الخميس، 26 مايو 2016

الاصول الاسلامية لنظريات ابن خلدون

الاصول الاسلامية لنظريات ابن خلدون



لم يكن لرجل في مثل عقل ابن خلدون، إلا أن يكون "رجل تاريخ"، بالمعنى المزدوج، يكتب التاريخ ويفعله، يتأثر بالتاريخ، ويؤثر فيه، إنه مؤرخ وإنسان تاريخي، وبصرف النظر عن الهدف الذي يسوق من أجله (عبد الله العروي) النص التالي، ومع اختلافنا مع هدفه، إلا أننا نوافقه على أن ابن خلدون، يمثل: "راويًا مثل غيره من الرواة، عندما يتكلم على أصول العرب، والبربر، والترك.. شاهدًا بل صحفيًّا، عند ما يتكلم على نفسه، وعلى سلاطين بني مرين.. مؤرخًا يزاحم في الإتقان والنباهة، والاطلاع، (المسعودي) أو (البيروني)، منظرًا لقواعد الكتاب التاريخية، مبدعًا لعلم العمران في مستوى فلاسفة عه التنوير.. كاشفًا عن الحقيقة التاريخية، كميزة بشرية" .. إلا أن ما لم يدركه العروي، أن كل ذلك كان وفق منهج إسلامي، وكان انبثاقة عن روح إيمانية، ولم يكن دنيويًا أو علمانيًّا…

إن ابن خلدون، مثل سابقيه الموسوعيين العظماء، الذين نبغوا في أكثر من تخصص، وكانوا قادرين على المزج بين العلوم الشرعية، والإنسانية، والطبيعية، ويرونها كلها -إذا صلحت النية والهدف- علومًا إسلامية.

ويأتي الخطأ في توجيه آراء ابن خلدون وتقويمها، عند ما تُتجاهل هذه (الحقيقة الإسلامية الموسوعية)، عند ابن خلدون، فأي محاولة للنظر لابن خلدون بعيدًا عن انتماء عقله للمنهجية الإسلامية القرآنية، التي تتجاوز كل ضغوط الحاضر السياسية، وإسقاطاته الفكرية، وتحقق لصاحبها موسوعية في الفكر… وقفزًا فوق إسقاطات الواقع، أي محاولة من هذا القبيل محكوم عليها بالفشل.

ومع ذلك، فما أكثر الدراسات، التي تجاهلت هذه الحقيقة، ونظرت إلى ابن خلدون بمنظار معين، وحاولت نزع انتمائه عنه، وإلباسه رداءًا لا يصلح له، ضيًّقا كان أو فضفاضًا.

وكم من قراءة معاصرة لأفكار ابن خلدون، لا تتوافر فيها شروط الجودة البحثية، والعطاء الفكري، إلا نادرًا.. وكم من قراءة عائبة المنطلق، قاصرة النظر والمنهج، وكم من قراءة تتخذ الخلدونية ذريعة مختزلة تمارس فيها وحولها، شتى أنواع التهافتات، والإسقاطات المفهومية، ذات الجعجعة ولا طحين.. هذا فضلاً عن القراءاتـ، التي تتم في حالات الغفوة والسهو، وأخرى مدرسية، أو مكتظة بالنسوخ والاجترارات.

لقد بلغ من هذا الإسقاط التأويلي، الذي يعتسف مفردات اللغة ودلالاتها، ويلغي معجميتها، ويجعلها كائنًا زئبقيًا قابلاً لأي تشكيل.. بلغ هذا الإسقاط إلى المستوى الذي يعتمد فيه (محمد عابد الجابري) عبارة "مكسيم رودنس"، التي يصف فيها تراث "كارل ماركس" بأنه تراث من اليسير أن نجد فيه ما يبرر أية فكرة، فيرى الجابري أن هذا الوصف يصدق أيضًا على مقدمة ابن خلدون: "فإن المؤمن، والملحد، والكاهن، والمشعوذ، والفيلسوف، والمؤرخ، ورجل الاقتصاد، وعالم الاجتماع، وحتى كارل ماركس نفسه، كل أولئك يستطيعون أن يجدوا في (المقدمة) ما يبررون به أي نوع من التأويل يقترحونه لأفكار ابن خلدون".

بل إن الأمر، يمتد إلى مصادرة المستقبل في التعامل مع أفكار المقدمة، فيقفز بنا أحد الكُتَّاب إلى التيئيس الكامل من أية قراءة مستقبلية، تزعم أنها انتهت إلى قراءة محددة لأفكار ابن خلدون الواردة في المقدمة.. فالعامة الذين يظنون أن الأفكار الخلدونية أضحت مكشوفة بدليل المئات من الدراسات المتراكمة، والخاصة الذين صاغوا حول التراث الخلدوني أطروحات، والواحد منهم تحدوه الرغبة في أن يقول: إني آخر القارئين… كلتا الفئتين تخطئ الصواب، وتغلّب الوهم.

إن هذين القولين مردودان، جملة وتفصيلاً، وهما لا يستقيمان إلا في إطار المنهجية الظالمة المتأولة، التي ترى أن كل نص مهما كان وضوحه، وانسجامه مع اللغة، والعقل، والمنطوق، والمفهوم، يمكن تأويله وتوجيهه، وفق دعوى منهجية معينة (عصرانية) أو (ظرفية تاريخية) أو (تحديثية).

إن التأويل في رأي هؤلاء (أي إخضاع النص لهوى الباحث وأفكاره)، منهج ألسني و (سوسيولوجي)، يسمح (بتحريف) كل النصوص، (وتعبير التحريف هو التعبير الصحيح)… حتى تزول معلم اللغة، وضوابطها، ودلالاتها، باسم (التاريخانية)، ومعالم العقل، والمنطق، والدين، باسم (القراءة العقلانية المعصرنة للنص !!).

ومهما يكن تقديرنا الكبير لمقدمة ابن خلدون،وقابليتها لاسترسال القراءات، وتراسلها، إلا أننا لا نراها فوق (إمكان القراءة المحددة)، حتى ولو كانت من "أمهات النصوص، حافلة بالدقائق والمعاني، غنية بقدرتها على تفجير قرائح القارئين، واجتهادات المؤولين" . . فكل الأمهات - حتى الكتب المقدسة - تقبل القراءة المحددة، إذا ما احترمت اللغة، ودلالاتها الظاهرة الواضحة، وأوقف هذا السيل من العبث باللغة، والعقل، والموضوعية، باسم التأويل، الذي لا يحكمه ضوابط صارمة، وإلا فإن كل فكر هو لا فكر، وكل معنى هو لا معنى‍‍

تمتاز أفكار ابن خلدون، التي ترد في المقدمة، بأنها ترد وفق منهجية شمولية، تمزج بين جوانب المعرفة الإنسانية، مزجًا كاملاً، وتنظر للإنسان نظرة عضوية مترابطة، ثم تنطلق من ذلك إلى النظر للمجتمعات دون تشقيق، ثم ترى في الحضارة كائنًا حيًا يشبه الكائنات الحية العضوية، أو يكاد، يخضع للشروط نفسها، وللتكاملية بين العوامل الفاعلة فيه، على النحو الذي تخضع له المجتمعات والإنسان الفرد.. ويوشك ابن خلدون، أن يضع أيدينا على أعمار الدول، أو الدورات التاريخية المتعاقبة، وكأننا نشاهد طفلاً ينشأ، ثم ينمو، ثم تدب في مُحيّاه مخايل الشباب... ثم ينحدر بطيئًا إلى الشيخوخة.

هذه النظرة، التي قد يختلف فيها كثيرون معه، إنما كانت فقهًا خلدونيًّا اجتماعيًّا، لما ورد في القرآن الكريم، والسنة النبوية، حول تداول الأيام بين الناس، وحول أثر الظلم،والترف، والكفر بأنعم الله في سقوط الدول، قال تعال: (لكلّ أمةّ أجلُ إذا جاء أجلهم فلا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون )(يونس:49). وقال تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس )(آل عمران:140). وقال تعالى: (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكانٍ فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون )(النحل:112). وقال تعالى: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون )(الأعراف129). وقال تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون )(القصص:59).

بل إنني أرى أن ابن خلدون قاس الدولة، أو الدورة التاريخية، قياسًا كاملاً على عمر الفرد، ومراحل تطوره، على ضوء الآية القرآنية الكريمة: (خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفًا وشيبة )(الروم:54).

كما أننا لا نستطيع أن نتهم ابن خلدون بالغفلة عن القصص القرآني، وعواقب كل أمة، كما فصّلها الوحي الكريم، بل إننا نراه في المقدمة، وفي العبر، على وعي كامل بالقصص القرآني، والعبر، المستخلصة منه، سواء في جانب الرخاء، والنعمة، والمن، والنصر، وغيرها من ثمار الإيمان، والالتزام بشريعة الله، أم في جانب الترف، والظلم، والانحلال، وغيرها من مظاهر البعد عن الشريعة والكفر بنعمة الله، والعواقب الحتمية الوخيمة - مهما طال الزمن - لهذه السلوكيات الجالبة لغضب الله،والمدمرة للحضارة.

ولم تكن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، في شؤون الحياة كلها، بعيدة عن فكر ابن خلدون، بل إن ابن خلدون، ابن روحي للإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وقد ولي القضاء في مصر ست مرات على المذهب المالكي، ومعروف أن المذهب المالكي من مذاهب الحديث والأثر، وليس من مذاهب الرأي، وهذا يلزم الفقيه المالكي، الملتزم، فضلاً عن القاضي المالكي، أن يكون على وعي تام بالسنة والأثر.. والدارس لفكر ابن خلدون، يكتشف بسهولة عمق الصلة بين آراء ابن خلدون في النظام السياسي بعامة، ونظام الحكم بخاصة، وبين السنة النبوية والقرآن الكريم.

إنه منذ البداية يقرر أن أحكام السياسة القائمة على النظام الدنيوي (العالماني)، طريق خراب للناس، فهي تحصرهم في مصالح الدنيا فقط، وتقتل فيهم الجانب الأخلاقي، ووازع الضمير، وترتفع بحريتهم الفردية، ومصالحهم الذاتية، على مصالح الأمة، ومصالح الملّة.

وبعد أن يُقدم ابن خلدون نماذج من الحكومات الدنيوية (العالمانية)، يرفضها جميعًا، ويدعو المسلمين إلى الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية، التي هي الضمان الوحيد لكفاية العباد، وإسعادهم، وضمان انقيادهم والتزامهم.. يقول ابن خلدون عن هذه الحكومات الدنيوية:

"وقد أغنانا الله عنها في الملة والخلافة، لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة، والخاصة، وأحكام الملك مندرجة فيها".

ويصف هذه الحكومات الدنيوية العالمانية، بأسوأ الصفات قائلاً:

"…فما كان منه - أي من نظام الحكم - بمقتضى القهر، والتغلب، وإهمال القوة العصبية في مرعاها، فجور وعدوان" "وما كان منه بمقتضى السياسة وأحكامها، فمذموم أيضًا، لأنه نظر بغير نور الله، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، لأن الشارع أعلم بمصالح الكافة، فيما هو مغيب عنهم، من أمور آخرتهم. وأعمال البشر كلها عائدة عليهم، في معادهم، من ملك أو غيره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما هي أعمالكم ترد عليكم"، وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط، يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم، فوجب بمقتضى الشرائع، حمل الكافة على الأحكام الشرعية، في أحوال دنياهم وآخرتهم".

وعندما كان ابن خلدون يتحدث عن نظريته في "أن الدولة لها أعمار طبيعية، كما للأشخاص"، وهي النظرية التي تمثل جوهر فكره في (الدورة العضوية) للدولة، أو (للحضارة)، حسب فهم بعضهم، كان القرآن، هو مصدره لهذا التصور.. ونحن نرى هذا جليًّا في قول ابن خلدون: "إن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال، والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين، الذي هو انتهاء النمو، أو النشوء إلى غايته، قال تعالى: (حتى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة )(الأحقاف:15)، ولهذا قلنا: إن عمر الشخص الواحد هو عمر الجيل، ويؤيده ما ذكرناه في حكمة التيه الذي وقع في بني إسرائيل، وأن المقصود بالأربعين فيه، فناء الجيل الأحياء، ونشأة جيل جديد آخر، لم يعهدوا الذل ولا عرفوه".

وهكذا كان ابن خلدون، وهو يتحدث في الفكر التاريخي، أو العمراني، أو السياسي.. يعتمد على القرآن والسنة، وقصص الأنبياء، اعتمادًا مباشرًا، وكان لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مكانة متميزة في استشهاداته، واقتباساته، ، وقياساته. . . كما أنه تحدث عن الرسول عليه السلام، التي يدعو إليها ابن خلدون، ويعمل على بيان جدارتها، وأحقيتها وحدها، للتطبيق على المجتمع الإنساني.

لقد صمم ابن خلدون، نظرية العمران، أو المجتمع الإنساني، على أنه مجتمع "إسلامي" الحكومة والرعية، وقد خصص المقدمة كلها - إلا في القليل - لهذا الأمر، وقرر ضرورة أن يكون الحكم خلافة، وأن الخلافة لحراسة الدين وسياسة الدنيا، ورفض الحكم الدنيوي العلماني العقلي، والحكم الطبيعي الشهواني، وحدد المعالم الكبرى لنظام الحكم، معتمدًا على الرسالة التي وجهها طاهر بن الحسين إلى ولده عبد الله بن طاهر، لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما، كما حدد معالم نظام القضاء، وآدابه، معتمدًا على الرسالة التي وجهها الخليفة العظيم عمر بن الخطاب ، إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.

وعلى الرغم من الجهود الهائلة التي يبذلها - وبذلها بسخاء وإسراف شديدين - الشيوعيون المندثرون والعلمانيون الملحدون، والقوميون غير الإسلاميين، فإن نسيج المقدمة كلها، ألفاظًا ومصطلحات ولغة واستشهادات، وأفكارًا، ومضامين، هو نسيج إسلامي، ينبع من مصادر الإسلام الأساس، ومن الفكر المعتمد والموثق في التراث الإسلامي.

وكل المحاولات غير العلمية، بل والسوقية أحيانًا، التي حاولت توجيه أفكار ابن خلدون توجيهًا ماديًا، أو علمانيًا عقليًا، لا صلة له بالوحي، هي محاولات تتحدث عن شخص آخر غير ابن خلدون، وعن مقدمة أخرى غير مقدمة ابن خلدون.. بل إنها تتحدث عن كاتبها المادي، وفكره غير الديني.

إن أحد الباحثين الغربيين، وهو (دي بوير) الهولندي، يذكر أن الدين لم يؤثر في آراء ابن خلدون العلمية بقدر ما أثرت الآراء الأرسطوطاليسية الأفلاطونية.. ويشير باحث آخر، هو (ناتانيل شميت)، الأستاذ في جامعة كورنل بأمريكا، إلى أن ابن خلدون، إذا كان يذكر خلال بحثه كثيرًا من آيات القرآن، فليس لذكرها علاقة جوهرية بتدليله، ولعله يذكرها فقط ليحمل قارئه على الاعتقاد بأنه في بحثه متفق مع نصوص القرآن!!

وثمة مستشرق ألماني هو (فون فيسندنك)، يقول: إن ابن خلدون، تحرر من أصفاد التقاليد الإسلامية في درس شؤون الدولة والإدارة وغيرهما، وأنه حرر -كذلك- ذهنه من القيود الفكرية، التي ارتبطت في عصره بالعقائد العربية.

لكن المستشرق (غوستاف ريختر) ينفي هذه الصورة التاريخية المسقطة على ابن خلدون، ويؤكد أن المقدمة تقف شامخة باعتبارها ذروة من ذري الإبداع في العصور الوسطى كلها.

ويقول (ريختر): "إن إنجاز ابن خلدون، إنجاز لا يبتعد كثيرًا عن الروح العربية الإسلامية، كما يحلو للبعض أن يصور. إن ابن خلدون، الذي تتميز نظريته بالطابع الواقعي التجريبي، يبقى في السياق العالم للثقافة الإسلامية، ولا يخرج عليه، كما لا يحاول تغييره.

إنه يبقى عالمًا مسلمًا، عميق الاطلاع، ومنظومته نفسها، لها حدودها، التي هي حدود الثقافة العربية الإسلامية"!!

ومن الطريف.. أن يتولى مستشرق مثل (هاملتون جب)، في كتابه المعروف: دراسات في حضارة الإسلام)، الرج على العرب العلمانيين، والمستغربين، الذين يسعون إلى توجيه المقدمة، وصاحبها توجيهًا يخدم أفكارهم المادية، وغير الدينية.

وقد أشرنا من قبل إلى أن المفكر المصري المعروف: (عبد الرحمن بدوي)، مع نزعته الوجودية، والاستغرابية -خضع للحكم العلمي- فأكد الإسلامية الالتزامية الواضحة لابن خلدون ومقدمته، وأدان كل محاولات تحريفها، وفق أفكار مذهبية، أو عنصرية.

أما (هاملتون جب)، فإنه - في فصل كامل في كتابه، الآنف الذكر، يتولى الرد على نموذج من هذه النماذج الانهزامية الاستغرابية، وهو الأستاذ (كامل عياد) في أطروحته التي قدمها لإحدى الجامعات الأوروبية، بعنوان: (نظرية ابن خلدون التاريخية الاجتماعية)، وفيها يذهب إلى أن ابن خلدون، (لا يعدّ النبوة ضرورة للاجتماع الإنساني)، وأنه (ارتفع فوق معتقداته الدينية، وهو يحقق منجزاته الضخمة)، وأنه (يبني نظريته العلمية بطريقة فريدة على المادة التجريبية)!!.. وكل هذا الذي يقوله كامل عياد، ضرب من الوهم لا سبيل لإثباته، إذا كان الفكر فكر ابن خلدون، وإذا كان الكتاب هو مقدمته.. فالمقدمة موجودة، لكنه الاعتساف غير الأخلاقي.

ويرد (جب) على هذا الباحث -وأمثاله- ردًّا حاسمًا، فيعود برأي ابن خلدون في النبوة، وضرورتها للاجتماع الإنساني - إلى رأي عالم سني يتهمه بعضهم بالتشدد وهو الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، رحمه الله (ت: 728هـ).

وينقل (هاملتون جب)، نص ابن تيمية من كتابه: (الحسبة)، مبينًا أنه لا فرق بين الرأيين، وبالتالي فابن خلدون عالم سني مثله مثل ابن تيمية.

بل إن ابن خلدون -كما يقول (جب)- لم يكن مسلمًا فحسب، بل كان كما تكاد كل صفحة من المقدمة تشهد، فقيهًا متكالمًا من أتباع المذهب المالكي المتشدد، وكان يرى أن الدين أهم شيء في الحياة، وأن الشريعة هي الطريق الوحيد إلى الهدى.

ويرى (جب) أن الأساس الأخلاقي الإسلامي في فكر ابن خلدون، ضمني يستشف خلال عرضه كله. عدا عن أنه يلجأ دائمًا إلى الاستشهاد بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية. أما مبدؤه في العّلية والقانون الطبيعي… ذلك المبدأ الذي يراه الدكتور عياد معارضًا -على نحو حاد- للآراء الكلامية الإسلامية في القرآن، فليس هو -(في رأي جب)- إلا سنة الله، يتردد ذكرها في القرآن.

على أننا قد نسلم بأن ابن خلدون، ينص بقوة على الاقتران المحتوم بين السبب والمسبب في صورة قانون طبيعي، أكثر مما يفعل سواه من المؤلفين المسلمين، فالأمر لا يعدو اجتهادًا من الاجتهادات الدائرة في المحيط الإسلامي!!

وبطريقة ذكية يبسط (جب) أفكار ابن خلدون، مع ربطها بالرؤية الإسلامية فيقول: "فنحن إذا حاكمنا نظرية ابن خلدون التاريخية، خرجنا بنتيجة متشابهة، فاجتماع النوع الإنساني ضروري للتعاون ( لتتم حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه)، وإلا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم، واستخلافه إياهم".. وأيضًا فإن السياسة والملك هي كفالته للخلق، وخلافةُ لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم سواء كان الملك خيرًا ، أو شرًا، والعصبية إنما تتم بجمع القلوب، وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه".

وهكذا يؤكد (جب) أنه من المستحيل علينا أن ننحي عن أنفسنا الشعور بأن ابن خلدون، إلى جانب أخذه في تحليل تطور الدولة، كان كغيره من فقهاء المسلمين في عصره، مهتمًا بالتوفيق بين المتطلبات المثالية التي تريدها الشريعة، وبين وقائع التاريخ.

فالقارئ المتأني ، يلحظ أنه ينبه الأذهان، مرة إثر مرة، إلى أن سياق التاريخ لم يكن كما هو عليه، إلا لانتكاث الشريعة، من جراء آثام ثلاثة هي: (الكبر، والترف، والجشع).. حتى التوفيق في الحياة الاقتصادية، لا يتأتى إلا حين تكون أوامر الشرع مرعية.



وحول مصادر فكر ابن خلدون بصفة عامة، يؤكد (جب) أن ابن خلدون "استمد بعض المواد التي بنى عليها تحليله من تجربته… واستمد بعضها الآخر من المصادر التاريخية، التي كانت لديه، متصلة بتاريخ الإسلام، فقد فهمها وتأولها على نحو فذ من طرح التحيزات القائمة، ولكن الحقائق الأولية، أو القواعد التي تقوم عليها دراسته، هي الحقائق والقواعد التي توصل إليها عمليًا كل الفقهاء والسنيين السابقين، والفلاسفة الاجتماعيين الأولين!!

وتفصيلاً لهذه الحقيقة، التي ينتهي إليها -صادقًا- "هاملتون جب"، نذكر أنه بالإضافة إلى المصادر الأساس التي اعتمد عليها فكر ابن خلدون، والتي أشرنا إليها سلفًا، وعلى رأسها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن ابن خلدون، وإن لم يكن ابن عصره المتخلف والممزق، فإنه كان ابن الفكر الإسلامي، وتلميذ العقول الإسلامية الكبيرة، في عصور الإسلام السابقة كلها… لقد اغترف من تراثها، وتمثله خير تمثل، وأحسن إخراجه، كما تخرج النحلة عسلها من غذائها.

ويخص أستاذنا الدكتور مصطفى الشكعة الباب السادس من كتابه الرائع عن (الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته)، للحديث عن تأثر ابن خلدون بعليّ علاء الدين بن أبي الخرم، المشهور بابن النفيس (607-687هـ)، فيما يتصل بنظرية العمران. بل إن الأمر - كما يذهب أستاذنا الشكعة - يتعدى ظاهرة التأثر إلى واقع النقل، ففي مؤلفه (السيرة الكاملية)، يعالج ابن النفيس ضرورة الاجتماع من خلال قصة كامل الذي نشأ منفردًا معزولاً في جزيرة نائية، مثل صاحب قصة ابن الطفيل (حيّ بن يقظان).

ويورد الدكتور الشكعة مقارنات بين نصوص وردت في (السيرة الكاملية)، ونصوص وردت في مقدمة ابن خلدون)، ويبين أوجه التشابه في المعاني - بل والألفاظ - بين هذه النصوص وتلك.

وفي قضية التعامل بين الناس في الاجتماع الإنساني، يورد الدكتور الشكعة نصًا لابن النفيس، ثم يذكر أن ابن خلدون أخذ الموضوع نفسه والظاهرة نفسها، وقدمها من خلال كلمات لا تخر عما قصد إليه ابن النفيس، وأجاد التعبير عنهما.. ومثلما انتهى ابن النفيس في (السيرة الكاملية) إلى ضرورة الحكومة الشرعية، انتهى ابن خلدون إلى النتيجة نفسها في مواطن شتى من مقدمته.

والحقيقة أن التشابه كبير، وأن تأثر ابن خلدون بأفكار ابن النفيس لا شك فيه، وهو تأثر يمتد إلى مستوى الالتقاء في أساليب التعبير، وفي المضامين الجزئية الداخلية.. وإن كنا لا نرى أثرًا واضحًا للنقل المباشر، كما أن (السيرة الكاملية) في إطارها القصصي الفلسفي، لا يمكن أن تمثل رافدًا واحدًا من عشرات الوافد، التي يحتاج إليها عمل في زخم مقدمة ابن خلدون ومعطياتها.

وبالإضافة إلى ابن النفيس، وما ذهب إليه أستاذنا الشكعة من عمق تأثر ابن خلدون به، نضيف مؤثرًا آخر من الروافد التراثية الإسلامية التي نهل منها ابن خلدون، ووجهته توجيهًا مباشرًا، وتأثر بها تأثرًا لا يمكن إغفاله، هو أبو محمد علي بن سعيد بن حزم، المتوفى سنة (456هـ).

ويمكن القول: إن ابن خلدون، الذي تتلمذ في علم الأنساب على ابن حم، قد تتلمذ أيضا على ابن حمم، في نقد الرواية التاريخية، وبيان ما بها من جانب أسطوري "ميثولوجي"، وبيان تناقضها مع قواعد العقل، ومع الحقائق المشاهدة، ومع الحقائق الجغرافية.

بل إن من الغريب أن الأمثلة التاريخية التي قدمها ابن خلدون، ليبين بها: "ما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام، وذكر شيء من أسباب ذلك"، قد اقتبس بعضها من موسوعة (الفصل) لابن حزم. وليس هذا فحسب، بل إن ابن خلدون قد اقتبس نقد ابن حزم لهذه المغالط والأوهام.

فأول الأمثلة التي قدمها ابن خلدون في مقدمته، بيانًا لفساد المنهج التاريخي التقليدي، ما نقله المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل، من أن موسى أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون.

ويكذب ابن خلدون هذا العد، على أساس تقدير مساحة العمران في مصر والشام، وعلى أساس صعوبة قتال جيش بهذا العدد في هذه العصور، ويقارنا بعدد جيوش الفرس في حرب القادسية، وهو عدد لا يزيد عن مائة وعشرين ألفًا. ثم يأتي ابن خلدون بحجة أخرى، وهي أن الذين بين موسى وإسرائيل (يعقوب) هم أربعة آباء فقط، عاشوا مائتين وعشرين سنة، وكان عددهم أيام يعقوب سبعين. فمن المستحيل عقلاً أن يتناسل سبعون في مائتين وعشرين سنة… أي في أربعة أجيال فيصبحوا ستمائة ألف مقاتل.. فضلاً عمن لا يستطيع القتال!

هذا ما ذكره ابن خلدون في أول أبواب المقدمة، وهو الباب الذي اعتبره الكثيرون تحولاً في مسيرة المنهج التاريخي.

أما ابن حزم.. فقد ذكر عشرات الأمثلة (الأسطورية) من هذا القبيل، وفنّدها بقريب من الحجج التي اقتبسها ابن خلدون.. وفي هذا المثل الذي ذكرناه، وهو الذي اخترناه للمقارنة.. يقول ابن حزم:

"فصل في السفر الرابع -أي من التوراة- ذكر أن عدد بني إسرائيل الخارجين من مصر، القادرين على القتال، خاصة من كان ابن عشرين سنة فصاعدًا، كانوا ستمائة ألف مقاتل وثلاثة آلاف مقاتل وخمسمائة مقاتل، وأنه لا يدخل في هذا العدد من كان له أقل من عشرين، ولا من لا يطيق القتال، ولا النساء جملة، وأن عددهم إذ دخلوا الأرض المقدسة ستمائة ألف رجل وألف وسبعمائة رجل وثلاثون رجلاً.

ثم يقول ابن حزم متعجبًا: "فيا للناس كيف يمكن أن يتناسل من ولادة واحد وخمسين رجلاً فقط (هم عند ابن خلدون سبعون رجلاً) في مدة مائتي عام وسبعة عشر عامًا (وهي عند ابن خلدون 220 سنة) أزيد من ألفي ألف إنسان؟ هذا غاية المحال الممتنع.

إن من المستبعد عقليا أن يكون ابن خلدون قد فاته الاطلاع على كتاب (الفصل)، وألا يكون قد قرأ ردًّا ابن حزم على التوراة.. وبالتالي على من أخذوها من التوراة دون تحليل أو نقد كالمسعودي وغيره.

وليس إهمال ابن خلدون لذكر ابن حزم، كأستاذ له في منهج النقد التاريخي، إلا اتباعًا سار عليه كثير من المؤرخين من أسلافنا.. وحسبنا أن نذكر أن هذه الأسطورة التي فندها ابن خلدون في أقل من صفحتين، قد نقدها ابن حزم في أكثر من خمس عشرة صفحة من القطع الكبير.. كلها إحصاءات ومقارنات، وبيان تناقضات، وتتبع تاريخي.

ومن البدهي الذي لا يحتاج إلى دليل ملموس، أن ابن خلدون لم يكن -في إطاره العلمي والفكري- منفصلاً عن الأرضية الإسلامية الثقافية والحضارية -بصفة عامة- وعن رموز الحضارة الإسلامية الذين سبقوه وأحسنوا التعبير عن الحقائق الإسلامية بصفة خاصة.

لم يكن هؤلاء الذين أشرنا إلى اقتباسه منهم، إلا نماذج لعدد سيبقى قابلاً للزيادة لمن نهل منهم ابن خلدون منابع فكره، وتشكلت بفضلهم ثقافته!!

وعلى سبيل المثال، فإن من الصعب أن لا يكون ابن خلدون قد قرأ أبا حامد الغزالي، وأحمد بن عبد الحليم بن تيمية، وابن القيم الجوزية، وابن الجوزي، وأقطاب المذاهب الفقهية الثلاثة عشر، وأقطاب الحركات الفلسفية والكلامية والفكرية.. أو قرأ كثيرًا من إنتاجهم على الأقل…

وفي محاولة ذكية، يعقد الباحث (حسن محمد الظاهر) مقارنة حول "إشكالية المعرفة والسلطة - بحث في الفكر السياسي الإسلامي" بين أبي حامد الغزالي (ت: 728هـ) وعبد الرحمن بن خلدون، وقد انتهى الباحث إلى تقرير نتائج تتصل بموقف كل منهم من إشكالية المعرفة والسلطة.

وبالنسبة لابن خلدون، كانت الروح الإسلامية - كما يذكر الباحث - واضحة في نظريته حول سقوط الدولة أو هرمها، وكان انتماؤه إلى الحقل المعرفي الإسلامي جليًا… فهو - بالإضافة إلى إشارته لدور العصبية والمال في قيام الدولة وسقوطها - ويرى أن الخلل الأعظم الذي يتطرق إلى الدولة، يعود إلى عوامل غير هذين العاملين، فإن الله إذا تأذن بخراب أمة انقراضها، حملها على المذمومات وانتحال الرذائل، فينصرفون عن مؤازرة الملك ودعم سلطان الدولة، إلى الانغماس في النعيم الطارئ، فيضعفوا وتذهب ريحهم.

هناك أيضًا عنصر الظلم -نقيض العد- والاستبداد من الحاكم على المحكومين، الذي عقد له في المقدمة فصلا عنوانه: "الظلم مؤذن بخراب العمران"، فجباة الأموال بغير حق ظلمة، والمعتدون عليها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وكل هذا يسرع في هرم الدولة وزوالها.. ثم هناك السخرة، التي يطلق عليها: تكليف الأعمال: (ومن أشد المظالم وأعظمها في فساد العمران، تكليف الأعمال، وتسخير الرعايا بغير حق).

ويرى الباحث أن المفكرين الثلاثة ينتمون إلى دوحة ثقافية، وأنهم -حسب تعبيره- لم ينفصل أي منهم عن الإطار السياسي والاجتماعي الذي عاش فيه، وتعامل معه، وتأثر به وأثر فيه.

وفيما يتعلق بابن خلدون بخاصة، يستنتج الباحث أنه ذو نظرة عملية في فكره، مثل ابن تيمية، مع خلاف في المنطلقات، فابن خلدون منطلقاته القوة والعصبية، بين أمور أخرى، أما بن تيمية فمنطلقاته الشرع والدين، فالحكم مثلاً عند الأول واجب عقلاً، إذ به نحقق جلب المنافع ودرء المضار، وعند الأخير واجب شرعًا كما سبق البيان. (والعقل في الإسلام، مؤكد للوحي، لا منفصل عنه ولا مناقض له!!).

كما أن الباحث ينتهي إلى أن حديث ابن خلدون عن هرم الدولة فانهيارها، بسبب سيادة الأخلاق غير الفاضلة فيها، يؤكد هويته الإسلامية، ويؤكد أنه لم يهمل الأبعاد الأخلاقية والقيمية، ومن ذلك أيضًا حديثه عن الظلم، السخرة وتكليف الأعمال، ثم حديثه عن المذمومات والرذائل، وهو ما أشرنا إليه سلفًا.

وبإيجاز، فإنني أعتقد أن كثيرًا من الذين يعكفون على دراسة الرموز الكبيرة في حضارتنا، غير ابن النفيس وابن حزم وابن تيمية، يمكنهم أن يكتشفوا تأثر ابن خلدون بها، وأثرها في المقدمة بدرجة ما. . . وبطريقة أو أخرى… ذلك لأن ابن خلدون ابنٌ لهذه الرموز العملاقة، وثمرة من ثمرات المصادر الصحيحة والمبدعة في حضارتنا الإسلامية الزاخرة.

 
يارب الموضوع يعجبكم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق