الخميس، 26 مايو 2016

ابن خلدون وفكره التربوي

ابن خلدون وفكره التربوي


إعداد/ محمد بن إبراهيم الفوزان

المحاضر في معهد اللغة العربية – جامعة الملك سعود

المقدمة
يتميز كل عصر بفكره وفلسفه حياته, والمسلمون الأوائل خلفوا تراثاً فكرياً وتربوياً ينبغي أن نعتز به, لأنه يعكس صورة الماضي, وبالتالي يضيء لنا طريق الحاضر والمستقبل, بقدر رجوعنا إليه واستشهادنا به, وأن نأخذ منه ما يتفق مع ظروفنا الراهنة وقضايانا المعاصرة فإننا للأسف لا نعرف إلا القليل من تراثنا عن جهل, أو تقليد للتربية الغربية (عبود, 1977, ص 148) .
لذا وجب علينا ونحن في بدايات القرن الحادي والعشرين أن نعود إلى فكرنا وتراثنا العربي الإسلامي, وأن نستفيد منه لأن العمل للحاضر والمستقبل لا يتم إلا بالرجوع إلى الماضي وذلك "لأن حاضرنا لا يستغني عن ماضينا, وعن الفحص الدقيق لأرضه التي يقوم عليها البناء الجديد" (عبدالرحمن, 1970, ص 138) .
ولما كان الفكر التربوي في الإسلام يعتمد على القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة, فقد كانت أول مدرسة شهدها الإسلام هي دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة, ثم كان مسجده b في المدينة هو الثاني (عبود, 1978, ص 200). وبمرور الأيام وتغيرات المجتمع الإسلامي ظهر الفقهاء والعلماء والأدباء والفلاسفة وظهر معهم فكر تربوي إسلامي أساسه القرآن الكريم والسنة .
ومن هؤلاء ابن خلدون والذي عُرف على أنه عالم اجتماع ولكن له آراء تربوية ذكرها في كتابه المقدمة, وسوف يسعى هذا البحث للوقوف على هذه الآراء وربطها مع الحياة المعاصرة .



مشكلة البحث :

التربية الإسلامية هي النابعة من القرآن الكريم والسنة المطهرة, وفي الوقت الحاضر ينادي علماء التربية المسلمين بإتباع أقوال علماء الغرب من غير المسلمين, ومع أن بعض آرائهم جيدة, إلا أن الكثير منها يخالف الإسلام, لذا وجب علينا الرجوع إلى القرآن الكريم والسنة وإلى تراث علماء الإسلام للاستفادة منه في حل قضايانا المعاصرة, وفي ضوء ذلك يمكن تحديد مشكلة البحث في السؤال التالي: ما هي الآراء التربوية لابن خلدون ؟

أهداف البحث :
هدف هذا البحث إلى الكشف عن الآراء التربوية لابن خلدون من خلال كتابه المقدمة, مع تقديم التوصيات والمقترحات التي تساعد على فهمنا لقوة الفكر التربوي الإسلامي .

أسئلة البحث :
يجب البحث عن السؤال الآتي :
1-ما هي الآراء التربوية لابن خلدون ؟

أهمية البحث :
تبرز أهمية البحث في أنه يسعى إلى التعرف على الآراء التربوية لابن خلدون, وأثر هذه الآراء في الوقت الحاضر, وهل هذه الآراء تستجيب لحاجات المجتمع الإسلامي في الوقت الحاضر .


حدود البحث :
سوف يقتصر هذا البحث على الآراء التربوية لابن خلدون من خلال كتابه المقدمة .

منهج البحث :
يعهد المنهج الوصفي التحليلي هو أنسب المناهج البحثية لتحقيق هدف البحث, كون هذا المنهج يعتمد على دراسة الظاهرة كما توجد في الواقع (عبيدات وآخرون, 1988, ص 187) .

مصطلحات البحث :
1-التربية: تعرّف التربية بأنها "تنمية الوظائف الجسمية والعقلية والخلقية حتى تبلغ كمالها عن طريق التدريب والتثقيف" (عاقل, 1983, ص 27) ويقصد بها عند علماء التربية نمو الكائن البشري من خلال الخبرة المكتسبة من مواقف الحياة المتنوعة, ويقصد بالنمو اكتساب خبرات جديدة متصلة ومرتبطة ارتباطاً معيناً لتكون نمطاً خاصاً بشخصية الفرد وتوجهه إلى المزيد من النمو ليتحقق بذلك أفضل توافق بين الفرد وبيئته. (النجيحي, 1967, ص 117) .
2-التربية الإسلامية: تعرّف بأنها "المفاهيم التي يرتبط بعضها ببعض في إطار فكري واحد يستند إلى المبادئ والقيم التي أتى بها الإسلام والتي ترسم عدداً من الإجراءات والطرائق العملية يؤدي تنفيذها إلى أن يسلك الفرد سلوكاً يتفق مع عقيدة الإسلام" (علي, 1978, ص 6 ) .
ويمكن تعريفها من خلال الربط بين مفهوم التربية ومفهوم الإسلام بأنها "إحداث تغيير في سلوك الفرد في الاتجاه المرغوب فيه من وجهة نظر الإسلام" (أبو لاوي, 1999, ص 18 ) .
3-الفكر التربوي: ويقصد به الآراء والتصورات والمبادئ التي قدمها علماء التربية أو النظرية التربوية كما يتصورها علماء التربية (موسى, د. ت, ص 6 ) .
فالفكر التربوي هو "ما أبدعته عقول الفلاسفة والمربين عبر التاريخ فيما يخص مجال التعليم الإنساني, وتنمية الشخصية وشحذ قدرتها ويتضمن النظريات والمفاهيم والقيم والآراء التي وجهت عملية تربية الإنسان" (زيادة, 2002, ص 24) .
4-الفكر التربوي الإسلامي: وهو عبارة عن مجموعة الآراء والأفكار والنظريات التي احتوتها دراسات الفقهاء والفلاسفة والعلماء المسلمين وتتصل اتصالاً مباشراً بالقضاء والمشكلات التربوية (الخطيب وآخرون, 1995, ص 44) .
ويقصد بها هنا التعرّف على الآراء والأفكار التربوية لابن خلدون .




الدراسات السابقة :
هناك العديد من الكتاب الذين كتبوا عن ابن خلدون, وإن كانت في الغالب الأعم عن ابن خلدون عالم الاجتماع, وقد ذكر عبدالعظيم (2006, ص 81) قائمة كتب عن ابن خلدون وهي :


عنوان الكتاب

اسم المؤلف

سنة الطباعة

1-العرب وابن خلدون

أبو القاسم محمد

1977

2-طه حسين وابن خلدون

حسن جغام

2004

3-ابن خلدون مؤرخاً

حسين عاصي

1991

4-ابن خلدون

خالد حداد

1987

5-جوانب فلسفية في مقدمة ابن خلدون

زكريا إمام

1985

6-دراسات عن مقدمة ابن خلدون

ساطع الحصري

1967

7-فلسفة ابن خلدون الاجتماعية

طه حسين

1973

8-الفكر الاجتماعي عند ابن خلدون

عبدالغني المغربي

1987




9-الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون

عبدالله شريط

1975

10-عبقريات ابن خلدون

علي وافي

1973

11-عبدالرحمن بن خلدون حياته وآثاره ومظاهر عبقريته

علي وافي

1975

12-منطق ابن خلدن في ضوء حضارته وشخصيته

علي الوردي

1977

13-ابن خلدون في سيرته وفلسفته التاريخية والاجتماعية

عمر الطباع

1992

14-مفهوم الأدب في الفكر الخلدوني

غساق عبدالخالق

1994

15-ابن خلدون بين حياة العلم ودنيا السياسة

محمد الحاجري

1980

16-جديد في مقدمة ابن خلدون

محمد مرحبا

1989

17-ابن خلدون حياته وأفكاره

محمد عنان

1991

18-ابن خلدون وعلوم المجتمع

محمود عبدالمولى

1976

19-الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته

مصطفى الشكعة

1986

20-الفكر الكلامي عند ابن خلدون

منى أبو زيد

1997



عنوان الكتاب

اسم المؤلف

1-ماذا بقي من ابن خلدون

أبو القاسم محمد

2-ما بعد ابن خلدون في الفكر العمراني

حسن جغام

3-علم الهندسة وتكنولوجيا صناعة مواد البناء عن ابن خلدون

حسين عاصي

4-ابن خلدون والفكر الجغرافي

خالد حداد

5-ابن خلدون ناقداً

زكريا إمام

6-تربية الملكة اللسانية عند ابن خلدون وآراء ابن خلدون التربوية

ساطع الحصري

7-منهجية البحث العلمي عند ابن خلدون

طه حسين

8-المدارس في زمن ابن خلدون

عبدالغني المغربي

9-أثر ابن خلدون في بعث الفكر الفلسفي الحديث

عبدالله شريط

10-ابن خلدون وعلم الكلام

علي وافي

11-ابن خلدون في الإبداع العربي

علي وافي

12-ابن خلدون موضوعاً للإبداع

علي الوردي

13-حقيقة ابن خلدون الفسلفي من خلال رؤية نقدية

عمر الطباع

14-الدار الأولى لابن خلدون بمدينة القاهرة

غساق عبدالخالق

15-الحكمة الخلدونية وحدودها

محمد الحاجري




وهذا العرض للدراسات السابقة يوضح أن أكثر الكتابات عن ابن خلدون هي باعتباره عالماً كبيراً في الاجتماع, وقد وجدت بعض الكتب التي كتبت عن فكر ابن خلدون التربوي واستفدت منها وهي :

عنوان الكتاب
اسم المؤلف
سنة الطباعة

1-التربية الإسلامية دراسة مقارنة

أبو القاسم محمد

د. ت

2-ابن خلدون حياته وتراثه الفكري

حسن جغام

1352هـ

3-التربية الإسلامية وفلاسفتها

حسين عاصي

1395هـ

4-في الفكر التربوي الإسلامي

خالد حداد

1402هـ

5-التربية الإسلامية المفهومات والتطبيقات

زكريا إمام

1425هـ

6-تطور الفكر التربوي

ساطع الحصري

1402هـ

7-تطور الفكر التربوي الإسلامي

طه حسين

1420هـ


هو عبدالرحمن بن محمد بن محمد, ابن خلدون أبو زيد,ولي الدين الحضرمي الإشبيلي, من ولد وائل بن حجر, الفيلسوف العالم الاجتماعي, أصله من إشبيلية, ومولده ونشأته بتونس, اشتهر بكتابه العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر, في سبعة مجلدات, أولها المقدمة وهي تعد من أصول علم الاجتماع, وقد ترجمت إلى اللغة الفرنسية وغيرها (الزركلي, د. ت, ص 106), وكانت ولادته في تونس غرة رمضان 732هـ الموافق 27 ما يو 1332م (عنان, 1352, ص 12), وتوفي في 26 رمضان سنة 808هـ الموافق 16 مارس 1406م وسنه 76 سنة, ودفن خارج باب النصر بمقبرة الصوفية في القاهرة (الإبراشي, 1395هـ, ص 273) .

آراؤه التربوية :
يرى ابن خلدون أن للتربية أهدافاً هي :
1-إعطاء الفرصة للفكر لكي ينشط .
2-إعطاء الإنسان الفرصة لكي يحيى حياة طيبة في مجتمع راق متحضر.
3-إعطاء الإنسان الفرصة لكسب الرزق وتنمية الخصال الحميدة فيه ويعتبر أن الأساس في التعلّم القرآن الكريم (خضر, 1402, ص158-159). وقد ذكر علي وآخرون (1425-211) أن ابن خلدون قسم العلوم إلى قسمين:
الأول: العلوم النقلية: وهي العلوم التي ينقلها الإنسان عمن وضعها, وكلها مستندة إلى الخبر من مصدره الشرعي ولا مجال للعقل فيها, إلا إلحاق الفروع بالأصول, ومن هذه العلوم, علم التفسير, علم القراءات, علوم الحديث, علم أصول الفقه, علم التوحيد, علم البيان, علم الأدب .
الثاني: العلوم العقلية, وهي التي يهتدي إليها الإنسان بعقله وهي تشمل علم المنطق والعلم الطبيعي, والعلم الإلهي ( ما وراء الطبيعة ) وعلم النظر في المقادير (الرياضيات والفلك والهندسة) .
وقد رتب ابن خلدون العلوم بحسب أهميتها للمتعلم على النحو التالي :
1-العلوم الدينية وهي العلوم المقصودة بالذات مثل القرآن الكريم والحديث الشريف .
2-العلوم العقلية وهذه أيضاً علوم مقصودة مثل العلم الطبيعي .
3-العلوم الآلية المساعدة للعلوم الشرعية مثل اللغة والنحو والبلاغة .
4-العلوم الآلية المساعدة للعلوم العقلية مثل علم المنطق (خضر, 1402, ص 160) .
ويذكر أحمد (1402هـ, ص 162) أن ابن خلدون شدد على استمرارية التعليم من المهد إلى اللحد وأنه ليس هناك حد ينتهي عنده التعليم, وسوف أذكر الآن أهم الآراء التي ذكرها ابن خلدون في مقدمته .
1- أن كثرة التآليف في العلوم عائقة على التحصيل:
يقرر ابن خلدون أن العقل الإنساني يشوبه القصور, وأن مراتبه تختلف باختلاف البشر, وخاصة في المراحل الأولى من حياة الإنسان, وقد ذكر أن عقل الإنسان لا يستطيع أن يستوعب العلوم التي تكثر فيها المصطلحات والمؤلفات وقد ذكر في المقدمة (د. ت, ص 1230) "اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم, وتعدد طرقها, ثم مطالبة المتعلم باستحضار ذلك" ويقصد ابن خلدون هنا, كثرة المؤلفات والمصطلحات في العلم الواحد, بحيث يؤدي ذلك إلى نفور المتعلم من التعليم, وابن خلدون يهدف إلى التيسير علم المتعلم وبالخصوص في بداية عهد الطالب بالتعليم.
ومن الدوافع لدى ابن خلدون لكتابة هذا الفصل كثرة طرق التدريس في عهده, حيث انتشر في عهده الطريقة القيروانية والمصرية والبغدادية والقرطبية وغيرها. وكان المطلوب من الطالب أن يميز بين هذه الطرق, لدرجة أنها أصبحت هي المقصودة بالتعليم وهذا خطأ كبيرة فالطرق وسيلة وليست غاية. وفي ذلك يقول ابن خلدون "ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية, وطرق المتأخرين عنهم والإحاطة بذلك كله, والمتعلم مطالب باستحضارها جميعها وتميز ما بينها, والعمر ينقضي في واحد منها" (المقدمة, د. ت, ص 1231). مما تقدم يظهر لنا أن ابن خلدون نادى بمراعاة قدرات الطلاب, وأن لا نثقل عليهم بما هو فوق طاقتهم, وأن يتم التعليم بيسر وسهولة حتى يقبل الطلاب التعلم, وتزيد الدافعية لديهم, وأن لا يكون التعليم منفراً لهم. وهذا الذي تنادي به التربية الحديثة, وقد ظهرت النظريات المتعددة التي تنادي بمراعاة الفروق الفردية بين الطلاب, كما ظهر مبدأ التدرج في التعليم, والانتقال من السهل إلى الصعب ومن المحسوس إلى المجرد .

2- عدم إشغال المتعلم بعلمين في وقت واحد :
إن تعليم الطلاب علمين في وقت واحد, يشغل الطلاب ويعرضهم للفشل والإحباط, وذلك لأن عقل الإنسان محدود, وغير قادر على الإحاطة بأكثر من علم في وقت واحد, وفي ذلك يقول ابن خلدون "أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً, فإنه حينئذٍ قلّ أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر, فيستغلقان معاً ويستصعبان, ويعود منهما بالخيبة, وإذا تفرغ الفكر لتعلم ما هو بسبيله مقتصراً عليه, فربما كان ذلك أجدر بتحصيله (المقدمة, د. ت, ص 1225) .
كما أنه نادى أن يتم تعليم القراءة والكتابة ثم الانتقال إلى تعليم القرآن الكريم وحفظه وفهم معانيه, وهو ينتقد المعلمين في عصره لأنهم يصرون على تحفيظ المتعلمين الصغار القرآن الكريم, قبل تعلّم القراءة والكتابة ويقول أن القرآن الكريم هو كتاب الله, وليس لنا أن نقلده, وليس له تأثير في اللغة قبل أن يفهم الناشئة معانيه ويتذوقون أساليبه, ويدركون مقاصده, ويكون ذلك بتعليمهم مبادئ القراءة والكتابة, وليس العكس مراعاة للترتيب المنطقي (أحمد, 1982 ص 157). كما أن تركيز ابن خلدون على حصر التعلم في علم واحد, في الزمن الواحد, يؤدي إلى تمرين العقل, ثم يتقبل العلوم الأخرى بسهولة, ويقول علماء التربية في ذلك أن تدريب العقل بمادة من المواد يجعله قادراً على التفكير في المواد الأخرى ويمكنه في الإجادة في كل مادة, وهذا بسبب انتقال أثر التدريب من هذه المادة إلى المواد الأخرى (يوسف, 1955, ص 352) .

3- التدرج في تدريس العلوم للمتعلمين :
وهذا من الأشياء التي نادى بها ابن خلدون, وذلك بأن يبدأ المعلم مع طلابه بالبسيط الذي يقبله عقله, ثم يتدرج معهم مستخدماً التكرار مع استعمال الأمثال الحسية, وبذلك يتم للمتعلم الحصول على العلم ويقول ابن خلدون في ذلك "اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج" (المقدمة, د. ت, ص 1233), وقد ذكر الحصري (1953, ص 453) أن ابن خلدون قرر ثلاث قواعد عامة للمعلم وهي :
1-على المعلم أن لا يخلط مباحث الكتاب الواحد بكتاب آخر .
2-أن لا يطيل الفواصل بين درس وآخر .
3-أن لا يخلط على المتعلم علمين معاً .
ونلاحظ أن ما قاله ابن خلدون لا يختلف عما ينادي به علماء التربية في الوقت الحاضر, من كيفية التعامل مع المتعلم وخاصة في المراحل الأولى, حيث نادى بالاهتمام بالمعاني العامة, والابتعاد عن التفاصيل, واستخدام الأمثلة الحسية, وفي ذلك يقول "يكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب وبالإجمال وبالأمثال الحسية" (المقدمة, د. ت, 1233) .
كما أن التكرار الذي طالب به ابن خلدون بقوله "يحصل العلم في ثلاث تكرارات, وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه" (المقدمة, د. ت, ص 1233), هو ما تنادى به التربية الحديثة وقد ذكر ناصر (1989, ص 123), أن المتعلم إذا كرر عملاً معيناً فهذا يسهل عليه التعلم,كما أن تكرار العمل عدة مرات يكسبه نوعاً من الثبات, ويستطيع المتعلم أن يصحح الأخطاء إن وجدت .
كما أن التجارب الحديثة تدل على أن الاستمرار في تكرار ما تعلمناه يساعد على ثباته في الذهن, وبعض التجارب تقول أننا ننسى حوالي 60% من المواد التي يتم تعلمها في حالة عدم التكرار (راجح, 1970, ص 283) .

4- عدم الشدة على المتعلمين :
لقد انتقد ابن خلدون أسلوب العقاب الذي كان سائداً في عصره, وطلب من المعلمين استخدام الرحمة واللين مع الطلاب فقال: "ينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبد في التأديب" (المقدمة, د. ت, ص1244), واعتبر أن مجاوزة الحد في العقاب له أضرار على الطلاب ويعمل على إفساد أخلاقه, وبذلك لا يتحقق الهدف من التعليم, ويقول "من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر, وحمل على الكذب والخبث" (المقدمة, د. ت, ص 1243) .
وهذا القول لابن خلدون يظهر رأيه في العقاب, حيث يرفض الشدة على المتعلمين, لأنها مضرة بالمتعلم وتعمل على إفساد أخلاقه وتؤثر على شخصيته, وتعمل على إكساب المتعلمين سلوكيات غير مرغوب فيها. وتزيد القلق والتوتر والخوف في نفوسهم, وقد أشارت دراسات علماء النفس إلى أنه في حالة عدم تمكن الطفل من التخلص من التوتر النفسي, فإن ذلك يؤدي إلى العدوان والانحراف السلوكي, وقد يؤدي إلى الكذب والسرقة والهروب من المدرسة وغير ذلك من مظاهر الجنوح (بلقيس ومرعي, 1987, ص 155), ومن النظريات الحديثة التي تطرقت إلى الابتعاد عن الشدة على المتعلمين واستخدام الثواب كعامل من عوامل التعزيز, نظرية ثورنديك وفحواها أن الإنسان إذا اقترن عمله بما ينشرح له صدره كالثواب تمكن هذا العمل في نفسه ورسخ في ذهنه, أما إذا اقترن عمله بما ينقبض له صدره كالعقاب فإن هذا العمل لا يتمكن في نفسه ولا يرسخ في ذهنه وذلك على اعتبار أن الإنسان يميل بطبيعته إلى ما يسره, ويتجنب ما يسؤوه (شهيلا, 1961, ص 105) .
ومع أن ابن خلدون عارض الشدة على المتعلمين للآثار السلبية, إلا أنه لم يدعو إلى التسامح الكلي مع الأطفال فقد أباح العقاب البدني في الضرورة القصوى وبما لا يزيد على ثلاثة أسواط, بشرط أن يكون العقاب آخر العلاج, وبعد استخدام الترغيب والترهيب والتوبيخ والعزل والإهمال, إذن العقاب البدني مباح لتعديل سلوك معين ولكن في أضيق الحدود, وكوسيلة لردع الطلاب من الوقوع في الأخطاء, ويجب أن يتفاوت في شدته حسب الذنب المرتكب, ويقول يوسف (1955, ص 153), أن العقاب من ضرورات التربية, ولكن يجب أن يختلف في شدته ونوعه حسب الذنب, لأنه نوع من الألم مقصود لذاته , لكي يشعر به الذي قصّر أو أهمل, فلا يعاود ما عمله سابقاً, فهذا الرأي لابن خلدون في عدم الشدة مع الطلاب يوافق مع ما يذكره علماء التربية وعلم النفس في الوقت الحاضر .

5- إن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم تخل بالتعليم :
يرى ابن خلدون أن من العوامل التي تقف في طريق التعليم اختصار كتب العلم فقال: "ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق في العلوم يولعون بها ويدونون منها مختصراً في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها باختصار الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن, وصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسراً في الفهم" (المقدمة, د. ت. ص 1232), وقد ضرب أمثلة على ذلك بابن الحاجب في الفقه, وابن مالك في قواعد اللغة العربية, وقد انتقد ابن خلدون ذلك لأن بعض العلوم تحتاج إلى الإطالة والتكرار, لأن فيها مفاهيم ومعان لا يستطيع المتعلم فهمها بدون الإطالة والتكرار, ولأن اختصار العلوم يصيبها بالخلل وتصبح عسيرة على الفهم وخاصة لصغار المتعلمين, لعدم وجود الاستعداد والقدرة لفهم المختصرات. ويقول ابن خلدون أن الاختصار يفسد التعليم ويخل بالتحصيل ويخلط على المبتدئ في التعليم بإلقاء الغايات من العلم وهو لم يستعد لقبولها (المقدمة, د. ت, ص 1232) .
وهذا يوافق الأبحاث التربوية المعاصرة في أن المتعلم يجب أن يستعد للتعلم, وأن لا يرغم على تلقي العلوم دون الاستعداد الكافي, لأن عدم الاستعداد والإرغام يضيع الجهود المبذولة في التعليم (شهيلا, 1961, ص 119) .

6- طرق التدريس :
لم يطلب ابن خلدون من المعلمين استخدام طريقة واحدة في التدريس, وأجاز لهم استخدام الطريقة التي تناسب قدرات وميول وإمكانيات الطلاب لأن التعليم عنده صناعة والصناع يختلفون في طرق صناعتهم, ولكل صناعة طرق مختلفة ويحق للمعلم أن يستخدم كل الطرق أو بعضها لتحقيق الأهداف المرجوة, وهذا الرأي يتفق مع ما يقوله رجال التربية في الوقت الحاضر من أن أحسن الطرق هي التي تناسب المادة الدراسية ومستوى الطلاب, ومع أن ابن خلدون أباح استخدام الطرق التي تناسب المعلم إلا أنه يشجع على استخدام طريقة المناقشة (أحمد, 1982, ص 105) فالتعليم عند ابن خلدون يهدف إلى حصول المتعلم على ملكة العلم حيث يصبح على درجة عالية من الفهم وليس فقط حفظه دون فهم وتعمق, لذا انتقد ابن خلدون الطريقة القيروانية التي كانت في زمانه تركز على الحفظ بشكل كبير, ووصف الطلاب بأنهم يلتزمون الصمت والسكون التام دون مشاركة .

نتائج البحث :
توصل البحث إلى ما يلي :
1-وجود أفكار تربوية عديدة لابن خلدون .
2-أن الكثير من هذه الأفكار التربوية تتفق مع ما تنادي به التربية الحديثة .

توصيات البحث :
في ضوء نتائج البحث نوصي بالآتي :
1-دراسة القرن الثامن الهجري لبيان واقع الحياة في ذلك القرن .
2-دراسة الآراء التربوية للعلماء والمسلمين, وبيان كيفية الاستفادة منها في الوقت المعاصر .
3-دراسة نظام التعليم في القرن الثامن الهجري, مع ذكر الجوانب الإيجابية للاستفادة منها .

المراجـــــع

1-الإبراشي, محمد (1395). التربية الإسلامية وفلاسفتها. مصر: مطبعة الحلبي .
2-ابن خلدون, عبدالرحمن. (د. ت) المقدمة تحقيق علي عبدالواحد. القاهرة: بدون اسم الناشر .
3-أبولاوي, أمين. (1999). أصول التربية الإسلامية. الدمام. دار ابن الجوزي .
4-أحمد, لطفي. (1982). في الفكر التربوي الإسلامي. الرياض: دار المريخ .
5-بلقيس, أحمد وتوفيق مرعي (1987). الميسر في سيكولوجية اللعب. عمّان: دار الفرقان للنشر والتوزيع .
6-الحصري: ساطع. (1953). دراسات عن مقدمة ابن خلدون. مصر: دار المعارف .
7-خضر, فخري. (1982). تطور الفكر التربوي. دار الرشيد للنشر والتوزيع. بدون مكان النشر .
8-الخطيب, محمد ومصطفى متولي ونور الدين عبدالجواد ومحروس غبان وفتحية الفزاني. (1995). أصول التربية الإسلامية. الرياض: مكتبة الخريجي .
9-راجع, أحمد. (1970). أصول علم النفس. القاهرة: المكتب المصري الحديث .
10-الزركلي, خير الدين. (د. ت). الأعلام الجزء الرابع. بدون اسم الناشر ومكان النشر .
11-زياد, مصطفى. (2002). الفكر التربوي مدارسه واتجاهات تطوره. الرياض: مكتبة الرشد .
12-شهيلا, جورج (1961). الوعي التربوي ومستقبل البلاد العربية. بدون اسم الناشر ومكان النشر .
13-عاقل, فاخر. (1983). قاموس التربية. بيروت: دار القلم .
14-عبدالرحمن, عائشة. (1970). تراثنا بين ماضي وحاضر. القاهرة: دار المعارف .
15-عبدالعظيم, صالح. (2006). "ابن خلدون في الخطابات العربية المعاصرة دراسة تصنيفية وتحليلية". مجلة العلوم الاجتماعية. المجلد 34 العدد 3. الكويت: جامعة الكويت. ص 47-83 .
16-عبود, عبدالغني. (1977). في التربية الإسلامية. القاهرة: دار الفكر العربي .
17-عبود, عبدالغني. (1978). دراسة مقارنة لتاريخ التربية. القاهرة: دار الفكر العربي .
18-عبيدات, ذوقان وعبدالرحمن عدس وكايد عبدالحق. (1988). البحث العلمي مفهومه, أدواته, أساليبه. عمّان: دار الفكر للنشر والتوزيع .
19-علي, سعيد. (1978). أصول التربية الإسلامية. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية .
20-علي, سعيد ومحمد الحامد وعبدالراضي محمد. (2004). التربية الإسلامية المفهومات والتطبيقات. الرياض: مكتبة الرشد .
21-عنان, محمد. (1933). ابن خلدون حياته وتراثه الفكري. القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية .
22-مرسي, محمد. (د. ت). تاريخ التربية بين الشرق والغرب. مصر: عالم الكتب .
23-ناصر, إبراهيم. (1989). أسس التربية. عمّان: دار عمار .
24-النجيحي, محمد . (1967). مقدمة في فلسفة التربية. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية .
25-يوسف, أحمد (1955). أسس التربية وعلم النفس. لجنة البيان, بدون مكان النشر .
26-جريدة اليوم. العدد 12227. الدمام .
 

يارب الموضوع يعجبكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق