الخميس، 26 مايو 2016

طرائق البحث التاريخي قـبل ابن خلدون

طرائق البحث التاريخي قـبل ابن خلدون




لم يكن علمُ المجتمعات، أو علم العمران، حسب تعبير ابن خلدون، أو علم الاجتماع (السوسيو لوجيا) بتعبيرنا الحديث، مطروحًا كمادة للدراسة والبحث قبل ظهور مقدمة ابن خلدون العملاقة.

ولم يكن قد خطر -إلا قليلاً وبطرق عفوية عابرة- لدى طبقات المؤرخين، على اختلاف مستوياتهم، أن (الكلَّ الاجتماعي)، بأجزائه وشرائحه الاجتماعية المختلفة، يخضع لقوانين ثابتة، ثبات القوانين التي يخضع لها (الكل الطبيعي- الفيزيقي)، بأجزائه المختلفة، أو (الكل الفلكي) بكواكبه ومجراته المختلفة.. وكان بديهيًا أن يكون التناولُ مجرد إشارات، وومضات، لموضوع لم يخطر على البال أنه أهلٌ للدراسة الموضوعية المتكاملة، تحليلاً وتركيبًا ، أجزاءً وكلاً!!

إن الناس في التاريخ العام مغيّبون.. إن القائد هو الذي يُذكر، ومن وراء القائد يقف الوالي، ومن وراء الوالي يقف ا لخليفة، وأما الناس فهم مجردُ أدوات يحركها هؤلاء، والتركيزُ - بالتالي- قد انصب على الفاعلين الظاهرين!

لكن هذا التركيز بعيد عن الحقيقة، فالحياة تمور هناك في سفوح المجتمعات وقيعانها، والعقول تتعلم الإبداع، والجهود تتكاتف عبر الأفراد والشرائح لتقديم فعل حضاري، يؤدي إلى فعل أكثر تقدمًا ووعيًا، وليس هؤلاء الفاعلون الظاهرون إلا محصلة نهائية لتطور حضاري ما، إنهم تعبير عن مستوى (القبيلة) أو (الدولة) أو (الخلافة).. ولو وقعت الفوضى، واختل نسيج المجتمع، وهتكت شبكة العلاقات، لفقدوا أماكنهم، ولأصبحوا تعبيرًا عن الفوضى الطوائفية الجديدة، والتحلل الاجتماعي الطارئ.. إن دور الفرد (البطل) لا يُنكر، إنه ليس مجرد صورة معكوسة في مرآة، لكنه (التعبير الحي) عن الوضع الحضاري، وهو المترجِمُ له، والقائد له، عندما يكون منتميًا وواعيًا وفاعلاً، وليس عالة على الحركة التاريخية.

كانت الطريقة التاريخية الغالبة -قبل ابن خلدون- التي ذهب أعلامُها بفضل الشهرة والإمامة المعتبرة مثل ابن إسحاق، والطبري، وابن الكلبي، ومحمد بن عمر الوَاقدي، وسيف بن عُمر الأسدي المسعودي (وإن كان في كتب المسعودي، والواقدي، من المطعن والمغمز، ما هو معروف عند الأثبات، ومشهورٌ بين الحفظة الثقات).. كانت هذه الطريقة الغالبة، التي مثلّها الأعلام السابقون، وغيرهم، تصفُ الظواهر وصفًا مجردًا من أي تحليل، يحاول استخلاص فرضيات، أو قوانين، تتعلق بطبيعة الظواهر، وكان ذلك نتيجة طبيعية لحصر هؤلاء لحركة التاريخ في شريحة واحدة، هي شريحة الساسة والعسكريين، الذين يمثلون مساحة ضئيلة، بالنسبة لمساحة الأمة.

وكان أقطابُ هذه الطريقة التاريخية الغالبة، يحصرون علميتهم في حشد الروايات، وتوثيق السند، دون القيام بنقد الأخبار، على أساس طبائع العمران، ومنطق العقول، فَهُم قد حصروا التاريخ (كماً) في الشريحة السياسية، وحصروه (كيفاً) في الاكتفاء بتوثيق السند، يقول الطبري، إمام هذه المدرسة:

( فما يكن في كتابي هذا -يعني: تاريخ الأمم والملوك- من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئُه، أو يستشنعه سامعُه، من أجل أنه لم يَعْرفْ له وجهًا في الصحة، ولا معنى له في الحقيقة، فليعلم أنه لم يُؤت في ذلك من قِبَلِنا، وإنما أُتي من قِبَل بعض ناقليه إلينا، وإنما أدَّينا ذلك على نحو ما أُدَّي إلينا).

وحتى لو عالج أصحابُ هذه الطريقة بعض نظم السياسة، والقضاء، والاقتصاد، والمجتمع، والأسرة، والتربية، والعقائد، فإنما يعالجونها بطريقة مفككة، لا صلة لها بنسيج المجتمع العام، ولابحركته، بل كثيرًا ما كانت الظاهرة تتفكك تبعًا للأعوام أو الحدود الجغرافية، والسياسية.. وينتمي إلى هذه الطريقة أيضًا، هؤلاء الذين مالوا إلى شيء من التخصص في المكان والزمان، وعدلوا عن الإطلاق إلى التقييد، فقيّدوا شوارد عصرهم، واستوعبوا أخبار أُفْقِهم وقُطْرِهم، واقتصروا على تاريخ دولتهم ومِصْرهم، كما فعل أبو حيّان مؤرِّخُ الأندلس، والدولة الأموية بها، وابنُ الرقيق مؤرخ إفريقية والدولة التي كانت بالقيروان.. فإن هؤلاء المتخصصين، لم يستطيعوا الخروجَ عن الطريقة الوصْفية التقليدية، ولم يتوفّر لهم منهج نقدي للمتن دراية وتحليلاً.

وثمة طريقةٌ ثانية، تألقت عند بعض المؤرخين، والعلماء، والمفكرين، كان أصحابُها يدعون إلى المبادئ، التي تفرزها الظواهر الاجتماعية، وتتفق مع معتقدات الأمة وأخلاقها، فهي ترغِّب في هذه المبادئ، وتحثّ عليها، وهذه طريقة اشتهر بها ابنُ مسكويه في كتاب: (تهذيب الأخلاق)، وابن قُتيبة في: (عيون الأخبار)، والماورديّ في: (الأحكام السلطانية)، والطرطوشي في كتابه: (سراج الملوك)...

وعن هذا الكتاب الأخير، يقول ابن خلدون، رافضًا هذا المنهج في علاج الظاهرة الاجتماعية: (وكذلك حوّم القاضي أبو بكر الطرطوشي في كتابه (سراج الملوك)، وبوَّبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا، ومسائله، لكنه لم يصادف فيه الرَّميَّة، ولا أصاب الشاكلة، ولا استوفى المسائل، ولا أوضح الأدلة، إنما يبوِّب الباب للمسألة، ثم يستكثر من الأحاديث والآثار، وينقل كلمات متفرقة لحكماء الفرس، مثل بَزَرْجَمْهر، والمربذان، وحكماء الهند، والمأثور عن دَازَال وهِرْمس، وغيرهم من أكابر الخليقة، ولا يكشف عن التحقيق قناعًا، ولا يرفع عن البراهين الطبيعية حِجَابًا، وإنما هو نقلٌ وتركيبٌ، شبيهٌ بالمواعظ، وكأنّه حوّم على الغرض ولم يصادفه، ولا تحقق قصده، ولا استوفى مسائله)، وما ينطبق على الطرطوشي، ينطبق على أفراد هذه الطريقة بصورة إجمالية.

ويأتي أصحاب الطريقة الثالثة، من مناهج الكتابة التاريخية، الذين رصدهم ابنُ خلدون، ورفضهم، وعاب عليهم طريقتهم، إنّهم الذين حاولوا جعل التاريخ متونًا تعليمية مختصرة، شبيهة بالأجرومية، فذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك (مقطوعة عن الأنساب والأخبار، موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار، كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل).

وأمام هذه المناهج التقليدية، التي أفقدت المادة التاريخية رُوَاءها ، وأفقدت الدراسة التاريخية جزءًا من علميتها وفائدتها -مع أنها أدت دورًا لا يُستهان به في ظل ظروفها وعصورها- ألزم ابن خلدون نفسه أن يُنصف تاريخ الأمة، بمجتمعاتها الإسلامية، فيفصل أخبارها بابًا بابًا، ويبدي في هذا الرصد لأولية الدول والعمران عِللاً وأسبابًا، وينبّه (على أخبار الذين عَمَروا المغرب في هذه الأعصار، وملأوا أكناف الضواحي منه والأمصار، وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار، ومن سَلَف لهم من الملوك والأمصار، وهما العرب والبربر).. ويشرح فيه (من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها).. وكذلك يبين لك (ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب، والعلوم والصنائع، بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة، وتندفع بها الأوهام، وترتفع الشكوك).



ومن باب الحصر والإيجاز، نذكر أن ابن خلدون أخذ على المؤرخين السابقين أخطاء منهجية أساسية، أهمها:
1 ـ عدم الموضوعية، بسبب (التشيّعات للآراء والمذاهب).
2 ـ عدم تحكيم العقل في ضوء قوانين الطبيعة، التي وضعها الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا قبلوا بعض المستحيلات عقلاً.
3 ـ الجهل بطبائع الأشياء، ولا سيما قوانين الحضارة، وكيفية تدرج الأمور والحوادث، وفق قوانين محددة للتطور والسقوط.
4 ـ عدم إدراكهم للأهداف الاجتماعية، والمعاشية، والتاريخية.
5 ـ عدم وجود معيار منهجي، تُنقد به الوقائع والأخبار.
 

يارب الموضوع يعجبكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق