنرال المتقاعد اليامين زروال على رأس وزارة الدفاع مفاجأة أخرى . فالجنرال اليامين زروال كان أول جنرال في تاريخ المؤسسة العسكرية يقدّم استقالته للرئيس الشاذلي بن جديد , وقيل عن الاستقالة يومها أنّها اعتراض على مشروع رئيس قيادة الأركان خالد نزار القاضية بتحديث الجيش الجزائر ومعنى ذلك التعامل مع مصادر التسليح في الغرب , وبعد انسحابه من المؤسسة العسكرية تمّ تعيينه سفيرا للجزائر في رومانيا والتي كانت جبهتها الداخلية ملتهبة وأفضت الى اعدام رئيس رومانيا شاوشيسكو , وأنقطع عن العمل الديبلوماسي , وعن أي عمل سياسي مفضلاّ الاهتمام بأعماله الخاصة , وتشاء الظروف أو يشاء عرّاب الانقلابات داخل المؤسسة العسكرية الجنرال خالد نزار أن يصبح اللواء اليامين زروال وزيرا للدفاع ثمّ رئيسا للجزائر بعد انتهاء مهام المجلس الأعلى للدولة .
وبعد تعيين اللواء اليامين زروال على رأس وزارة الدفاع توجه هذا الأخير الى زعماء الجبهة الاسلامية للانقاذ في سجن البليدة العسكري و تحدث معهم بشأن الحوار و طلب منهم مساعدته في اخراج الجزائر من مأزقها الأمني .
وكلما كان الحوار يخطو خطوة الى الأمام كان دعاة المواجهة يفجرّون الموقف , فوجود اللواء محمد العماري واللواء محمد تواتي داخل المؤسسة العسكرية ورضا مالك على رأس الحكومة حال دون أن ينجح الحوار . وحتى لمّا تبنى بعض هؤلاء الحوار كان الهدف من ورائه تكريس وجودهم في دوائر القرار والنفوذ .
وأوشكت مهام المجلس الأعلى للدولة على الانتهاء في أواخر 1993 والجزائر تعيش على وقع المواجهات والاغتيالات والتفجيرات والتمشيطات والاشتبكات وبعبارة أخرى الانهيار الكامل …
والحوار الذي فتحه المجلس الأعلى للدولة مع الطبقة السياسية الجزائرية انتهى الى طريق مسدود ولجوءه الى الحوار في أخر عهده كان الهدف منه اشراك الأحزاب الجزائرية في تكريس سيناريو السلطة المقبل , خصوصا وأنّ المجلس الأعلى للدولة سينسحب من المشهد السياسي ولا يمكن تمديد ولايته لمرحلة انتقالية ثانية , فأعضاء المجلس الأعلى للدولة تعهدّوا أمام الشعب الجزائري بأنهّم سوف ينسحبون من الحياة السياسية في نهاية 1993 .
لكن ماهو البديل !
أفكار عديدة وبدائل كثيرة طرحها صنّاع القرار داخل المؤسسة العسكرية بشأن مواجهة الاستحقاق المقبل .وقد كثر اللغط حول هذه المسألة عندما فشلت لجنة الحوار التي شكلها المجلس الأعلى للدولة والتي كان يرأسها يوسف الخطيب وعضوية سبعة أشخاص , ثلاثة منهم جنرالات وهم الجنرال دراجي وصنهاجي وتاغيت .
وكانت لجنة الحوار قد اتصلت بحزب جبهة التحرير الوطني وجبهة القوى الاشتراكية فسمعت هذه اللجنة من هذه الأحزاب شرطا واحدا للتعاطي الجدّي مع السلطة وهو اشراك الجبهة الاسلامية للانقاذ في أي حوار جدي , وأي حوار بدونها سيكون حوار طرشان , أما حزب التحدي الشيوعي والتجمع من أجل الثقافة والديموقراطية البربري فقد كانا يعتبران الحوار مع الجبهة الاسلامية للانقاذ خيانة .
و أتصلت لجنة الحوار بقادة الانقاذ في سجن البليدة العسكري وسمعت الى شروط الانقاذ للدخول في أي حوار مع السلطة يكسبها شرعية ومن هذه الشروط : اطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين بما في ذلك قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ , محاسبة المتورطين في الجرائم السياسية , عودة الجبهة الاسلامية للانقاذ الى العمل السياسي والعودة الى المسار الانتخابي الملغى .
لكن الذين أوعزوا للجنة الحوار بالتحرك لم يستسيغوا هذه الشروط , وعملوا على تقديم بديلهم حتى لو كان من طرف واحد , وعندما حانت الساعة لانسحاب المجلس الأعلى للدولة في 31 كانون الثاني –يناير – 1993 وتفاديّا للدخول في شغور الدولة مجددا كما حدث عقب اقالة الشاذلي بن جديد , طالبت لجنة الحوار من هيئة الأمن العليا بتمديد فترة المجلس الأعلى للدولة الى نهاية كانون الثاني – يناير – 1994 , وبالفعل تمّ تمديد فترة المجلس الأعلى للدولة الى التاريخ المذكور , كما حددّت لجنة الحوار موعد 25 و26 كانون الثاني – يناير –1994 موعدا لانعقاد ندوة الوفاق الوطني .


رفضت الأحزاب الجزائرية الوطنية والاسلامية المشاركة في ندوة الوفاق , وتحديدا الأحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية الملغاة الجبهة الاسلامية للانقاذ , وجبهة القوى الاشتراكية و حزب جبهة التحرير الوطني , و حضر ندوة الوفاق الوطني رجالات النظام والمؤسسة العسكرية , ومن الأحزاب التي شاركت في ندوة الوفاق الوطني وأنسحبت في نفس اليوم حركة المجتمع الاسلامي –حماس – بزعامة محفوظ نحناح .
وندوة الوفاق الوطني كانت في الواقع ندوة للسلطة التي كانت تبحث عن مخرج للمأزق الذي كانت تتخبط فيه , وقبل انعقاد هذه الندوة وجه وزير الدفاع الجنرال اليامين زروال خطابا موجها الى الشعب الجزائري جاء فيه : أنّ الجيش الجزائري لن يبقى مكتوف الأيدي متفرجا على انهيار الجزائر .
وكانت المؤسسة العسكرية قبل انعقاد ندوة الوفاق الوطني اتصلت بعبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية في عهد هواري بومدين , والذي غادر الجزائر بعد اقصائه من أيّ مهام في عهد الشاذلي بن جديد , وكان اسمه قد ورد في لجنة المحاسبة التي شكلها الشاذلي بن جديد لمحاسبة أصحاب النفوذ الذين جمعوا ثروات هائلة من خلال مناصبهم ومواقعهم ,
وقد حاولت المؤسسة العسكرية اقناع عبد العزيز بوتفليقة بتولّي منصب الرئاسة , فطالب بصلاحيات واسعة , فما كان من المؤسسة السيدة الاّ أن قالت له عد من حيث جئت .
وجرى ايهام الرأي العام الجزائري بأنّ عبد العزيز بوتفليقة سيكون الرئيس المقبل , وحصلت المفاجأة أثناء انعقاد ندوة الوفاق الوطني , عندما أعلن الناطق باسم لجنة الحوار أنّ عبد العزيز بوتفليقة قد سحب ترشيحه , وعندها لم يجد مجلس الأمن الأعلى حلاّ غير تسمية الجنرال اليامين زروال رئيسا للدولة الجزائرية بالتعيين .


وبهذا التعيين تقررّ انهاء مهام المجلس الأعلى للدولة الذي حكم لفترة انتقالية بدءا من 16 كانون الثاني –يناير –1992 والى 31 كانون الثاني – يناير –1994 .
و محمد بوضياف الذي حكم الجزائر 166 يوما لم يتمكن من اخراج الجزائر من عنق الزجاجة , وكذلك علي كافي الذي انصبّ المجلس الأعلى للدولة في عهده على تقنين منطق المواجهة والاستئصال . لقد كان وجود علي كافي على رأس السلطة في الجزائر للتأكيد فقط على أنّ الدولة مازالت مستمرة , وأنّ الجمهورية مازالت قائمة , ولم يشفع له تمرسّه الديبلوماسي في اعادة جسور التواصل بين الجزائر والدول الأخرى , بل أزدادت الجزائر في عهده عزلة وانطواءا ,وقفز الصراع المغربي –الجزائري الى الواجهة باعتبار أنّ علي كافي ينتمي الى العهد الذي شهد بداية تصدع العلاقات بين الجزائر والمغرب .
لقد عجز علي كافي عجزا كاملا في ايجاد مخرج للأزمة الجزائرية , ربما بسبب كونه لم يحكم أصلا , بل كان صدى لأصحاب اللعبة الحقيقيين .
ومن بوضياف الى كافي تعمقّت أزمة الشرعية في الجزائر , وتأكدّ للجميع في الجزائر أنّ الحل لا يكمن في ذهاب هذا ومجيئ ذاك , بل انّ الحل يكمن في اعادة الاعتبار لارادة الشعب الجزائري و اعادة صياغة النظام صياغة سياسية بعيدة عن الأوصياء في مواقع الحل والربط وفي مواقع القوة .
وكان الجنرال اليامين زروال ينوي اعادة ترميم النظام من الداخل ولكن من زاوية حادة وليس من زاوية منفرجة !



بقلم : يحيى ابو زكرياء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق