الخميس، 26 مايو 2016

الرسول محرر العبيد

الرسول محرر العبيد


انطلقت "ثويبة" جارية أبي لهب إلى سيدها تبشره بمولد ابن أخيه "محمد" صلى الله عليه وسلم . طغت السعادة على قلب العم بمولد اليتيم ليكون عوضا لبني هاشم عن موت أبيه عبد الله قبل ذلك بأسابيع . و لم يجد "أبو لهب" ما يكافئ به "ثويبة" على تلك البشرى السعيدة سوى أن يُعْتقها .وهكذا كان مجرد مولده الشريف سببا في تحرير تلك السيدة التي أرضعته فترة قبل أن تتولى السيدة "حليمة السعدية" تلك المهمة النبيلة .. وتلك إشارة واضحة إلى أن المولد الشريف كان إيذانا ببدء عملية "التحرير" الكبرى للبشر من العبودية لغير الله الواحد القهار . وقد ورث صلى الله عليه وسلم عن أبيه جارية واحدة هي حاضنته "أم أيمن" . وفور بلوغه مبلغ الرجال أعتقها عليه السلام ، وزوّجها من مولاه زيد بن حارثة الذي أعتقه هو الآخر . وكان يحسن دوما إلى ثويبة وأم أيمن ، ويقول عن الأخيرة : "هذه بقية أهل بيتي" .وقد كانت أم أيمن تحتد أحيانا في حديثها معه - بما لها عليه من حق لحضانتها اياه من قبل - فما كان عليه السلام يزيد على الابتسام .. وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من سرّه أن يتزوّج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن" ، فتزوجها زيد بن حارثة ، وولدت له أسامة بن زيد حبيب الرسول صلى الله عليه وسلم .
وذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأم أيمن : "يا أمّه" .. أي تشريف وأي مقام رفيع بلغته جارية في أمة من الأمم مثلما بلغت أم أيمن رضي الله عنها ؟ لقد رفعها النبي عليه السلام إلى مقام أمه.
ويذكر الصنعاني أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتق ثلاثة وستين نفسا بعدد سنوات عمره الشريف والثابت من حديث البخاري عن جويرية أنه عليه السلام:" لم يترك عند وفاته درهمًا ولا دينًارا ولا عبدًا ولا جارية ". وهذا وحده كاف للرد على أولئك الحاقدين الذين لا يفهمون – أو يتجاهلون عمدا – كل تلك المواقف التحريرية الخالدة في السيرة العطرة .
حبيب الله ورسوله
بل إن قصة الصحابي الجليل " زيد بن حارثة " رضي الله عنه هي وحدها دليل قاطع على منهج التحرير الإسلامي ، والمكانة السامية التي رفع الله إليها أولئك العبيد الذين كانوا قبل الإسلام لا يُعَدّون شيئًا مذكورًا .
لقد تعرض زيد رضي الله عنه في صغره للخطف ، ثم باعه القراصنة في سوق "عكاظ " بمكة قبل الإسلام . واشتراه حكيم بن حزام ثم وهبه لعمته السيدة خديجة رضي الله عن الجميع ، ثم وهبته بدورها لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم فأعتقه . وشاء القدر أن يستدل والد " زيد " وعمه على مكانه بمكة ، فجاءا إلى النبي عليه السلام ، وعرضا عليه ما يشاء من المال مقابل اعادة ولدهما إليهما . ولكن الكريم بن الكرام عليه السلام رفض المال ، وعرض عليهما ما هو أنبل وأكرم ، وهو أن يتم تخيير " زيد " بين البقاء عند النبي أو العودة مع أبيه وعمه إلى موطنه الأصلي ، فإن رغب في الرحيل مع أبيه وعمه فهو لهما بلا أي مقابل ، وإن اختار البقاء مع النبي فله ذلك .. هل يفعل هذا بشر غيره عليه الصلاة والسلام ؟! وفوجئ الأب والعم " بزيد " يرفض العودة معهما إلى بلده وأمواله الطائلة وقبيلته الكبيرة ، ويؤثر البقاء مع مولاه محمد بن عبد الله لما رأى من نبله وكرمه وحنانه الذي يفوق حنان أبويه !! وهنا ردّ النبي عليه السلام التحية بأفضل منها ، فأعلن على الملأ أن زيدا ابنه يرث كلاهما الآخر . كان هذا قبل الإسلام وقبل تحريم التبني . وهنا رضي والد زيد وعمه ، واطمأنا إلى حسن مقام ولدهما عند النبي الكريم فانصرفا سعيدين .فهل عامل أحد عبدًا بأنبل وأكرم من هذا ؟ وهل فعلها أحد غير سيد الأولين والآخرين من قبل أو من بعد ؟ ! لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بعتق زيد وتبنيه بل زوّجه حاضنته " أم أيمن " التي كان قد أعتقها بدورها ..ثم كانت الخطوة الأخرى الكبرى لتحطيم كل الفوارق بين البشر ، وتطبيق المساواة بين الأسياد والعبيد على أرض الواقع . فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم – بعد الإسلام – ابنة عمته الحسيبة النسيبة زينب بنت جحش لمولاه زيد بن حارثة .. وكان القوم ما زالوا حديثى عهد بالجاهلية وفخرها بالأحساب والأنساب ، فوجدوا في أنفسهم ضيقًا شديدًا وحرجًا بالغًا من هذه الزيجة التي اعتبروها غير متكافئة ، بل تلحق بهم العار، طبقا لما كان عليه العرب في الجاهلية من أعراف وتقاليد .
وهكذا رفضت " زينب " وأهلها الأسياد بنو الأسياد مصاهرة عبد سابق ، فأنزل الله تعالى آية خالدة : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا " . قال جمهور المفسرين أن هذه الآية نزلت بسبب رفض زينب وقومها تزويجها من زيد بن حارثة ، فلما نزلت الآية الكريمة قالت زينب رضي الله عنها : " إذا لا أعصي الله ورسوله قد أنكحته نفسي " فتزوّج زيد زينب رضي الله عن الجميع.. ثم نزل بعد ذلك تحريم التبني، فاسترد زيد اسمه الأول "زيد بن حارثة" بعد أن كان يُدعى قبل ذلك زيد بن محمد .وكان رضي الله عنه وولده أسامة أحب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ابنته فاطمة رضي الله عنها ، وكان يقال لأسامة الحِبْ ابن الحِبْ لمنزلتهما السامية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ليس هذا فقط بل إن "زيدًا" رضي الله عنه هو الصحابي الوحيد الذي ذكره الله تعالى في القرآن الكريم بالاسم صراحة في آية خالدة تتلى إلى يوم القيامة "فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها .." ولم يظفر بهذا الشرف الرفيع ولا حتى الصدّيق أو الفاروق رضى الله عنهما ، فهل هناك تكريم لهذا العبد السابق أكثر من ذلك ؟!! كما عيّنه النبي عليه السلام قائدًا للجيش في غزوة "مؤتة" أميرًا على أكابر الصحابة ، ثم ولّى ابنه أسامة بن زيد قيادة الجيش من بعده .
وعندما تُوفي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجيش أسامة ينتظر خارج المدينة ، أصر أبو بكر الصديق خليفته على أن يواصل أسامة مهمته تنفيذًا لأمر النبي عليه السلام ، ورفض أن يستبدل أسامة وخرج "أبو بكر" يمشي مودّعًا للجيش ، وأسامة راكب على فرسه ، ورفض أبو بكر أن يركب ، أو أن ينزل أسامة ليمشي إلى جواره .. هذا هو الإسلام العظيم ، الرجل الثاني في الإسلام يمشي ، ومولى ابن مولى راكب على فرسه إلى جواره قائدًا لجيش فيه أكابر الصحابة وسادات العرب .
ونذكّر بأن النبي صلى الله عليه وسلم نصح فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن تتزوج أسامة بن زيد ، واختاره لها مُفَضِّلاً إياه على معاوية بن أبي سفيان السيد ابن سيد مكة من قبل وأبو جهم رضي الله عن الجميع . فهل جاء أحد غير الإسلام بمثل هذا ؟
بركات السيدة مارية
يثير الحاقدون على الإسلام موضوع تمتع النبي صلى الله عليه وسلم بجاريته السيدة مارية القبطية .. ويزعمون أنه لو كان نبيّا حقًا لما فَعَلَ هذا !! والرد على هؤلاء ميسور بإذن الله أولا : أن التمتع بملك اليمين – الجواري – كان في شريعة الأنبياء من قَبله عليهم جميعًا الصلاة والسلام .. فقد عاشر أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام السيدة هاجر – المصرية أيضًا – بملك اليمين ، وأنجبت له سيدنا إسماعيل جد العرب وجد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك كان لإسحاق ويعقوب وداود وسليمان عليهم السلام عشرات من الجوارى ، ولم يطعن أحد من الحاقدين عليهم بسبب ذلك!! فهل تمتعه صلى الله عليه وسلم بجارية وحيدة هي السيدة مارية – حسب الراجح من أقوال العلماء – يعد أمرًا غير حميد ؟! ولماذا لم يتفوه أحد بكلمة ضد تمتع أخوته الأنبياء من قبل بالجواري ملك اليمين ؟!! إنه الحقد على الإسلام وحده والكراهية المقيتة لمحمد صلى الله عليه وسلم وحده .ثم لننظر ولنقارن حال السيدة مارية قبل وبعد الإسلام لنعرف مدى كذب الحاقدين وإنكارهم للحقائق الثابتة . ماذا كانت السيدة مارية قبل الإسلام ؟ مجرد جارية من جواري المقوقس لا يعرفها أحد ولا يهتم بأمرها أحد ، وكان أقصى ما سوف تناله أن يعاشرها سيدها بمصر من حين لآخر بلا أية حقوق لها أو لأولادها الذين كانوا سيصبحون عبيدًا كأمهم بلا ريب . أو كانت سوف تُبَاع لسيد آخر كما تُبَاع البهيمة أو المتاع ، وهكذا تنتقل من سيد إلى آخر ، تعمل طوال النهار في كل الأعمال الشاقة ، وتجبر ليلاً على ممارسة الجنس مع سيدها . ولكن الله تعالى أراد أن ينقذ المسكينة مارية من هذا الإذلال والإهدار للآدمية ، وأن يخلّدها في العالمين ، فأهداها المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وهنا انقلبت الأحوال بقدرة الله عزّ وجلّ من النقيض إلى النقيض . فقد أنزلها النبي عليه السلام فى مسكن خاص مثل غيرها من نسائه ، وكان يجري عليها النفقة كالمأكل والملبس مثلهن سواء بسواء . ثم كان يحنو عليها ويقربها إليه ويعاشرها كباقي زوجاته بمنتهى العدالة والنبل .وشاء الله عزّ وجل أن يُنْعم على السيدة مارية بما لم تحظ به حتى السيدة عائشة أحب زوجات النبي إلى قلبه . فقد ولدت السيدة مارية للنبي أحب أولاده إلى قلبه وهو "إبراهيم" عليه السلام . والمعروف أن عائشة وحفصة وغيرهن من الحرائر من أزواجه لم ينجبن منه باستثناء السيدة خديجة رضي الله عنها والتي كانت قد توفيت بمكة . وهكذا حظيت مارية رضي الله عنها بالقسط الأوفر من المحبة والتكريم باعتبارها أم "إبراهيم" الولد المحبب إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم .
و من بركتها أيضا أنها كانت سببًا في تشريع عتق "أم الولد" وهي الجارية التي تلد لسيدها ولو "سقطًا" أي جنينًا يقذفه الرحم ميتًا . إذ أنه فور علمه صلى الله عليه وسلم بمولد ابنه إبراهيم من مارية قال صلى الله عليه وسلم : "أعتقها ولدها" . وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال : "أيّما أمة ولدت من سيدها فإنها حرّة إذا مات إلا أن يعتقها قبل موته" فأي بركة تسببت فيها سيدتنا مارية ؟ وأي خير أصاب الملايين من الجواري على مر العصور بسببها ؟ إنها لم تتحرر وحدها بمولد إبراهيم فحسب ، بل حررت معها كذلك كل جارية تلد لسيدها ولو سقطًا غير مكتمل .
ثم هناك نعمة هدايتها للإسلام ، وأنها آمنت بالله وحده ، وآمنت بنبيه. ولم يكن هذا هو كل ما في حياة السيدة مارية من بركات .. فقد أبى الله إلا أن تكون مارية المصرية سبب خير وبركة لأهل مصر كلهم .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا" . قال : ورحمهم أن أم إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام منهم ، وأم إبراهيم ابن النبي عليهم السلام منهم انتهى . وهكذا نالت السيدة مارية حريتها بالإسلام ، وصارت كذلك أمًا لإبراهيم أحب ولد النبي إليه ، وأمًا لكل المؤمنين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها
سلمان منا آل البيت
كان سلمان رضي الله عنه رجلاً فارسيًا تعرّف في صباه على بعض النصارى فأعجبه دينهم – قبل ظهور الإسلام – وترك عبادة النار ، ثم رحل إلى بعض الأديرة لعبادة الله ، إلى أن انتهى به الأمر إلى راهب أخبره قبل موته أنه قد اقترب زمان النبي الخاتم ، وأنه يبعث في مكة ويهاجر إلى أرض بها نخيل ، وحولها صحراء ، وأعطاه مواصفات "يثرب" ، وعلامات يعرف بها النبي ، وهي أنه يأكل الهدية ولا يقرب الصدقة ، وبين كتفيه علامة النبوة – خاتم النبوة – وعرض سلمان على قافلة من الأعراب أن يعطيهم مالاً مقابل أن يحملوه معهم إلى بلاد العرب . لكنهم غدروا به في الطريق ، وباعوه عبدًا لرجل من يهود يثرب . صبر رضي الله عنه على الرق وسوء معاملة سيده اليهودي له حتى هاجر النبي عليه السلام إلى يثرب . فانطلق إليه سلمان ، وتحقق من وجود العلامات الثلاث به فاحتضنه وبكى ممّا عرف من الحق . وقصّ على النبي وأصحابه قصته . فأرشده عليه السلام إلى مكاتبة سيده اليهودي ليحصل على حريته . اتفق سلمان مع اليهودي على أن يحرّره مقابل ثلاثمائة نخلة يغرسها له وأربعين أوقية من ذهب . وقال النبي عليه السلام لأصحابه : "أعينوا أخاكم" ، فجعل كل منهم يأتي بالنخلات الصغار قدر استطاعته ، حتى جمعوا له الثلاثمائة المتفق عليها. و قام النبي صلى الله عليه وسلم بغرسها جميعا بيده الشريفة فنبتت كلها ببركته . ثم أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم سلمان قطعة صغيرة من الذهب قائلا له : "خذها فإن الله سيؤدي بها عنك". وبالفعل تحققت معجزة أخرى ووزنت القطعة الصغيرة أكثر من حق اليهودي ، و تحرّر سلمان من الاستعباد . وبهذا السلوك أرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم الأمة كلها إلى ضرورة اعانة المكاتب ومساعدته على التحرر بتبرعات الأفراد، ومن بيت المال ، وأن يكون الحاكم قدوة بنفسه في هذا المجال . وسلمان هو الذي أشار على النبي بحفر الخندق حول المدينة لتأمينها ومنع الأحزاب الكافرة من دخولها في غزوة الخندق .وبلغ من حب النبي وأصحابه لسلمان رضي الله عنه أن تنازع المهاجرون والأنصار أمره . قال المهاجرون : سلمان منا نحن المهاجرون ، وقال الأنصار : بل سلمان منا نحن الأنصار ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم حسمًا للأمر وتكريمًا لسلمان : "سلمان منا آل البيت" . وهكذا رفع الله منزلة العبد السابق بالإسلام بجعله ليس فقط صاحبا لرسوله ، بل منسوبًا إلى أهل بيته عليهم السلام أجمعين . وما نعرف لهذا نظيرا في أيّة أمّة أخرى من الأولين و الآخرين . وقال عنه الرسول عليه السلام : "سلمان سابق الفرس" . وشاء قدر الله أن يمتد بسلمان العمر حتى تولى إمارة المدائن – بلاد فارس – في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وبذلك تولى العبد السابق حكم بلاده الأصلية بعد زوال حكم كسرى بالفتح الإسلامي . ولم يمنعه من تولي السلطة كونه عاش سنوات طوال عبدًا مملوكًا لبعض يهود يثرب .. فالله تعالى يُؤتي الملك من يشاء ، بلا فرق بين حرّ وعبد .
سيدنا أعتق سيدنا
كان بلال بن رباح رضي الله عنه من العبيد السابقين إلى الإسلام ، وهو ممن تعرّضوا للتعذيب المروّع بمكة لإجبارهم على ترك الدين الحق . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتألم من أجلهم ، وقال عليه السلام : "لو كان عندنا شيء ابتعنا بلالا" وسمع بذلك أبو بكر فاشتراه بسبع أواق وأعتقه ، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأبي بكر: "الشركة يا أبا بكر" فقال أبو بكر : قد أعتقته . ولو لم يكن أجر العتق عظيمًا لما سأل النبي أبا بكر أن يشركه معه فيه .
وأخرج مسلم في فضائل الصحابة أن قوله تعالى "ولا تطرد الذين يدعون ربهم..." نزل في بلال وآخرين من الضعفاء، قال المشركون للنبي : اطرد هؤلاء عنك حين نجلس معك حتى لا يتجرأون علينا !! ولكن الله تعالى أنزل أمرًا سماويًا للنبي بألا يطرد أولئك المؤمنين من أجل المتكبرين من المشركين .. لأنه لا فضل لأحد على أحد في الإسلام إلا بالتقوى ، ولا قيمة لأموال المشركين ولا أحسابهم في ميزان الله رب الجميع . وثبت عن النبي عليه السلام أنه قال : "بلال سابق الحبشة" وكان بلال رضي الله عنه مع الرسول في كل الغزوات ، وتولى الآذان طوال حياته لعذوبة صوته . وشهد له النبي بالجنّة وعندما أذن أبو بكر لبلال في السفر والمقام بالشام ذهب هو وصاحبه "أبو رويحة" إلى قوم من أكابر العرب في الشام ليخطبوا اثنتين من بناتهم . قال بلال لهم : إنا قد أتيناكم خاطبين ، وقد كنا كافرين فهدانا الله ، ومملوكين فأعتقنا الله ، وفقيرين فأغنانا الله ، فإن تزوجونا فالحمد لله ، وإن تردّونا فلا حول ولا قوة إلا بالله . فوافق القوم على الفور مرحبين بصاحبي الرسول وزَوَّجُوهما من اختارا ، رغم أن تلك القبيلة هي واحدة من أعرق القبائل بالشام كله .وهكذا يتساوى الجميع في الإسلام، ولا تفضيل لحرّ على عبد إلا بمعيار الإيمان والعمل الصالح . ويكفي لبيان ما وصل إليه بلال من مكانة سامية بالإسلام أن عمر بن الخطاب الرجل الثالث في الإسلام قال عن أبي بكر وهو يصف مناقبه : "وهذا سيدنا بلال حسنة من حسناته"، وفي رواية أخرى للبخاري وغيره قال عمر بن الخطاب : "أبو بكر سيدنا أعتق بلالا سيدنا " .
أرأيت كيف وصف أمير المؤمنين الفاروق عمر بلالاً بأنه "سيدنا" ، وهو الذي كان عبدًا مغمورًا ضائعًا في شعاب مكة قبل الإسلام ؟!
صبرًا آل ياسر
كان صلى الله عليه وسلم يمر بالضعفاء من أصحابه وهم يعانون أشد ألوان التعذيب تحت لهيب شمس مكة الحارقة ، ومنهم ياسر وزوجته سميّة مولاة بني مخزوم وابنه الصحابي الجليل عمّار بن ياسر مولى بني مخزوم أيضا .
وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم " صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة ". وهي شهادة نبوية ثابتة لهم بالجنة إن شاء الله . ونزلت في عمّار الآية الكريمة "إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان" ، فقد عَذّبَه الكفار حتى سبّ النبي تحت الإكراه خشية القتل ، وذهب بعدها يبكي فسأله النبي : "فكيف تجد قلبك ؟" ، أجاب عمّار : مطمئن بالإيمان ، فقال له النبي عليه السلام : "فإن عادوا فعد" .
وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "اشتاقت الجنة إلى ثلاثة علي وعَمَّار وبلال". وكانت سميّة أم عمّار أول شهيدة في الإسلام ، إذ طعنها أبو جهل اللعين بحربة في قُبُلها ففاضت روحها في الحال .. ألا يكفي الرقيق شرفًا أن أول من نال الشهادة وهي درجة عليا يتمناها حتى النبي كانت واحدة من الجواري هي السيدة سميّة ؟!!.
والأحاديث في فضائل عمّار بن ياسر كثيرة نختار منها أنه عليه السلام قال: "اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمّار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" . وروى الحاكم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "إذا اختلف الناس كان ابن سميّة مع الحق" . وأخرج أحمد والحاكم والذهبي : "ما خُيِّر ابن سميّة بين أمرين إلا اختار أيسرهما" . وأخرج مسلم وأحمد وابن سعد : أن عمّارًا كان يحمل لبنات من الطوب لبناء المسجد النبوي أكثر مما يحمل أصحابه ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينفض رأسه ويقول : "ويحك يا ابن سميّة تقتلك الفئة الباغية" . وبالفعل استشهد عمّار يوم صفين ، قتله جيش الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ، وكان عمّارُ في جيش الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكانت بين خالد بن الوليد وعَمَّار بن ياسر رضي الله عنهما مشادة، فأغلظ له خالد القول ، فشكاه عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام : "من عادى عمّارًا عاداه الله ، ومن أبغض عمّارًا أبغضه الله" فخرج خالد مسرعًا حتى لقي عمّاراً واعتذر له واسترضاه حتى رضي . هل رأيتم ؟ الله عز وجل يعادي من عادى عمّارًا العبد السابق والرب يمقت من يمقته ؟!. هل يطمع أحد من الأحرار في منزلة أعلى من تلك التي بلغها عمَّار ؟!! .
سابق الروم
وهناك حفاوته عليه السلام وتكريمه لصهيب بن سنان الصحابي الجليل الذي وصفه النبي بأنه "سابق الروم" و قد تقدم مثله عن سلمان و بلال. ومعنى سابق الروم أنه سبقهم جميعًا إلى الإسلام ثم إلى الجنّة بإذن الله .
وصهيب رضي الله عنه كان من الموالي في مكة ، ولم يفلته المشركون أثناء الهجرة إلا بعد أن دَلَّهم على كل أمواله فتركوه ليهاجر إلى "يثرب" فقيرًا مريضًا لا يملك قوت يومه .. ولكن حبيبه المصطفى تلقّاه في يثرب مبشّرا له بالفوز العظيم ورضوان الله عن صفقته المباركة . ونزلت فيه آية كريمة خالدة تثني عليه وتبشره بالرضوان والفوز الكبير . قال تعالى : " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ " . قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في صهيب بن سنان الرومي ، عندما اضطره المشركون إلى التخلي عن كل ما يملك ليسمحوا له بالهجرة إلى حيث النبي في يثرب ، فأعطاهم كل ماله ليهاجر ويفر بدينه ، وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشره قائلا له مرتين "ربح صهيب ربح صهيب" .
لكل هذه المواقف المضيئة في السيرة العطرة وغيرها ، لم يملك المنصفون من غير المسلمين سوى الاعتراف لسيد الخلق عليه السلام بأنه رسول من عند الله حقًا ، والإقرار بما كان عليه من خلق عظيم لم يؤت مثله أحد من قبل أو من بعد . وقد وصفه أحد هؤلاء
وهو الدكتور راما كريشنا راو – بصفات عظيمة كثيرة منها أنه هو بحق: "محرر العبيد" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
 

يارب الموضوع يعجبكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق