الخميس، 26 مايو 2016

في ذكرى ابن خلدون ( الفساد مؤذن بخراب الدولة )

في ذكرى ابن خلدون ( الفساد مؤذن بخراب الدولة )


أحسنت جمعية البحوث والدراسات في اتحاد الكتاب العرب، حين قرّرت تكريس ندوتها الفكرية السنوية لإحياء ذكرى العلامة الكبير عبد الرحمن بن خلدون بمناسبة مرور ستمئة عام على وفاته. وابن خلدون يستحق الدراسة والتكريم في كل وقت، فهو ليس مجرد شخصية فكرية تاريخية، وإنما هو قيمة ثقافية مستمرة، لم يطمسها غبار الزمن، ولم تمحُ رونقها الاكتشافات العلمية الحديثة في مجالي التاريخ وعلم الاجتماع. وما يزال الباحثون يشيرون إلى سبق هذا العلاّمة إلى الكثير من الآراء والاستنتاجات التي تحتفظ بصوابها برغم مرور العقود وتبدّل الأحوال وانتقال البشرية إلى نُظُم أكثر رقياً مما كان الأمر عليه في القرن الرابع عشر الذي عاش فيه ابن خلدون ووضع مؤلفاته الخالدة.
كان ابن خلدون رائداً في المجالات التي كتب فيها، ويعدّه الكثيرون مؤسّساً حقيقياً لعلم الاجتماع، لأنه درس (العمران) والعوامل المؤثرة فيه، ودور الدولة والشعب والملامح العامة التي تميز دولة من أخرى وشعباً من غيره، كما درس الحراك المجتمعي مركزاً على أهمية العامل الاقتصادي فيه.
كما أن ابن خلدون نقل البحث التاريخي نقلة نوعية، تجعله في مصاف المؤرخين المؤسسين، لأنه لم يكتف برصد الأحداث التاريخية ودور الشخصيات المختلفة فيها، بل وضع يده على الحركة التاريخية، منتقلاً من الخاص إلى العام، موصلاً القراء إلى استنتاجات تتجاوز الزمن الذي عاش فيه، والمجتمعات والدول والحقب التاريخية التي درسها، لتكون أشبه (بقوانين) مستخلصة من الأحداث والتطورات، وهو بهذا، أسهم في جعل التأريخ علماً، بعد أن كان عرضاً وسرداً يمزج الأحداث الواقعية بالخيال والأساطير والخرافات، وبعد أن كانت الأحداث تربط بعلل ميتافيزيقية، أو بقدرات خارقة لأشخاص يكاد الباحث يخرجهم من دائرة البشر ويسبغ عليهم نفحة إلهية.
قد يرى بعض القراء أننا نبالغ في إضفاء الصفة العلمية على إنجازات ابن خلدون، وقد يستشهدون بأقوال له، فيها بقايا مما كان عليه التأريخ قبله وقبل زمنه.
وانطلاقاً من ذلك، نجد من الضروري تأكيد فكرة أساسية، وهي: أن ابن خلدون، برغم بعض رواسب الماضي وبقاياه في أبحاثه، أرسى دعائم علمية جديدة للبحث التاريخي والاجتماعي، ولم تؤثر تلك البقايا والرواسب على المنهج العام الذي اختطه في البحث، وهو يقوم على دراسة الظاهرة كما هي، ووضع اليد على الخط العام لتطورها، واستنتاج ما توحي به من (قوانين) أساسية.
ولعل قارئ ابن خلدون اليوم يجد في أفكاره ما يساعد في فهم الواقع الراهن، برغم ستة العقود التي انصرمت. ويكفي أن نذكر تحليل ابن خلدون لظاهرة الفساد في الدولة والمجتمع، ودورها في انحلال الدول وانهيارها، لنعرف كم كان ذلك المفكر دقيقاً في بحثه واستنتاجه، وكم تمتلك أفكاره من قدرة على الحياة والاستمرار.
درس ابن خلدون ظاهرة الفساد في المجتمع، ورصد مظاهرها، وحلّل عواملها الاقتصادية بالدرجة الأولى، دون أن يغفل عن العوامل الأخرى، ووجد أن (الفساد مؤذن بخراب الدولة)، وأكّد أن الدول تتفسخ وتنهار بسبب استشراء الفساد المتنوع المجالات والأشكال، والعجز عن محاربته، ورأى أن القائمين على الدولة في مختلف الميادين هم منبع الفساد، وأن القوانين التي يسنّونها والقرارات التي يتخذونها، وهي تنطلق من مصالحهم، تؤدي إلى انتشار الفساد واستشرائه.
وأشار ابن خلدون إشارة واضحة إلى أن انتشار الفساد يدفع بعامة الشعب إلى مهاوي الفقر والعجز عن تأمين مقتضيات العيش، كما يدفع بالمنتجين إلى التذمر والضيق، لأنهم يرون أن قسماً كبيراً من جهدهم ينهب منهم أو يؤخذ دون وجه حق، ويرصد أثر ذلك كله على موقف الناس من الحكومة، ويجده بداية لشرخ يؤدي إلى انهيار الدولة.
الانهيار، حسب ما أكّده ابن خلدون، لا يصيب الحاكمين فقط، ولا يؤدي إلى استبدال سلطة بأخرى، بل إنه يدمر الدولة كلها، أي يدمر المجتمع اقتصادياً، ثم سياسياً وثقافياً.
المسألة إذاً، ليست مسألة حكومة فاسدة تنهار أو تزول، بل مسألة مصير مجتمع بأسره، ويستنطق ابن خلدون التاريخ بدقة ومهارة، ليجد أن الدول تنشأ وتنمو وتصل إلى قمة مجدها، ثم تضعف وتموت. ومن يقرأ ابن خلدون بدقة، يستنتج أن الدولة تبدأ بمشروع سياسي أو عمراني (كلمة عمران لدى ابن خلدون لا تعني بناء البيوت أو غيرها بل تعني النشاط الاجتماعي كله) تحققه غالباً، لكنها بعد ذلك تسترخي وتترهل وتتآكل وينخرها الفساد ويودي بها.
لنا أن نستنتج من دراسة ابن خلدون للفساد ودوره التدميري أن الفساد موجود تاريخياً، وأنه طبيعي في كل مجتمع، لكن لنا أن نستنتج أيضاً، أنه داء خطير يقود الدولة إلى نهايتها.
الفساد تاريخي، لكنه في زمننا فساد معاصر، أي إن له أساليبه الجديدة، ونفوذه غير المرئي في كثير من الأحيان. لكن عصريته لا تبطل دوره التدميري، ولا تنجي الدولة من آثاره. ولعل قارئ ابن خلدون يصل إلى أن محاربة الفساد محاربة جدية هي سبيل إنقاذ الدولة من الانهيار، وصيانة أي موقف وطني سليم.
إن من أهم ما يمكن قوله في هذا المجال، أن الفاسد لا يمكن أن يكون وطنياً مخلصاً صادقاً، لأنه ينطلق في سلوكه ومواقفه من مصالحه الخاصة، ويقدمها على مصالح الوطن والشعب، ويجري وراءها بمختلف الوسائل، فيلتفُّ على القوانين، أو يسعى إلى إصدار قوانين تمكنه من الربح وإن ألحقت الأذى بعامة الناس، وأدت إلى إضعاف الوطن. وهل يكون لذلك، حين يتراكم ويتفاقم، إلا دور واحد، هو تدمير الدولة والمجتمع، كما أكد ابن خلدون؟
أفلا ندرك أن ابن خلدون ما يزال معاصراً إلى حد كبير، وأن استلهام (دروسه) عن الفساد وغيره مفيد لنا في نضالنا لإنقاذ مجتمعنا وحماية وطننا؟
 

يارب الموضوع يعجبكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق