الخميس، 26 مايو 2016

رؤية ابن خلدون

رؤية ابن خلدون


محمود الذوادي



في الذكري المئوية السادسة لرحيل العلامة عبد الرحمن بن خلدون يستطيع الباحث أن يصافح فكره العمراني علي عدة مستويات تهتم بها العلوم الاجتماعية الحديثة. فاخترنا أن نتوقف عند موضوع سوسيولوجي كتب ويكتب عنه علماء الاجتماع المحدثون باســـتمرار، لنــري مساهمة صاحب المقدمة فيه.

تمثل هذه الدراسة محاولة استكشافية لمعالم فكر ابن خلدون بالنسبة لمفهوم التغيير الاجتماعي، كما تعبر عن ذلك المصطلحات الحديثة للعلوم الاجتماعية مثل مصطلحات التقدم والتطور والتنمية وتصنيف المجتمعات إلي مجتمعات تقليدية traditional ومجتمعات حديثة modern . ولإلقاء الضوء علي الفكر الاجتماعي الخلدوني رأينا من المناسب القيام بمقارنة فكر صاحب المقدمة بالفكر الاجتماعي لعلماء الاجتماع الغربيين الأوائل. وبالتحديد فإن هدفنا النهائي من هذه الدراسة يتمثل في ثلاثة محاور:
1. إبراز المعالم الرئيسية لعلم العمران الخلدوني بالنسبة لظاهرة التغيير الاجتماعي. وهو ميدان لا يزال يحتاج إلي السبر والاستكشاف. ومن ثم فسوف نركز كثيرا في هذه الدراسة علي الفكر الاجتماعي لابن خلدون.
2. القيام بالتعرف علي مستوي التفكير العمراني الخلدوني حول التغيير الاجتماعي ومقارنته بفكر كونت وسبنسر ودوركايم وفيبر.
3. تحديد القوي المؤثرة علي بلورة الفكر الاجتماعي حول ظاهرة التغيير الاجتماعي عند كل من صاحب المقدمة ونظرائه الغربيين.
ورغم العوامل المتعددة، مثل عوامل الزمان والمكان والثقافة، التي جعلت توجه واهتمام هذين النوعين من علماء الاجتماع مختلفين كثيرا عن بعضهم البعض، فإننا مع ذلك نجد هؤلاء العلماء، كما سوف نري، يشتركون في الاهتمام بدراسة التغيير الاجتماعي. إن انشغال علماء الاجتماع بدراسة ظاهرة التغيير الاجتماعي هو أمر مشروع، ما في ذلك شك. فليس هناك من مجتمع إنساني تكون له المناعة الكاملة ضد التغيير الاجتماعي. فالتغيير كان دائما يشكل قوة حياة أو اندثار المجتمعات والحضارات الإنسانية عبر تاريخها الطويل. فعملية التغيير قد أثبتت أنها قادرة أحيانا علي تحويل تلك المجتمعات والحضارات إلي مستوي شامخ من التقدم أو إلي وضع مترد من التخلف. ونظرا لأن دراسة المجتمعات هي التي تستقطب اهتمام علماء الاجتماع فإن دراسة التغيير الاجتماعي تصبح إذن أمرا مركزيا عندهم تصعب مقاومته.
إن الدراسة والتنظير حول تغيير وتطور وتنمية المجتمعات البشرية هما في واقع الأمر تقليد سوسيولوجي عرفته ثقافات مختلفة. وكما سوف نري، فمقدمة ابن خلدون قد أشارت وحللت العوامل المؤثرة في ملامح التغيير في المجتمعات. وقد كانت ظاهرات التطور والتقدم والتغيير الاجتماعي قضايا اهتمام علماء الاجتماع المعاصرين منذ عهد أوغيست كونت.
هل هناك علم اجتماع خلدوني؟
هناك إجماع في الدوائر المعرفية المعاصرة أن كونت وسبنسر ودوركايم وفيبر هم الآباء المؤسسون لعلم الاجتماع الغربي المعاصر. ومن المناسب هنا أن نتساءل عن طبيعة الفكر العمراني لابن خلدون. وبعبارة أخري، هل يمكن وصف الرصيد المعرفي الاجتماعي الضخم الذي تحفل به فصول كتاب المقدمة علي أنه رصيد معرفي تغلب عليه روح التحليل السوسيولوجي بالمعني الحديث؟.
إن الإجابة علي مثل هذا التساؤل يجب البحث عنها في المؤلفات الحديثة كمعاجم وموسوعات وكتب علم الاجتماع. تعرف هذه المراجع السوسيولوجية تخصص علم الاجتماع علي أنه الدراسة العلمية للمجتمع البشري وعلي المستوي المنهجي يعرف علم الاجتماع أيضا علي أنه تخصص تستند معرفته، من جهة، علي معطيات ميدانية (محسوسة) Empirical ، ومن جهة ثانية، علي أسس نظرية.
إن تطبيق هذه التعاريف العامة لعلم الاجتماع الحديث علي المقدمة تجعل ابن خلدون ينتمي بسهولة إلي علم الاجتماع أكثر من انتمائه إلي التخصصات الأخري في العلوم الاجتماعية المعاصرة. فالمقدمة هي عمل فكري يتصف بالتحليل المنظم ـ عبر مفاهيم وقوانين ونظريات عمرانية جديدة ـ للمجتمع العربي الكبير قبل وأثناء حياة صاحب المقدمة. ومن ثم فالمقدمة هي أولا فكر ناضج وذو بصيرة ثاقبة حول حركية (ديناميكية) المجتمع العربي بصورة عامة. وفي الواقع ينظر إليها البعض علي أنها الدراسة السوسيولوجية العلمـــيـــة الشــــاملة الوحيــــدة التي قــــام بها بحاثة عربي حول هذا الموضوع إلي حد الآن.
ثانيا، إن المعرفة السوسيولوجية التي تحتوي عليها المقدمة هي نتيجة مباشرة لملاحظات ابن خلدون وتجاربه المعيشــية في الحضارة العربية التي عاصرها.
ثالثا، يوجد في المقدمة عدد هائل مما يسمي بالنظريات السوسيولوجية الكبري حول المجتمع العربي علي الخصوص: كيف ظهرت الحضارة العربية الإسلامية قوية ثم كيف آلت إلي الضعف والانحلال؟ وماذا كانت أدوار شوكة العصبية وروح الدين في عملية تفكك هذه الحضارة؟ ولماذا يميل القوم المهزومون دائما إلي تقليد غزاتهم؟ ولماذا اتبعت الدول العربية التي درسها ابن خلدون أنماطا قصيرة العمر في النشأة والنمو؟ وهكذا، فعلم الاجتماع الخلدوني ينبغي النظر إليه كمدرسة فكرية سوسيولوجية مستقلة بذاتها بين المدارس السوسيولوجية المعاصرة. ونظرا لرسوخ جذوره في تربة واقع المجتمعات العربية، فإن علم الاجتماع الخلدوني مرشح أن يكون له فهم أفضل لقضايا المجتمعات العربية المعاصرة من المدارس السوسيولوجية الغربية.
وأخيرا، يصف ابن خلدون نفسه فكره في العمران البشري بهذه العبارات: «انحصر الكلام في هذا الكتاب في ستة فصول. الأول في العمران البشري علي الجملة وإضافة وقسطه من الأرض. والثاني في العمران البدوي وذكر القبائل والأمم الوحشية. والثالث في الدول والخلافة والملك وذكر المراتب السلطانية. والرابع في العمران الحضري والبلدان والأمصار. والخامس في البضائع والمعاش والكسب ووجوهه. والسادس في العلوم واكتسابها وتعلمها. وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق علي جميعها كما نبين لك بعد وكذا تقديم الملك علي البلدان والأمصار. وأما تقديم المعاش فلأن المعاش ضروري طبيعي وتعلم العلم كمالي أو حاجي والطبيعي أقدم من الكمالي وجعلت البضائع مع الكسب لأنها ببعض الوجوه ومن حيث العمران كما نبين لك بعد والله الموفق للصواب والمعين عليه».
 
يارب الموضوع يعجبكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق